دينامية مدهشة حقاً لبلاد الرافدين
د. ثائر دوري
كتبت الكاتبة نهلة الشهال مقالأ بعنوان “الدينامية المدهشة لبلاد الرافدين” الحياة 08/02/09. تشيد به بالانتخابات التي جرت في العراق مؤخراً فتصورها على أنها انتصار للقوى العلمانية على الطائفية، وعلى أنها تغيير إيجابي مذهل في بلاد الرافدين، ودليلها “….جرى الانقلاب على الإطار الطائفي الذي كان يبدو متحكماً بالكامل في الحياة السياسية “، و فوز قائمة علاوي يزيد الأمر تأكيداً حسب السيدة نهلة “ويتأكد منحى كنس الانقسام على أساس طائفي في عودة أياد علاوي، البعثي السابق، والشيعي المولد، والليبرالي الهوى، والعلماني المتشدد، إلى المسرح وذلك في المركز الثاني بعد الدعوة..”. ويزيد الأمر تأكيد “..غياب لاعبين كانا حتى فترة قريبة يحتلان المشهد برمته: الأميركيون الذين غابت قواتهم عن شوارع العراق أثناء الانتخابات، وبدوا غير متدخلين فيها، أو بالأدق بدا الواقع متجاوِزا لهم. وقد ساهم في ذلك بالتأكيد رحيل إدارة بوش ووقوع الانتخابات في الفترة الانتقالية للإدارة الأميركية “. و أخيراً تضرب السيدة نهلة الشهال ضربتها التي تحسبها قاضية جامعة مانعة لإثبات فكرتها عن الانتخابات فتشير إلى الكوتا النسائية “وهنـــاك أخيراً الكوتا (الحصة) النسائية التي لا بد من تسجيل تنفيذها، حيث تحتل إجباريا النساء 25 في المئة من المقاعد”. وهذا تكرار فج لأفكار الحداثة المنشورة بدبابات الاحتلال وقد حسبنا أن السيدة نهلة الشهال أذكى من أن تقع في هذا المطب فتتبنى خطاب الحداثة الاستعماري.
لسنا بوارد مناقشة هذه المقالة و ما ورد بها سوى أن نشير إلى أن مضمونها يتساوق مع حملة إعلامية مركزة حاولت أن تسوق تلك الانتخابات، فتصورها كانتصار للشعب العراقي، وتتوج الناجحين بها كأبطال رغم أن شيئاً لم يتغير على الأرض فالجيوش الأمريكية ما زالت هي التي تتحكم بكل شيء، والمحاصصة الطائفية بين الأحزاب الطائفية ينظمها دستور طائفي أقرته حكومات الاحتلال، ومن لم يكن طائفياً كان عميل مخابرات كحال السيد علاوي بتصريحه الشهير عن تعامله مع عشرات أجهزة الاستخبارات في العالم، والغالب أن يجمع المنخرطون في العملية السياسية المجد من طرفيه: الطائفية والعمالة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، وأما مستقبل نفط العراق فتم تسليمه للولايات المتحدة بواسطة الاتفاقية التي وقعها السيد المالكي نفسه، الذي حولته بعض وسائل الإعلام إلى رجل دولة علماني رغم أنه ينتمي إلى حزب ديني وطائفي. وإذا نحينا جانباً المساحيق الذي حاولت وسائل الإعلام عبرها رسم صورة جميلة للوضع في العراق نرى أن الاحتلال الأمريكي ما زال هو المسيطر على الأرض والسماء والماء والنفط والقوة الوحيدة الخارجة عن سيطرته هي المقاومة بأقسامها كافة العسكري والمدني بالرفض الصامت أو الناطق للاحتلال، وما عدا ذلك هم أكياس رمل أو مشروع أكياس رمل ومتاريس لجنود الاحتلال! وأخيراً وليس آخراً فإنه وقياساً لانتخابات أخرى نظمها الاحتلال فإن هذه الانتخابات تعتبر أفشل من سابقاتها استناداً إلى نسب المشاركة كما أعلنتها حكومة الاحتلال نفسها!
ومع ذلك فإن العنوان الذي اختارته السيدة نهلة الشهال مشوق ويعبر عن حقيقة بلاد الرافدين بعمق واختصار، لكن ليس بالمعنى الذي قصدته السيدة نهلة، بل باتجاه آخر فبلاد الرافدين التي عاشت منذ عام 1980 وحتى 2003 ثلاثة حروب مدمرة، حربان منها بمستوى حرب عالمية، حيث تداعى على هذا البلد عام 1991 سبع وثلاثون جيش وأمة، ثم عانى من حصار ظالم مرير لثلاثة عشر عاماً مُنع عنه فيها حتى حليب الأطفال وأقلام الرصاص، وبعد ذلك جاءت صفحة الغزو والاحتلال حيث حشدت الولايات المتحدة كل قواتها وأسلحتها ومرتزقتها كالقروش الذين جذبتهم رائحة الدم العراقي فجاءوا لينهشوا. لكن الدينامية المدهشة لبلاد الرافدين التي قاومت الدمار بعد حرب 1991، وأعادت خلال شهور بناء ما دمرته تلك الحرب من جسور ومحطات كهرباء وبنية تحتية، ثم قاومت الحصار عبر الاستغناء عن المستوردات بالتصنيع المحلي و ابتكار حلول إبداعية للمشاكل اليومية. استطاعت هذه الديناميكية أن تنتج مقاومة حطمت الجيش الأمريكي ومرغت سمعته بالوحل وبأسلحة متوسطة وخفيفة، ففرّت الضباع بعد أن اكتشفت أن الفريسة التي جاءت تنهش لحمها لم تمت بل هي حية تقاتل، فشاهدنا انهياراً اقتصادياً أمريكياً كان لسواعد المقاومين الدور الأكبر في إحداثه. ولم تتوقف الديناميكية المدهشة لبلاد الرافدين عند هذا الحد بل تحولت إلى ميدان اختبار للسياسيين وللمثقفين. ميدان يكشف المزيف منهم من الحقيقي، فكم من سياسي تشدق بالوطنية فتكفلت نقطة واحدة من مياه بلاد الرافدين بكشف حقيقته، وآخرهم ذاك السياسي الذي صدع رؤوسنا طيلة السنوات الست الماضية بتحليل طبيعة الاحتلال والدعوة إلى المقاومة الشاملة بدل تلك الجزئية، وأن لا حل إلا بمؤتمره التأسيسي فإذ به يذهب إلى المنطقة الخضراء ويكتشف أن رجال دولة يسكنون بتلك المنطقة المحمية بحراب الاحتلال. ويدعو لعقد مؤتمره التأسيسي هناك وفي 9 نيسان تاريخ احتلال عاصمة بلده!
حقاً تملك بلاد الرافدين دينامية مدهشة. مدهشة لأنها كشفت الموبقات كلها، وفضحت الانتهازيين والخونة، وسرّعت من تداعي أمريكا.