الكويت بين ضغوط الخارج وخلافات الاسرة الحاكمة
د. سعيد الشهابي
نادرا ما تتصدر الكويت الانباء العالمية، الا في حالة الأزمات، لسبب أساسي وهو ان الحكومة الكويتية ذات نزعة تتسم بالمحافظة و’التواضع السياسي’ والابتعاد عن إظهار البطولات. ففيما عدا ما جرى لهذا البلد الصغير في 1990-1991 فقد بقي خارج الأضواء الاعلامية، ولم يبرز الا في اوقات حل مجلس الامة. ولسوء حظ الكويت (ذات الحظ الحسن نسبيا مقارنة بأغلب دول مجلس التعاون الخليجي، بسبب ممارساتها الانتخابية) فقد تكرر حل مجلس الامة بوتيرة يندر حدوثها الا في البلدان غير المستقرة.
وقد جاء الحل الاخير بعد أقل من عام على المرة الأخيرة التي تم فيها حل مجلس الامة بقرار اميري، وبعد بضعة شهور على حل الحكومة السابقة. مع ذلك يعتبر الكويتيون هاتين الخطوتين ‘حلا دستوريا’ بمعنى ان الامير قد التزم بنصوص الدستور التي تخوله حق حل مجلس الامة بشرط الدعوة لانتخابات جديدة في غضون شهرين. وهذا ما فعله الامير، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في المرتين. وكانت الكويت قد عانت في السبعينات والثمانينات من الحل غير الدستوري لمجلس الامة، الذي كان مفتوحا، وامتد في الحالتين اكثر من خمسة اعوام. ان بامكان الكويت ان تفتخر بتجربتها الانتخابية التي تواصلت برغم الانقطاعات منذ ‘استقلالها’ عن بريطانيا في 1961، ولكن هذه الازمات قللت من بريق التجربة التي ما تزال، حتى الآن، الأبرز في منطقة الخليج. واذا كانت الازمات السابقة قد ارتبطت بعوامل خارج دائرة العائلة الحاكمة، فانها في المرتين الاخيرتين نجمت عن وجود خلافات بين جناحين داخلها، الامر الذي يجعل حل الأزمة اكثر استعصاء. فقد اصبح رئيس الوزراء الحالي، ناصر المحمد الصباح، مستهدفا من بعض رموز الاسرة الحاكمة بشكل مباشر. ووفقا للمعلومات المتوفرة فان هذه الرموز قادرة على تحريك بعض نواب مجلس الامة، لاستهدافه بالمساءلة حول كل شاردة وواردة من شؤون الدولة. حتى بلغ الامر ان اصبحت الأسرة غير قادرة على الاحتفاظ بتفصيلات النقاشات التي تدور في اجتماعاتها، التي سرعان ما تخرج الى العلن. فهناك ثمانية من اعضاء مجلس الامة، اغلبهم من ممثلي المناطق الخارجية (البدوية) الذين اصبحوا متحالفين مع احد افخاذ عائلة آل الصباح المناوئين لرئيس الوزراء الحالي.
جاء خطاب امير الكويت الاسبوع الماضي بحل مجلس الامة واضحا وقويا، وحظي بقبول واسع بسبب ‘صراحته’ من جهة و’صلابة موقفه’ من جهة اخرى. ووصف الامير الوضع قائلا ان ‘تلك الممارسات قد أفسدت التعاون المأمول بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأشاعت أجواء التوتر والتناحر والفوضى، بما أدى إلى تعثر مسيرة العمل الوطني في البلاد، وامتدت طويلاً، وامتد معها صبر المواطنين بلا جدوى’. هذا التوصيف يعبر عن مرارة شديدة ازاء ما وصل اليه الامر في هذا البلد الخليجي الذي لا يكاد يخرج من التهديدات الخارجية حتى يقع ضحية الخلافات الداخلية، ولا يكاد يحقق قدرا من الوئام الاجتماعي حتى تنخر الخلافات داخل الاسرة الحاكمة في اوصاله، فتؤدي الى حالة من الشلل والجمود السياسي. وثمة تفسير لعمق شعور الامير بالانزعاج، يتمثل بالحرص على ابقاء منصب رئيس الوزراء بعيدا عن المهاترات، لان من يشغل هذا المنصب مرشح لان يصبح وليا للعهد وأميرا في المستقبل. الامر الآخر انه عندما تم فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء قبل بضعة اعوام، كان هناك تفاهم غير معلن بعدم استجواب رئيس الوزراء. ولكن الملاحظ ان النواب المذكورين بالغوا في استهداف ناصر المحمد الصباح بشكل غير مسبوق، فأصبحوا يطالبون باستجوابه حول كل ما يحدث في البلاد وان لم يكن من شؤونه المباشرة. فعندما هدمت قبل ستة أشهر لجنة إزالة التعديات على أملاك الدولة مصلى بتبرير أنه غير مرخص، طرح النائب محمد هايف (المحسوب على المجموعة المذكورة) طلبا لاستجواب رئيس الوزراء، مع ان العرف يقتضي مساءلة وزير الاوقاف المعني بالامر بشكل مباشر. فهناك اكثر من 75 مسجدا بنيت على اراض عامة بدون ترخيص. فاذا صدر قرار بهدمها عرضت القضية وكأنها اعتداء على المساجد. وطلب فيصل المسلم، استجواب رئيس الوزراء حول مصروفات ديوانه رغم أنه محال إلى النيابة من قبل رئيس الوزراء نفسه، مع ذلك استمر الحديث عن القضية مع ان العرف يقتضي عدم مناقشة القضايا التي ينظر فيها القضاء كي لا تؤثر على سير القضية. أما القضية الأخرى، فهي تلويح البعض باستجواب رئيس الوزراء بدلا عن وزير الصحة عندما توفي مولود بطريق الخطأ في مستشفى الجهراء.
الواضح ان هناك حالة من الاستقطاب السياسي لم تشهدها الكويت من قبل. وهناك قلق من وجود اجندات تطرح محليا بدفع خارجي. فهناك نواب محسوبون على التيار السلفي الموالي لجهات خارجية خليجية معروفة بعدم ارتياحها لأية ممارسة انتخابية على غرار التجربة الكويتية. ويشعر بعض الكويتيين بان ثمة اجندة لبعض أجنحة العائلة المالكة السعودية، ربما بتعاون مع بعض الجهات الامريكية، لابقاء الكويت في حالة اضطراب داخلي متواصل لتعطيل ممارستها الانتخابية بعد ان اصبحت السعودية مطالبة باصلاحات داخلية تؤدي الى تطور ملموس في جوانب المشاركة السياسية. وأدى استجواب رئيس الوزراء في الحكومة السابقة (ناصر المحمد الصباح نفسه) إلى استقالة الحكومة قبل السابقة بسبب محاضرة القاها عالم دين ايراني، محمد الفالي، كانت مثار جدل في بعض الاوساط، مع انها قضية هامشية اذا قيست بمهمات رئيس الوزراء ومسؤولياته. وهنا تطرح تساؤلات كثيرة حول ديناميكية التطور الاجتماعي ومدى انعكاسها على الممارسة الانتخابية، ومدى توفر الاستعداد النفسي والفكري للعمل السياسي المشترك، ليس على المستويات الاقليمية، بل على الأصعدة المحلية. ومن الضرورة بمكان محاولة احداث مقاربات بين الممارسات الديمقراطية في البلدان الاخرى وما يمارس في البلدان العربية والاسلامية بلحاظ التعددية في الاعراف والثقافات والانتماءات الدينية. انها اشكالية ما تزال الكويت تعيشها، برغم مرور قرابة نصف القرن على تجربتها الانتخابية. والواضح غياب آثار عملية للتجربة السياسية التراكمية التي تضيع في خضم اوضاع تتسم بقدر كبير من التعقيد والتداخل الاجتماعي والفكري والمذهبي. فاذا كانت التجربة الكويتية ما تزال تتلمس دربها بعد هذه الفترة الزمنية كلها، فما نصيب دول الخليج الاخرى من امكانات التحول الى انظمة ديمقراطية؟ خصوصا مع وفرة العوائد النفطية التي تعتبر من اسباب فساد الاوضاع السياسية. لقد كان امير الكويت واضحا هذه المرة في مواقفه. فهو من جهة يعلن التزامه بدستور البلاد بدون تردد او تراجع. ومن جهة اخرى يحمل المجموعات الآنفة الذكر مسؤولية هذا التداعي في الصف الوطني، وما يعتبره ‘تأثيرا سلبيا’ على الممارسة الانتخابية والدستورية. ومن جهة ثالثة فبرغم كبر سنه، فقد طرح خطابا يتوفر على صلابة في الموقف ووضوح في الرؤية، واستيعاب لديناميكية العمل السياسي في مجتمع فيه الكثير من البداوة والعصبية والانتهازية.
التيارات السياسية في الكويت اعلنت في اغلبها عن ارتياحها لقرار حل مجلس الامة مع علمهم ان تكرار الحل يفقد هذه المؤسسة شرعيتها الدستورية والسياسية. فالليبراليون والسلفيون والنواب الشيعة وقفوا مع الحكومة، واعتبروا خطاب الامير متوازنا، واستعدوا لخوض الانتخابات المقبلة. اما الحركة الدستورية (الاخوان المسلمون) فمترددون في موقفهم خصوصا بعد رفض محمد العليم، وزير الطاقة الأسبق، العودة للحكومة المستقيلة إثر خلاف مع الحكومة. هذه الموافقة قائمة على اعتبارات عديدة: اولها ان من الضروري اخراج البلاد من وضع تحكمه الحسابات الفئوية بعيدا عن روح الدستور او القدرة على العمل المشترك ضمن اطر محددة. ثانيها: شعور الكثيرين بوجود جهات خارجية غير راضية عما يجري في الكويت، وتسعى لافشال تجربتها السياسية الممتدة على مدى نصف قرن. الامر الثالث اقتناع اغلب النواب بعبثية المطالبات المتواصلة لاستجواب رئيس الوزراء، وان ذلك يخدم اجندات خارجية وليس من ضمن اولويات القوى المحلية الفاعلة. رابعها تعمق الاحساس بضرورة الارتفاع بالممارسة السياسية لتكون قادرة على تطوير نفسها وعدم الجمود على الموروث السياسي الذي يبلغ عمره قرابة نصف القرن. رابعا ان البلاد بحاجة لوقفة مع النفس للنظر في عدد من الامور ذات الصلة بالوضع الكويتي في صميمه: اولها الاوضاع الاقتصادية الدولية التي تشهد تداعيا ومشاكل متواصلة، الامر الذي يستدعي يقظة اكبر. وقد خصصت الحكومة اربعة مليارات لشراء ديون الشركات، لمدة 15عاما، ولكن هناك مطالبة بشراء ديون المواطنين ايضا لتخفيف العبء عليهم. الخطة الحكومية لم توضع موضع التنفيذ بسبب السجال المتواصل بشأنها من جهة وحل المجلس من جهة ثانية. ثانيا: ان الكويت، برغم علاقاتها الطيبة مع الدول الثلاث الكبرى المحيطة بها: ايران والعراق والسعودية، فانها تعيش هاجس الخوف من الخارج، ايا كان. هذا مع التأكيد على متانة علاقاتها التي ادت الى اول زيارة يقوم بها وزير خارجيتها للعراق منذ ازمة 1990.
