حل مجلس الأمة.. وسؤال الديموقراطية
فاخر السلطان
بصدور المرسوم الأميري بحل مجلس الأمة الكويتي فإن سؤال الديموقراطية يطرح نفسه مجددا وبقوة. ومن يقرأ خطاب أمير الكويت الأسبوع الماضي الذي أصدر خلاله مرسوم الحل، سيجد فيه انتقادا شديدا للممارسة الديموقراطية. كذلك من يراقب الهجوم البرلماني – الحكومي المتبادل الذي سبق ولحق حل المجلس سيلاحظ أيضا إلى أي مدى يساهم ذلك في طرح سؤال الديموقراطية.
فقد عبر أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد في خطابه، عن ألمه واستيائه من “الممارسات المؤسفة التي شوهت وجه الحرية والديمقراطية الكويتية”، مضيفا أن “تلك الممارسات قد أفسدت التعاون المأمول بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وأشاعت أجواء التوتر والتناحر والفوضى بما أدى الى تعثر مسيرة العمل الوطني في البلاد وامتدت طويلا وامتد معها صبر المواطنين بلا جدوى”. كما عبر عن حزنه وألمه “بعد أن تجاوزت هذه الممارسات كل الحدود وأضحت سبيلاً إلى استفزاز مشاعر الناس وتحريضهم وسبباً في إذكاء رماد الفتنة البغضاء لعن الله من يوقظها”.
لاتعتبر الديموقراطية آلية للتصويت فحسب لوصول أفراد إلى كرسي البرلمان، إنما تستند إلى انتزاع الحقوق والحريات من خلال تلك الآلية. وللأسف فإن غالبية عظمى من الباحثين وأصحاب الشأن السياسي يقعون في خطأ كبير حينما يلغون المطالبة بالحقوق والحريات منها، ويتمسكون بالآلية فقط، حيث يعكس ذلك فهمهم القاصر والناقص عن الديموقراطية. فهل من الديموقراطية أن يصوّت البرلمان لصالح انتهاك الحريات السياسية والثقافية والاجتماعية؟ هل جاءت لوأد المساواة وعدم احترام حقوق الإنسان؟
إن جميع الديموقراطيات التي تلتزم بالآلية من دون الالتزام بالمحتوى الحقوقي والإنساني، هي إما وراءها جماعات مؤدلجة تؤمن بمطلقها الذي لا مطلق بعده، أو جماعات تزيّف الديموقراطية من أجل تحقيق مكاسب ضيقة لا تمت بصلة لقيم ومفاهيم الحياة الراهنة الحديثة، التي هي قيم ومفاهيم تختلف عن تلك التي كانت سائدة في العصر القديم، عصر ما قبل الحداثة. والكثير من نواب مجلس الأمة الكويتي أثبتوا في أكثر من موقف ومناسبة أنهم أعداء للأسس التي تستند إليها الديموقراطية وأعداء لمفاهيم وقيم الحياة الحديثة، خاصة تجاه تلك التي تطالب باحترام حقوق الإنسان وتدعو لمساواة المرأة بالرجل وتحارب من أجل حرية الفكر والتعبير، بذريعة أن المجتمع الكويتي يقف على أرضية من الثوابت الدينية والاجتماعية التاريخية التي لا يمكن أن تتبدل، رغم أن لكل عصر ثوابته، ورغم أن فهم وتفسير الثوابت التاريخية يختلف من جماعة دينية إلى أخرى ومن نائب سلفي إلى آخر سلفي أيضا. يقول الكاتب عبداللطيف الدعيج في مقال له بالقبس إن إصدار مجلس الأمة الكويتي للقانون رقم 1 لسنة 1982 الخاص بعدم تجنيس غير المسلم هو “تعليق” للمادة 29 من الدستور الكويتي الخاصة بالمساواة، وإصدار قانون فرض الاختلاط يعتبر انتهاكا لحرية التعليم وتعليقا للمادة 40 والتفسير الدستوري لها ناهيك عن انتهاكه المادة 30 “الحرية الشخصية مكفولة”، وتعليق هذه المادة يبدو واضحا في ضوابط الحفلات الثلاثة عشر التي أصر على رفعها للحكومة الكويتية مجلس الأمة، وتمرير قانون وزير الإعلام الكويتي السابق أنس الرشيد الخاص بالإعلام هو انتهاك وتأكيد لتعليق المادة 36 والمادة 37 الخاصتين بحرية الرأي والصحافة والبحث العلمي. إن الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية هي أصل أساسي في الديموقراطية، ولابد للدستور المنظّم للحياة الديموقراطية أن يحتوي على ذلك، ويجب مواجهة كافة الجهود الساعية إلى وأد تلك الحريات أو التقليل من قيمة الإنسان في مواد الدستور وفي القوانين المشرّعة، وإلا ستعبّر الديموقراطية عن آلية فحسب من دون الاستناد إلى الأصل أو المحتوى الرئيسي، وجراء ذلك ستكون نتائج الديموقراطية وخيمة على حريات الناس وحقوقهم، وستصبح مدخلا للوصاية والظلم والاستبداد.
لا يمكن لأنصار الثوابت الدينية والاجتماعية التاريخية أن يتعايشوا مع ثقافة الديموقراطية، كما لا يمكنهم أن ينسجموا مع أسس الحياة الحديثة وقيمها، بل كل ما يستطيعون فعله هو التعايش مع آلية الديموقراطية ليستغلوها بطريقة تحقق لهم أمانيهم التاريخية ومصالحهم الضيقة. لكنهم لن يترددوا في نعت تلك الثقافة بنعوت لا تمت بصلة بالنتائج المترتبة عنها، ليس في صندوق الانتخاب فحسب بل في جميع مشارب المجتمع. فهم يركلونها بمجرد ما تصبح معطياتها في الضد من فهمهم للثوابت الدينية والاجتماعية التاريخية المستندة إلى المطلق الديني المفضي إلى نتائج نهائية. فلا تعايش مع المطلق والنهائي في الديموقراطيات، بل هناك تعايش مع المسائل بنسبية. فجميع قضايا الحياة هي بشرية غير سماوية، ونسبية، وخاضعة لقيم ومعايير أخلاقية متغيرة. فالبرلمانات تعبّر عن بشرية الحياة لا عن سماويتها أو عن إجابات نهائية، ومن يدّع أو يطالب بغير ذلك يجب أن يغادر أسوارها. فمناقشات الديموقراطية هي محصلة تفاعلات الناس وتفسيراتهم المختلفة للأمور والقضايا، ولا يمكن أن يوجد في أحضانها أناس يعبّرون عن ثقافة تعكس الثوابت والمسلمات الدينية والاجتماعية التاريخية التي تنطق باسم المطلق الديني السماوي.
إن البعض يدّعي أن الانتخابات التي تجري في الدول العربية، ومن ضمنها في الكويت، لا علاقة لها بالديموقراطية الحقيقية، وبأنها انعكاس لديموقراطية “منقوصة”، كون المشرفين عليها ومنظّمّيها هم حكومات تريد فراق الديموقراطية اليوم قبل غد. ورغم صحة هذا الادعاء استنادا إلى تاريخ الممارسة الديموقراطية، وبالأخص في الكويت حيث تم الانقلاب على الدستور والديموقراطية وجرى حل مجلس الأمة حلا غير دستوري عامي 1976 و1986 وعلّقت العديد من مواد الدستور المتعلقة بقضايا الحريات واحترام حقوق الإنسان، إلا أن مواقف الإسلاميين من الديموقراطية الحقيقية لا تختلف عن مواقف الأنظمة والحكومات، هذا إن لم تكن تلك المواقف أسوأ. وقد تجلت بعض تلك المواقف بانقلاب التنظيمات الإسلامية على الديموقراطية (المنقوصة وليس الحقيقية) بمجرد الفوز بالانتخابات وحصولها على العدد الأكبر من مقاعد البرلمان، كما ألغت الآخر غير الإسلامي بمجرد استيلائها على السلطة أو البرلمان. والتجربة الإيرانية والسودانية والجزائرية أثبتت أن الديموقراطية بالنسبة إلى الإسلاميين، أو أنصار الثوابت الدينية والاجتماعية التاريخية، ليست سوى وسيلة للتسلق إلى القمة، وبمجرد الوصول تبدأ عملية إقصاء الآخر وتتم إعادة رسم صورة جديدة للحياة السياسية والاجتماعية، صورة ظاهرها وباطنها الاستبداد المستند إلى التفسير الديني التاريخي، أما الديموقراطية فيتم تشكيلها وفق قياسات دينية ماضوية، قياسات دائما ما تناهض التعددية والتنوّع وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان. ولم تصل الأمور في الكويت إلى حد إقصاء الآخر، لكنها برهنت في أكثر من موقف أن الثقافة الديموقراطية وأسس الحياة الحديثة، كحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، ليست ضمن مشروعهم، بل إن النموذج الديني التاريخي يتصدر ذلك المشروع.
إن الإسلاميين غير تواقين بأي حال للديموقراطية الحقيقية، إنما هم تواقون فحسب لآلية انتخابية توصلهم إلى السلطة أو البرلمان من أجل تفعيل غاياتهم البعيدة عن الأسس التي تستند إليها الديموقراطية. وتثبت تجربة الإسلاميين مع العمل النيابي البرلماني في الكويت، وهم الذين مالبثوا أن اتهموا جميع الديموقراطيات العربية بالناقصة، تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنهم في الضد من الديموقراطية الحقيقية، وبالذات حينما يفرز التصويت البرلماني قوانين تتعارض مع التفسير الديني التاريخي، كالموقف من الحقوق الاجتماعية للمرأة (وكأنهم أوصياء عليها)، ومن الترفيه، ومن حرية التعبير، ومن تعديل المادة الثانية من الدستور. فالرأي الديني النهائي والمطلق هو الذي يدغدغ مشاعرهم ويحرك مشاريعهم القانونية، وهو بالنسبة إليهم خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، بل إن متجاوزه يستحق العقاب الدنيوي والأخروي.
فاخر السلطان
كاتب كويتي
ايلاف