مصالحات الوقت الضائع
جهاد الرنتيسي
تتجاوز تحركات تلطيف اجواء ما قبل قمة الدوحة الترتيبات الآنية العابرة ، فهي لا تخلو من مؤشرات على تحولات اقليمية تحدث ، واخرى في طور التبلور ، والحفر العميق في ذهنية عربية عاجزة عن الخروج على نمطية مساراتها التقليدية .
فالزيارات المكوكية التي اعقبت قمة الرياض الرباعية اقرب الى جبل الجليد العائم ، الذي تطفو قمته على السطح ، وتخفي المياه قاعدته .
وتتسع قاعدة جبل الجليد لادوات فرز جديدة ، وخرائط سياسية مختلفة ، ومقدمات تقود الى اعادة النظر بالشكل الراهن للنظام الرسمي العربي .
تطور الخلاف الرسمي العربي حول الموقف من ايران ، ودورها في المنطقة ، والخطر الذي تمثله على الامن العربي ، يأخذ شكل عصب المقدمات ، وان لم يكن اداة الفرز الوحيدة .
ففي التحركات التي شهدتها المنطقة خلال الايام الماضية اخذ الاحتجاج الرسمي العربي على التدخلات الايرانية منحى جديدا .
تمثل هذا المنحى في اطار الاستياء الذي حدده وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل حين تحدث عن منازعة ايران النظام الرسمي العربي على شرعياته .
وكرس الرد الايراني على الرسالة السعودية اعتقادا بان هذا الريبة من السياسة الايرانية ستبقى قائمة على المدى المنظور .
فقد اعاد متكي خلال لقائه مع الفيصل في الرياض اخراج المبررات الايرانية للتدخلات بقوله ان ” الكيان الصهيوني ” لم يهزم خلال العامين الماضيين امام جيش تقليدي ، وانما من قبل جماعات المقاومة ، الامر الذي يعني فرض الشراكة الايرانية في القرار العربي ، من خلال حركة حماس وحزب الله ، وغيرهما من الحركات التي تدعمها طهران في المنطقة .
وتعني الشراكة الايرانية في احد جوانبها مصادرة الخيارات العربية، وفرض اجندات اخرى على صانع القرار العربي ، تلبي حاجات طهران في مناوراتها مع الغرب للافلات بمشروعها النووي .
فالعالم العربي الذي كان يعني لصانع القرار الايراني ساحة لتصدير الثورة ، يأخذ شكل الرهينة التي يمكن ابتزاز الغرب ، والحصول على مكاسب من خلالها .
مثل هذا التصور ، الذي لا يفتقر الى المقومات ، يزيد من مخاوف تحويل المنطقة العربية التي تعاني حالة الضعف ، والانقسامات ، الى ساحة نفوذ تعيد الزمن الصفوي ، الى واجهة القرن الواحد والعشرين .
ولذلك ظهر التحرك المصري ـ السعودي الذي توجته قمة الرياض الرباعية ، كمحاولة لتجميع اوراق الضغط ، و الالتفاف على حالة الانقسام ، في مواجهة الخطر القادم من الشرق .
الا ان احتمالات نجاح وفشل الجهود التي تبذلها القاهرة والرياض تبقى محكومة بتجاوب بقية اطراف النظام الرسمي العربي مع هذا التحرك .
ولدي تقليب هذه الاحتمالات تتراجع امكانيات نجاح المحور المصري ـ السعودي المدعوم من معظم العواصم الخليجية امام محاذير الفشل .
الاختراق الذي تحقق باشراك سوريا في القمة الرباعية التي غاب عنها الجانب القطري بناء على رغبة مصرية ما زال اقرب الى الخدعة البصرية اذا ما اخذت في عين الاعتبار دوافع المشاركة السورية .
فالموقف السوري اقرب الى التكتيك ، حيث تحرص دمشق على الاستفادة من سلة الاوراق ” العربية والايرانية ” لتعزيز انفتاحها على الغرب .
وتداخل العلاقات السورية ـ الايرانية البالغة التعقيد ، لدرجة الاختلاف في توصيف تفاصيلها ، وعمومياتها ، يحول دون موقف سوري حاسم تجاه تدخلات ايران في المشهد السياسي العربي .
دمشق وجدت لهذه العلاقة الغامضة استخدامات اخرى بعرضها الوساطة لتقريب وجهات النظر بين واشنطن وطهران .
وجاء العرض السوري المغلف بارتياح دمشق لسياسة الادارة الاميركية الجديدة ضمن رزمة تشمل بؤر توتر تعد طهران لاعبا رئيسيا فيها كالعراق ولبنان .
بمعنى اخر تتعامل دمشق مع الانفراج النسبي في علاقاتها الدولية ، والتهدئة مع العواصم العربية ، ومغازلة التغييرات المفترضة في السياسة الاميركية باعتبارها مدخلا لاخراج طهران من مأزقها الراهن .
واللافت للنظر ان المنازعة على الشرعيات التي تخشاها عواصم الاعتدال العربي الاكثر استقرارا ـ وحذر منها وزير الخارجية السعودي ـ لم تعد مقتصرة على ايران فالعواصم العربية المحسوبة على محور الممانعة ليست بعيدة عن هذه الممارسة .
فالضوء الاخضر السوري للمصالحة الفلسطينية المتأرجحة بين النجاح والفشل ، وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع لبنان ، والتاكيدات على منع التسلل الى العراق ، لا يعني باي حال من الاحوال فك ارتباط دمشق مع هذه الملفات .
ونتيجة لتباين الامكانيات ، والقدرات ، والادوار ، واختلاف المواقع الجغرافية ، والفهم ، والتكوين السياسي تأخذ الممارسة القطرية شكل العبث بالشرعيات السياسية في المنطقة وليس المنازعة على الشرعيات .
الشوط الذي قطعته فضائية الجزيرة التي تديرها جماعة الاخوان المسلمين منذ انشائها لم يخرج عن هذا السياق .
فهي تمتهن التحريض على الشرعيات العربية بحجة حرية التعبير ، وتستخدم المهنية شعارا للتغطية على الطريقة الديماغوجية في معالجتها الاخبارية والتحليلية للقضايا الساخنة ، وفي النتيجة تبقى على حالة من ديمومة تزييف الوعي وتسطيحه لتدفع باتجاه تغليب الشعارات على المنطق , ومن ثم توتير الاوضاع السياسية في عواصم الاعتدال العربي .
والواضح ان القضية الفلسطينية ستكون على محك التحول العربي الذي ياخذ في هذه المرحلة شكل تنازع الشرعيات .
فهناك صعوبات تواجهها عواصم الاعتدال العربي في المحافظة على مبادرة السلام العربية في قمة الدوحة .
ابرز هذه الصعوبات ما تمليه المتغيرات الاسرائيلية التي اعادت بنيامين نتنياهو الى واجهة المشهد السياسي .
فالمؤشرات المصاحبة لمساعي تشكيل الائتلاف الحكومي في اسرائيل لا توحي برغبة اسرائيلية في استئناف عملية السلام .
كما يقلل غموض السياسة الاميركية تجاه الملف الفلسطيني من توقعات وجود ارادة لتحريك عملية السلام في المنطقة من خلال الضغط على الجانب الاسرائيلي .
غياب حجة المعتدلين في الدفاع عن المبادرة العربية يوفر مبررات لمطالبة المحسوبين على محور الممانعة بتجميدها ، الا ان نتائج التجميد في حال حدوثه ، في ظل الموازين الاقليمية والدولية الراهنة لا تتعدى تقوية فريق عربي واقليمي على حساب اخر ، وتوفير ظروف افضل لمواصلة اليمين الاسرائيلي سياسة فرض الامر الواقع ، وتقليص احتمالات قيام الدولتين .
فالهامش الذي تتحرك فيه عواصم ما يعرف بالممانعة ليست افضل من هوامش عواصم الاعتدال رغم افراط الاولى في استخدام الشعارات والمزايدات التي تعزز نزعة ” فش الخلق ” في الشارع السياسي .
ولا تخلو مراهنة ” الممانعين ” على ما يوفره تناقض المصالح بين ايران والغرب من المبالغة في تضخيم عناصر القوة الايرانية المراهن عليها والتقليل من قدرات الغرب .
فالاندفاع نحو التسلح يلقي بظلاله الثقيلة على الوضع الاقتصادي الايراني ويعيد الى الاذهان الانهاك الذي لحق بالامبراطورية السوفيتية .
والبعد القومي في الخطاب السياسي الايراني المغلف بالدين يبقي على حالة من الحذر الاقليمي ، يعبر موقف عواصم الاعتدال العربي عن بعضها ، وتظهر بعض مؤشراتها في تركيا .
وفي اسرائيل يتجاوز الموقف من تضخم الخطر الايراني حالة الحذر ليأخذ شكل العداء السافر الذي يبقي احتمالات المواجهة العسكرية قائما .
والاعتقاد بامكانية تقاسم طهران وواشنطن للنفوذ السياسي والامني في المنطقة لا يخلو في بعض جوانبه من الوهم المبني على الاندفاع في التعويل على متغيرات السياسة الاميركية اثر وصول اوباما الى البيت الابيض .
فهناك ثوابت في السياسة الاميركية ، تغيبها التغيرات العابرة ، عن قراءات المشهد السياسي ، ومن بين هذه الثوابت طبيعة العلاقة بين واشنطن وتل ابيب ، التي لم يتوقف الجدل حولها منذ قيام الدولة العبرية ، والبعد الذي تمثله الثروة النفطية في تفكير صانع السياسة الاميركي ، ومدى استعداد الادارة الاميركية الحالية واية ادارة مقبلة لاعطاء وكالات امنية في مناطق حيوية .
وفي جميع الاحوال يبدو العمل العربي المشترك ابرز المتضررين من حالة التحول الراهنة ، فالمقدمات التي عجزت اجواء المصالحة العربية عن اخفائها تقود لتبلور المحاور الى ما يمكن تسميته بعوالم ، تتراكم اختلافات اولوياتها وتتقلص قواسمها المشتركة .