الواضح ان امير الكويت اتخذ قرارا صعبا لاحتواء الازمة التي انطلقت هذه المرة من داخل الاسرة الحاكمة. ولكن قرار حل البرلمان ينطوي على عدد من الامور. اولها ان تكرار حل المجلس على فترات متقاربة أضعف بريق التجربة البرلمانية وفتح الباب للكثير من التساؤلات عن مدى مواءمة التجربة مع عقلية الحكم في البلدان الخليجية. الثاني ان نتائج الانتخابات المقبلة غير مضمونة، خصوصا في المناطق الخارجية التي تم تجنيس افرادها في السبعينات والثمانينات كاجراء سياسي لاحداث توازن مع المجتمع الكويتي ذي النزعة الاستقلالية وما تنطوي عليه من توجهات لمواجهة حكم الأسرة. ثالثها: ان اعداء الانفتاح السياسي في الدول المجاورة يتربصون بالتجربة ويقدمون السجال الداخلي الذي لا ينتهي مبررا لاستمرارهم في ممارسة الحكم التسلطي. رابعها: ان التجربة الانتخابية الكويتية تحتاج لتطوير حقيقي يؤدي الى تعيين رئيس وزراء من بين المواطنين وليس من أسرة آل صباح الحاكمة. وقد كان الفصل بين ولاية العهد ورئاسة الوزراء خطوة مهمة اتخذت قبل بضع سنوات، ويعتبر التراجع عنها حاليا من الخطوات السلبية التي تدفع التجربة الى الوراء. خامسها ان هناك حتى الآن عزوفا عن المشاركة في الانتخابات، على عكس ما كانوا عليه سابقا، وذلك بسبب الاضطرابات التي شهدتها التجربة. يلاحظ ذلك ايضا في التفاعل الفاتر على صفحات الاعلام، وفي التساؤلات المتواصلة حول ما اذا كانت الانتخابات سوف تتم على اساس الدوائر الخمس او العشر، لان ذلك سوف يحدد فرص افراد كالذين أفرطوا في استهداف رئيس الوزراء بدوافع مختلفة عن الوقائع. سادسها: ان حالة الاحباط التي تهيمن على عدد من النواب دفعت الى خطاب سلبي عموما، انعكس في التصريحات والكتابات من جهة وفي صياغة تحالفات سياسية جديدة. هذا لا يعني ان التجربة الكويتية سوف تلغى بسبب هذه التعرجات في الخريطة السياسية والممارسة الانتخابية، ولكن وجود قوى خارجية متربصة بالتجربة، من شأنه الضغط على الوضع الداخلي واضعاف الحماس لمسايرة التجربة من قبل المواطنين او تطويرها من جانب الحكم. يضاف الى ذلك ان ثمة عاملا آخر اصبح مثارا لقلق الكثيرين، يرتبط بمسألة الاستخلاف. فتعيين ولي العهد رئيسا للوزراء له جانبان: الاول انه تراجع عما اعتبر وقتها ‘تطويرا’ للتجربة، اي فصل رئاسة الوزراء عن ولاية العهد، والثاني تعريض منصب ولاية العهد لمساءلات النواب على النمط الذي حدث في مجلس الامة المنحل. وهذا من شأنه اضعاف بريق المنصب من جهة واضعاف الثقة في قدرة النظام على تحديث نفسه.
مجلس الامة الذي سوف ينتخب خلال الشهرين المقبلين غامض الهوية والتوجه. هذا بسبب تباين المواقف والآراء في اوساط المجموعات السياسية المختلفة. الامر المؤكد ان التجربة الكويتية تحتاج الى تطوير على عدد من الأصعدة: اولها وضع ضوابط لتنظيم سلطة حل المجلس المنتخب لكي لا تتكرر تجربة السنوات الاخيرة التي تم حل المجلس فيها عدة مرات. ثانيها: الحفاظ على فصل رئاسة الوزراء عن ولاية العهد بشكل حاسم ودائم، وذلك بتعيين رئيس وزراء من بين الاعضاء المنتخبين. ثالثها: السماح باستجواب رئيس الوزراء كمبدأ بغض النظر عن دوافع المتقدمين بطلب الاستجواب. واخيرا فان من شروط نجاح التجربة تحميل الاعضاء المنتخبين مسؤولية الحكم، وهذا يقتضي زيادة مضطردة لعدد الوزراء من الاعضاء المنتخبين، وحينها سوف يتحتم عليهم تحمل اعباء السلطة التنفيذية بشكل يدفعهم باتجاه تفكير واقعي وهم يسعون للتشريع والمحاسبة. ان ريادة التجربة الكويتية تحتاج الى تطوير متواصل لتكون مثالا يمكن تعميمه على بقية دول مجلس التعاون الذي استعصى حتى الآن على محاولات الاصلاح والانفتاح وتقنين الشراكة المجتمعية في الشأن السياسي.
القدس العربي