صفحات العالم

عرب في قمة الدوحة

جميل مطر
قبل أيام من انعقاد الدورة الماضية لمؤتمر القمة العربية دعت أجهزة مسؤولة كبيرة في سوريا عدداً محدوداً من المتابعين للشأن العربي للاستماع إلى آرائهم واقتراحاتهم. كان الجو العربي ملبداً بخلافاته المعتادة وكان المتوقع أن يمتنع عن المشاركة في القمة عدد لا بأس به من الدول العربية وبخاصة مصر والسعودية. لم يكن سراً أن بعض الأطراف الممتنعة عن المشاركة عاقد العزم على أن تكون هذه القمة آخر خطوة في الجسر الموصل إلى عزل سوريا. ولم يكن سراً، بل كان على العكس، هدفاً معلناً من جانب القيادة السورية أن تخرج سوريا من هذه القمة بأقل الخسائر الممكنة، ويا حبذا لو أمكن لدمشق أن تستثمر هذه القمة فتعود بخطاها وبخطى آخرين على جسر العزلة إلى بدايته، ومنه إلى الدور الفاعل والمؤثر في الأوضاع الإقليمية.
ركز محور الغضب على سوريا حملته لعزلها كلية عن تطورات الشأن اللبناني. ومن باب الصدفة، أو المواءمة، كان الاتحاد الأوروبي في أوج غضبه على سوريا، وكانت الولايات المتحدة مستمرة في تصعيد عقوباتها، مرة بسبب أسلحة وصلت إلى المقاومة، ومرة بسبب تجديد سوريا آليات تدخلها في لبنان وتطويرها لأساليب هذا التدخل. والجميع، أمريكيين وأوروبيين وغاضبين عرباً، لديهم رغبة قوية في أن تدفع سوريا ثمناً مناسباً لدعمها المباشر لحزب الله في دفاعه عن جنوب لبنان ضد الغزو “الإسرائيلي”، ودعمها غير المباشر، بسبب انقطاع الجغرافيا، لحماس في غزة والفصائل الوطنية والفصائل غير المنتفعة مادياً ونفوذاً من العمل في خدمة عملية السلام، أو الاحتلال “الإسرائيلي”.
وبسبب اقترابي من تطورات الأوضاع في دمشق وبيروت وبعض عواصم الخليج واطلاعي بشكل غير مباشر على كثير مما دار في أروقة القمة، استطعت فور انتهاء أعمالها أن أتوصل إلى الاقتناع بأن سوريا بدأت العودة من نقطة كادت عندها تخطو آخر خطواتها نحو الانعزال أو العزل واستأنفت التأثير في ما حولها بل ومضيفة دوائر أبعد من الدائرة التقليدية، فراحت إلى أبعد من تركيا في اتجاه روسيا، وإلى أبعد من فرنسا في اتجاه بريطانيا وألمانيا، وإلى أبعد من الأنبار في اتجاه بغداد وإلى أبعد من بيروت في اتجاه واشنطن ونيويورك.
لا أقول انقلب السحر على الساحر، فلم يكن في الأمر سحر ولا سحرة، إنما وقعت تطورات دولية وإقليمية لم تكن في حسبان مختلف محترفي “الألعاب” العربية المأثورة. استمرت القمم التشاورية في محاولاتها تحقيق العزلة السورية. حاولوا إخراجها من قضية صراع السلطة في فلسطين بين قوى مقاومة الاحتلال وقوى مسايرة الاحتلال. وحاولوا دفع إيران نحو وضع يتعين عليها عنده أن تثبت اختيارها موقع العداء للعرب أو إصرارها رفض هذا الاختيار. وحاولوا تحريض فرنسا على ممارسة مزيد من دبلوماسية التحرش والمواجهة مع النظام الحاكم في سوريا. تعددت المحاولات واتضح في نهاية الأمر لبعض المسؤولين والمراقبين العرب وفي الغرب أيضا أن نظام القمم التشاورية وحده غير كاف لتسيير النظام العربي، وبخاصة بعد أن تكررت الإشارات إلى أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية صارت كالمنحشرة في وضع بالغ الحرج، بدت فيه، حسب تعليقات سياسية وإعلامية متعددة في دول المغرب ولبنان والأردن، كما لو كانت في وضع الإذعان لجماعة “متميزة” من الدول العربية، وغافلة أو متجاهلة العدد الأكبر من الأعضاء.
يبدو جلياً لنا أن القمم التشاورية بقدراتها الذاتية وعشوائية اجتماعاتها وغلبة الأهواء والحزازات الشخصية على بعض قراراتها أضعفت المحور الغاضب وربما الجماعة التشاورية، بأسرها بل أتصور أنها كانت وراء الضعف الذي أصاب الدور الإقليمي لكل عضو على حدة. فالتراجع المصري في لبنان كان عاملاً في تراجع الدور السعودي، وفي مرحلة لاحقة عندما حاولت مصر لعب دور ولو محدوداً في لبنان وجدت نفسها متراجعة وغير مرحب بها على عكس ما تعودت عليه في ماض غير سحيق. حدث هذا بسبب التراجع الذي ألمّ بالدور السعودي في مرحلة معينة من مراحل الأزمة اللبنانية. فشلت القمم التشاورية في قيادة النظام العربي وفشلت في تسوية أو حتى تهدئة قضايا مثل الصومال والسودان. وأضعفت أدوار ومكانة أعضائها بدلاً من أن تضيف إلى قوة كل عضو وتزيد نفوذه.
وكالعادة، أو حسب الأعراف الموروثة عن العلاقة شبه الأسطورية بين النظام الإقليمي وقيادة النظام الدولي، تدخلت القوى الخارجية لفك العقد المستعصية. لم يكن ممكناً بحال من الأحوال استمرار الاعتماد على هذه القمم وحدها لتقديم حلول مناسبة تضمن انسحاباً لائقاً للقوات الأمريكية من العراق. ولم يكن ممكناً أن ترهن إدارة باراك أوباما إرادتها لنسق من التفاعلات العربية يقوم أساساً على فرضية أن الخلافات العربية هي القاعدة في النظام العربي وليس الوفاق أو العلاقات الطبيعية. أعرف واحداً من حاشية أوباما نصحه أن يبدأ مهمته في الشرق الأوسط بفرض الوفاق على الدول العربية والتهديد بمعاقبة من يعود إلى إثارة الخلافات، وفي حالة ما ثبت للإدارة أن الهدف مستحيل التحقيق عملياً، فليبدأ أوباما بفرض المصالحة على دول القلب العربي، أي بدول المشرق ومصر. نصحه أيضاً بأن يشجع أفكاراً أوروبية تسعى لتجميد أو على الأقل تأجيل حل المسألة اللبنانية ويدخل في ذلك محكمة الحريري والسباقات الدولية والإقليمية التي تجري في لبنان استعداداً للانتخابات، ونصحه بأن يتمنى على مصر تهدئة أعصابها مقابل مساعدتها في تنشيط دورها في الشرق الأوسط، وبخاصة في إقليم غزة والعراق ودوائر نشاط خليجية محددة بدقة شديدة. وختم المستشار حديثه قائلاً إنه مع آخرين أوصوا بضرورة توجيه رسالة إلى كل العرب تقول بصراحة مطلقة إن أمريكا لن تسمح بجرها إلى حرب أو توترات جديدة في المنطقة العربية، ولن يجبرها أحد على الضغط على “إسرائيل”، ولن تشجع الدول العربية على العودة عن قرار التطبيع مع “إسرائيل”، وتريد منهم جميعاً استمرار التعاون مع تركيا وإلى حدود أبعد.
في هذا الإطار كان يجب أن تبدأ الدول العربية مسيرة المصالحة وتصل إلى نهايتها قبل أن تنعقد قمة الدوحة، لولا أن مصر، وإن قبلت المصالحة من حيث المبدأ وشاركت في المسيرة، إلا أنها بقيت على إصرارها ألا تأتي المصالحة على حساب دور لها لم يكتمل بعد في فلسطين، وخصومة شبه شخصية لا صلح ممكناً فيها مع إيران، وعتاب لا اعتذار مناسباً له مع قطر “الرئيس القادم للأمة العربية لمدة عام على الأقل”.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى