صفحات العالم

القمة العربية والقدرة على إدارة الاختلاف

محمد الرميحي
تبدأ مساء الغد أعمال القمة العربية في الدوحة، وهي قمة اختلفت حولها التحليلات، فرأي يقول إن العرب أخيرا استطاعوا أن يديروا خلافاتهم بشكل ناجح نسبيا بعد عدة لقاءات قمة للتوافق منذ مؤتمر الكويت الاقتصادي في يناير الماضي، إذ عُقدت بجميع مكوناتها على مستوى القادة.
ورأي يقول إن الحروب تبدأ وتنتهي إلا الحرب العربية الباردة، فهي مستمرة ومتغيرة التحالفات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، ومنذ أن عرف العرب الاستقلال وحكمَ أنفسهم، وهو الرأي الأرجح في ظل الخلاف المستحكم.
من يستعرض العلاقات العربية العربية منذ القمة الأولى العام 1964حتى اليوم يجد أن التحالفات الداخلية العربية متغيرة من حيث الأطراف الداخلة فيها، ولكنها دائما موجودة تتمحور حول معسكرين على الأقل متضادين تماما. اليوم هناك معسكر الممانعة ومعسكر الاعتدال، قبله كان معسكر الرفض ومعسكر القبول، وقبله أيضا معسكر السلام ومعسكر الحرب. تختلف التسميات إلا أن الديناميات هي نفسها، وتؤدي إلى عدم القدرة على إدارة الاختلاف إدارة حضارية، والتعثر الدائم في رصّ الصف العربي يجعل ذلك الصف هشّاً ومخترقاً، ودائما نجد أن صلب الاختلاف المزايدة السياسية ونفي الآخر، متناسين الحكمة التي تقول إن لله عباداً متى ما أرادوا أراد.
دول أخرى تقوم بإدارة الاختلاف فيما بينها بشيء من النجاح، إلا الإقليم العربي من بين أقاليم قليلة في العالم هو دائم التوتّر.
ما يواجه العرب في الدوحة اليوم ليس بالقليل، فبجانب غياب أطراف عربية فاعلة، هناك طبعا القضية الفلسطينية التي يختلف أبناؤها إلى حد الاقتتال، وتصفية طرف للطرف الآخر حتى بالقوة المفرطة، وبتدخل عربي نصرة لهذا الطرف أو ذاك، وهناك الموضوع السوداني الذي يهدّد، ليس وحدة السودان فقط، بل وانهيار منظومة الأمن في جنوب مصر، وتأثير ذلك في الأمن العربي من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر، وهناك التدخل أو الرغبة في منع التدخل في الساحة اللبنانية، ومحكمة قتلة الرئيس الحريري الدولية، وتأثيرها في منطقة الشام بأسرها، وهناك الوضع الهش في العراق، والمتدهور في الصومال الذي حوّل بعض الصوماليين إلى عمل إرهابي له علاقة بالقرن التاسع عشر، وهو القرصنة البحرية، وهناك الاختلاف حول دور ومكانة إيران تجاه المنظومة العربية، والاصطفافات العربية المتناقضة حول هذا الدور والمكانة الممكن قبولها للجمهورية الإيرانية والتي تثيرها على الساحة العربية، حيث تنظر الجمهورية الإيرانية للمنطقة على أنها منطقة رخوة للتأثير الإقليمي والدولي.
ذلك عدد من محاور التناقض العربي العربي الحالي، الذي يقود إلى التدخل الخارجي أو الاستقواء بقوى خارجية.
هذا عدا عاملين هامين، خارج تأثير الدولة، يتداخلان في نسيج السياسة العربية، الأول هو الوضع المالي الدولي المتدهور، وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية على المنظومة العربية ككل من حيث التراجع في دخل الموادّ الخام، خاصة النفط والغاز، إلى درجة يتهدّد معه السلم الأهلي الداخلي، والثاني هو استمرار ظاهرة التشدّد والغلو في الداخل العربي الذي يفعل فعلين، الأول سحب السياسات الداخلية باتجاه المحافظة، بل والتزمّت، اتقاء لردود فعل شارع سياسي يميل إلى النكوص، والثاني تقوية وسائل الردع الأمني مما يستنزف موارد هي قليلة، والأكثر نفعا لو استخدمت في قنوات التنمية.
محصلة السياسة العربية من خلال التوافقات المؤقتة أنها تسافر إلى مسافات قصيرة، فهي لا تحمل نفَساً طويلا للسفر إلى مسافات طويلة أو إستراتيجية، إلى درجة أنه لو سقط العالم كله من حولنا، فإن صراعاتنا في الشرق الأوسط سوف تستمر، وهي تتمحور حول صراعات دينية وإثنية وحدودية وفئوية ومصالح متغيرة بل وشخصية. المستغرب أن كل ذلك يحدث في ظل عالم تبرز الحاجة فيه إلى إحلال التعاون بدلا من الشقاق.
هذا الوضع العربي الضعيف والمفكّك يسهل اختراقه من قوى إقليمية وعالمية بسهولة ويسر، في غياب وصفة هي بمثابة الصمغ المطلوب لربط المصالح العربية بعضها ببعض. المؤلم في كل هذا أن التدهور في الصف العربي لا يتوقف عند حدود دول بعينها، فتأثيره السلبي ينتقل من مربع إلى آخر انتقال العدوى.
قمة الدوحة هي في الحقيقة تبحث عن استقرار اللااستقرار، وهي بحد ذاتها حلقة في سلسلة لم تظهر للعيان بعد محطتها الأخيرة.

أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى