متغيرات السياسة الخارجية الأميركية
عمر كوش
متغيرات عديدة طاولت توجهات السياسة الخارجية للإدارة الأميركية الجديدة، وذلك في سياق المراجعة التي أخذت تجريها هذه الإدارة فور وصولها إلى البيت الأبيض، وشملت مجمل ما خلّفته السنوات الثماني لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش من كوارث وأزمات وتوترات في مختلف أنحاء العالم، وخاصة فيما تسمى منطقة الشرق الأوسط.
ويمكن الحديث عن نهج جديد آخذ في التشكل يفترق عن الأيديولوجي والراديكالي في التفكير السياسي الأميركي، وتغيب عن مفرداته مصطلحات “الدول المارقة” و”محور الشر” و”نشر الديمقراطية” وفسطاطي الخير والشر البوشيين.
ولن نسارع في الحكم على مدى التغيير الذي أحدثه الرئيس باراك أوباما في السياسة الخارجية الأميركية، لكن يكفي أن ننظر في المسار الذي بدأته إدارته حيال قضايا منطقتنا، عبر الإشارات العديدة التي أخذت تشكل ملامح السياسة الأميركية الجديدة حيال العراق والقضية الفلسطينية وسوريا وإيران وأفغانستان، مع أن ما صدر حتى الآن لا يشكل تحولا كبيرا في النظرة إلى الصراع العربي الإسرائيلي وكيفية حله، رغم أنه يتضمن إشارات تشي بأن الإدارة الأميركية الجديدة تضع مسألة حلّ هذا الصراع بين أولوياتها، وأن تعاملها معه سيُبنى على العناصر التي أفرزتها العملية السياسية خلال الأعوام الماضية، خصوصا مفهوم حلّ الدولتين ومبادرة السلام العربية.
وفي هذا السياق يمكن فهم إقدام الرئيس الأميركي على تعيين السيناتور جورج ميتشل مبعوثا خاصا له في المنطقة فور دخوله البيت الأبيض. وهو رجل عرف عنه مثابرته وجديته في حلّ الأزمات.
وعكست الجولة الأولى التي قام بها جورج ميتشل في المنطقة سرعة تحرك الإدارة الأميركية الجديدة حيال الوضع المتفجر، وأعلنت عن عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى التعامل الجاد مع قضية المنطقة المركزية، الأمر الذي يشي بقراءة جيدة لما يجري فيها، وبحيوية كانت تفتقدها الإدارة السابقة، التي لم تخلّف وراءها سوى الأزمات والإشكالات والاحتقانات.
واللافت هو أن الساسة الإسرائيليين لم يكونوا منذ البداية مرتاحين لمتغيرات الساسة الأميركية، فشككوا في أهداف جولة ميتشل، وفي حدود الصلاحيات الممنوحة له، مع أن أوباما منحه ثقته الكاملة، واعتبره متحدثا باسمه، وأشاد به في حضور وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، واصفا إياه بأنه مذلل العقبات.
كما أن عددا من أعضاء حكومة أولمرت لم يعجبهم وصف الرئيس أوباما مشكلة الشرق الأوسط “بالمشكلة المحورية لأزمات المنطقة”، نظرا لأنهم اعتادوا على التصور الأميركي للإدارة السابقة، الذي يعتبرها إحدى أزمات المنطقة شأنها شأن أزمة لبنان أو أزمة العراق وأزمة إيران.
وبالتالي فإن الأهمية التي توليها الإدارة الأميركية الجديدة تزعج ساسة إسرائيل، خاصة بعد أن أعلن أوباما في حديثه لقناة العربية أن “تركيز الجهود الدولية لحل أزمة الشرق الأوسط من شأنه أن يسهم تلقائيا في حل بقية أزمات المنطقة التي تعد أحد تداعياتها”. إضافة إلى أنه، ومنذ فوز الأحزاب اليمينية بالأغلبية في الانتخابات الإسرائيلية، يدور حديث عن خلاف بين الحكومتين قد يقود إلى تصادم.
ويبدو أن الرئيس أوباما يريد أن يفك أسر السياسة الخارجية الأميركية من المركزية التي بنتها إدارة جورج بوش الابن ومحورتها على مقولة “الحرب على الإرهاب” وجعلت من العراق بؤرة ومسرحا لها، كي يمكنه الذهاب فيها إلى ما هو أبعد من العراق، من خلال البحث عن “خارطة طريق إقليمية” لا تستثني أياً من دول المنطقة، حسبما صرّح بذلك السيناتور جون كيري المقرب من أوباما، وذلك كي يتسنى له الدخول في حوار مباشر مع سوريا وإيران، وربما –فيما بعد – مع حركة حماس وحركة طالبان، من منطلق التمييز بين “المعتدلين” و”غير المعتدلين”، والاستفادة من المحاولة البريطانية في محاورة الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلنديّ، وتطبيقها على “حزب الله”.
كل ذلك هدفه كسر التوتر والاحتقان في منطقة الشرق الأوسط والوصول إلى حلول تؤمن الانسحاب الأميركي “المسؤول” من العراق، وإيجاد مخارج للمأزق الأميركي في أفغانستان، وللوضع المتأزم في فلسطين، وتحويل الملف النووي الإيراني إلى مسألة دولية، بعد أن كانت الإدارة الأميركية السابقة تعتبره مسألة أميركية فقط.
وبالفعل فقد تواترت، في الآونة الأخيرة، زيارات وفود مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين إلى العاصمة السورية، وكان أهمها زيارة السيناتور جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ والمرشح الديمقراطي السابق لانتخابات الرئاسة الأميركية، وتبعها اللقاء الذي جمع بين السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى وجيفري فيلتمان مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ثم جاءت زيارة الأخير برفقة دانيال شابيرو إلى دمشق.
وأعلنت هذه الزيارات واللقاءات عن عودة الاتصالات بين الولايات المتحدة الأميركية وسوريا، منهية بذلك قطيعة سياسية دامت عدة سنوات، ومعلنة نهاية سياسة العزل والعقوبات التي مارستها الإدارة السابقة، وبالتالي يمكن الحديث عن فتح آفاق جديدة في مسار العلاقات الأميركية السورية وعودتها إلى الحوار والتفاهم بعد أن سادها التوتر والمشادات خلال الثماني سنوات المنصرمة.
ولا شك أن أي تقارب بين الولايات المتحدة وسوريا سيغير معطيات المنطقة بصورة كبيرة، خصوصا إن ترافق مع عودة المفاوضات السورية الإسرائيلية برعاية أميركية. ويبقى المطلوب سورياً هو تطبيع العلاقات مع واشنطن، بما يعني عودة السفير الأميركي إلى دمشق وإلغاء قانون محاسبة سوريا ورفع اسمها من لائحة الدول الراعية للإرهاب.
وفي هذا المجال، فإن التجربة الفرنسية تقدم درسا هاما يستحق التفكير والتأمل، من جهة أنها التزمت بدفع الحوار مع سوريا، ولكنها في الوقت ذاته كانت مستعدة لقطعه، وتميزت بتلمّس الفرص غير المرئية عندما تصبح مهيأة وجاهزة. ويمكن للإدارة الأميركية الاستفادة منها، خصوصا أن هناك في الولايات المتحدة من يسعى إلى قطع علاقات التحالف السورية الإيرانية.
ويجب ملاحظة أن سوريا عندما بدأت تلعب ورقة التقارب مع فرنسا أظهرت استعدادا كبيرا لتوسيع تحالفاتها الإستراتيجية. ولا تزال هناك خلافات جوهرية بين الولايات المتحدة والقيادة السياسية السورية، خصوصا فيما يتعلق بتحالفها مع إيران وعلاقاتها مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، إلى جانب النشاط السوري المزعوم في المجال النووي.
ويمكن ربط بداية الحوار وبوادر الانفتاح الأميركي على سوريا مع زيارة جون كيري لقطاع غزة، التي اعتبرها المراقبون بمثابة اتصال غير معلن أو خجول مع حركة حماس، التي سلمته بدورها رسالة إلى الرئيس أوباما.
إضافة إلى أحاديث عن بدء حوار أميركي إيراني، ومطالبات أوروبية ودولية بالانفتاح الواسع على اللاعبين غير الدول، بدءا من حركة طالبان في أفغانستان مرورا بحزب الله في لبنان وصولا إلى حركة حماس في فلسطين. وفي هذا السياق تأتي دعوة الإدارة الأميركية إيران للمشاركة في المؤتمر الدولي المزمع عقده أواخر شهر مارس/آذار لمناقشة الوضع في أفغانستان.
ورغم أن هناك بعض التقارير الصحفية تتحدث عن “صفقة” منجَزَة مع إيران، أو عن أقل من ذلك بقليل، فإن سياسة باراك أوباما حيال إيران تتضمن مؤشرات عديدة على المراجعة والتغيير والتركيب، حيث تسعى الإدارة الأميركية الجديدة، وبالتنسيق مع حلفائها الأوروبيّين، إلى تقديم حوافز جدّيّة لطهران مقابل تخلّيها عن برنامجها النوويّ.
ولم تعد وجهة النظر الأميركية حيال إيران قائمة على اعتبار إيران أحد أهم أضلاع “محور الشر”، بل هناك تعامل جديد يقرّ بمصالحها وحاجاتها ودورها الإقليمي. ويبقى أن هذه النظرة مرهونة –بلا شك- بالتعامل الواقعي لنظام الملالي الإيراني مع تلك الحاجات والمصالح وفق منطق يراعي التوازنات الإقليمية والحساسيات الأمنية لدول الخليج.
وإن كانت الإدارة الأميركية الجديدة لم تستكمل بعد مراجعة سياستها تجاه إيران، فإن الجولة الأولى في المنطقة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قد قدمت مؤشرا هاما على بعض اتجاهات تلك السياسة، حيث كان الملف الإيراني حاضرا بقوة خلال جميع محطات جولتها، بدءا من مشاركتها في مؤتمر شرم الشيخ ثم زيارتها إسرائيل ورام الله، ووصولا إلى بروكسل ومشاركتها في اجتماع دول حلف الناتو، وانتهاء بزيارتها جنيف التي توجتها بلقائها الأول مع وصيفها الروسي سيرغي لافروف.
غير أن اللافت هذه المرة هو أن الموقف الأميركي حيال الملف النووي الإيراني يتلاقى مع تحرك عربي تقوده السعودية لمواجهة “التحدي الإيراني”. وفي هذا الإطار دعا وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى التعاون بين العرب لمواجهة “التحدي الإيراني”، وبالتالي يمكن فهم أجواء التقارب والانفراج في العلاقات السورية السعودية وكذلك السورية المصرية، مقابل تصاعد حدة التوتر والتراشق الإعلامي الذي تشهده العلاقات السعودية الإيرانية على خلفية التصريحات الإيرانية تجاه البحرين، لكن من المفيد عدم تضخم “التحدي الإيراني” عربيا، والاستفادة من أجواء الانفتاح والحوار التي تهب على المنطقة خدمة للقضايا العربية.
ويمكن القول إن مؤشرات التحول في السياسة الخارجية الأميركية الشرق أوسطية مرتبطة بتحول أوسع وأشمل حيال روسيا، حيث بدأت الإدارة الأميركية بالتحرك لإصلاح العلاقات مع روسيا من مدخلين: الأول جورجي، والثاني إيراني.
فقد حمل المدخل الجورجي دعوة صريحة لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى نظرائها الأطلسيين إلى التعامل “بواقعية” مع الدولة الروسية. ولا يمكن عزل هذه “الواقعية” عن اعتراف أميركي “مضمر” بالمصالح الوطنية الروسية، سواء كان ذلك في جورجيا أم في سواها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. لكن لغة المصالح الأميركية هذه المرة متبادلة ومرتبطة بالتسهيلات اللوجستية التي تقدمها روسيا للجيش الأميركي في أفغانستان.
أما في المدخل الإيراني، فتريد إدارة أوباما مقايضة روسيا عبر صفقة أو تسوية، قوامها استعداد الولايات المتحدة الأميركية لتجميد نشر منظومتها للدفاع المضاد للصواريخ في دول أوروبا الشرقية، مقابل تعاونها مع الولايات المتحدة لإقناع إيران بالتخلي عن المشروع النووي، بوصفها بانية موقع بوشهر. ويعوّل الأميركيون على الدبلوماسية في هذا الخصوص وعلى قضايا الاقتصاد والمصالح حسبما أظهرت زيارة هيلاري كلينتون الأخيرة إلى الصين.
لا شك أن إدارة أوباما تبحث عن السبل الأفضل لضمان المصالح الأميركية في المنطقة، وهي مستعدة للتحاور مع “معتدلين” من حركة طالبان وسواها، إن كان ذلك سيساعد في إيجاد إستراتيجية خروج من المستنقع الأفغاني، بعد أن جرّبت الانفتاح على العشائر والحركات الإسلامية في العراق، ونجحت في إشراكها في “العملية السياسية”.
ويعي أركان الإدارة الأميركية الجديدة أن الحرب ليست الطريق الأفضل لضمان المصالح في عالم اليوم، خصوصا بعد المأزق الكارثي في العراق وفي أفغانستان، وما عليهم سوى “مدّ اليد” والحوار مع “المعتدلين” من أعداء الأمس.
الجزيرة نت