المعارضات السياسية العربية بين حق الحرية ومنطق الشتم
نبيل علي صالح
قدم العلم الحديث للإنسان فرصاً واسعة وإمكانات قصوى في حصوله على المعلومة والمعرفة، وبات يعيش في عصر الثقافات الفكرية والعلمية العابرة للقارات،
وعصر التواصل والتبادل والتشابك في المصالح والمصائر، وهو أشبه ما يكون بسوق –نعم سوق- معلوماتي افتراضي وواقعي واسع لتداول الأفكار وتبادل المعارف ونمو ما يسمى باقتصاد المعرفة.. ولدى قيامي بتصفح كثير من مواقع النشر الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، ألاحظ باستمرار وجود عدد لا يستهان به من المنشورات والمقالات والآراء العائدة لبعض رموز ونخب المعارضات السياسية العربية التي تعيش خارج بلدانها بسبب ما تعتبره عدم وجود مناخ حرية حقيقي تستطيع من خلاله الدعوة إلى أفكارها والتعبير عن طموحاتها الفكرية والسياسية في داخل أوطانها الأصلية.
وقد لفتني منذ فترة إمعان بعض تلك الأسماء في استخدام كثير من مصطلحات الشتم وألفاظ السب بحق ناسها ومجتمعها وبلدها، ووصْفِهم جميعاً بأقذع النعوت، بما لا يوفّر فيها (في سيمفونية الشتم واللعن المذكورة) كبيراً ولا صغيراً كما يقولون.. طبعاً ليس هذا محل استغراب مني ككاتب رأي ومثقف نقدي يشتغل على إشكاليات الثقافة وقضايا المعرفة، ويقوم بعمليات التوصيف والتحليل والتفكيك والتركيب والاستنتاج.. إذ أنه من حق أيٍ كان أن يعبر عن أفكاره واعتقاداته بالطريقة وبالأسلوب الذي يريد، ومن دون وجود أية موانع أو حواجز أو معيقات مادية أو معنوية. فهذا الحق هو من أبسط حقوق الناس ومن بديهيات الحرية والتعددية الفكرية.
ولكنني –في الوقت الذي أدعو فيه إلى تمثل قيمة الحرية بكل معانيها الواسعة والرحبة في كل المواقع والامتدادات- أعتقد أن الحرية ليس معناها الفوضى، الحرية معناها أن تعطي كلمتك، وتعطي موقفك، وتؤكد موقعك بعد دراسة من خلال مسؤوليتك، وأن تفسح المجال للآخر في مناقشتك وفي نقدك.. والحرية لا بد وأن تكون مقرونة بالمسؤولية، والمسؤولية تفترض بدورها وجود عقول حوارية واعية، خصبة ومنتجة للتسامح والسلام الاجتماعي، لا عقول إقصائية إلغائية تمارس الحرية بطريقة وصائية بعيدة عن أدنى حالات التخلق بالقيم الوطنية الجامعة لكل مكونات المجتمع وتنوعاته الثقافية والاتنية والأقوامية.. كما تفعل بعض شخصيات تلك المعارضات الخارجية (بالذات السورية منها) التي سبق أن ألغت من قاموسها السياسي والفكري حسابات البلد ومصالح الوطن والشعب، وهي تحاول –على الدوام- تعميم الحديث السلبي والخطاب السوداوي عن وطنها الأم، وبالذات حول مكون ثقافي وديني رئيسي، يعد من أبرز مكونات مجتمعنا السوري الدينية والتاريخية الحضارية. بحيث يحاولون إظهار صورة وطننا الحبيب وكأننا نعيش في صحراء قاحلة لا حياة فيها ولا ماء ولا هواء.
ونحن من موقعنا كمثقفين مهتمين بعملية النقد الهادف إلى تطوير بلداننا ومجتمعاتنا العربية التي لا شك أنها تعاني من وجود كثير من الأزمات والتحديات كالتنمية الاقتصادية، والتطوير الإداري والسياسي، والتحديث العلمي والتقني وغيرها…. نعمل –مثل أي مواطن حر آخر- من داخل الوطن وليس من خارجه، ونمارس عملية النقد البنّاء والموضوعي الناظر إلى إحداث تنمية وطنية حقيقية وإطلاق نهضة المجتمع المنشودة على كل الميادين والأصعدة ومن دون وجود أية موانع مستحيلة أو معقدة تذكر، والأمر طبعاً لا يخلو من وجود بعض الصعوبات والضغوطات هنا وهناك (وهذا أمر عادي للغاية، وموجود في كل الدول وحتى في أرقى البلاد والنظم الديمقراطية الغربية)، ولكننا نأمل ونتمنى ونعمل على الدوام –بالتعاون مع المسؤولين والمؤسسات والقيادة- على تصحيح الأوضاع الخاطئة (التي لا يكاد يخلو منها بلد في العالم كله)، وتثبيت المواقع الصحيحة وتفعيلها أكثر فأكثر، كي يصبح بلدنا في مصاف أرقى مواقع المدنية والتقدم والحضارة والانفتاح والتسامح الفكري والاجتماعي.
ونحن –لا شك- ندين العنف والأصولية والتعصب وإلغاء الآخر من أية جهة أتى.. ولكننا بالمقابل نذكّر الجميع –ونذكر أنفسنا أولاً- بالقيمة العليا للوطن، ونشدد على أن الحرية مسؤولية بالدرجة الأولى، ولا حرية من دون مسؤولية، كما لا مسؤولية حقيقية من دون حرية حقيقية.
ويبدو لي أن المعيار الحقيقي الناظم لحركة الحرية -على المستوى الذاتي والموضوعي- هو في كونها محددة بقيد الحرية ذاتها، ولكن ليست الحرية المنفلتة من عقال محبة الوطن والمجتمع (والناس المكوّنين له) بقطع النظر عن معايير وضوابط وآليات السياسة التي تحكم وتدير وتنظم مختلف مواقع هذا البد أو ذاك، وبغض النظر عن مشارب هؤلاء الناس المنتمين للوطن على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والدينية والأقوامية.. فللحرية محددات وانتظامات تتركز أساساً في عدم إثارة دواخل ومشاعر الآخرين، وتقصُّد الإساءة إلى قناعاتهم ومعتقداتهم بقطع النظر عن صحتها وحقانيتها وفاعليتها الحضارية… ثم إن النقد لا يكون بإتباع طرق وأساليب العنف الرمزي الفكري التشهيري والإقصائي المتعمد –في أحايين كثيرة- بحق شريحة اجتماعية واسعة وأساسية من مكونات مجتمعنا السوري الذي يضم بين جناحيه أدياناً ومذاهب وطوائف وتيارات وقوميات واتنيات متعددة تستظل بظل الوحدة الوطنية الطبيعية الطوعية –لا القسرية- التي ينعم مواطنونا فيها بقيم المحبة والتسامح والإخاء والتعاون لما فيه خير البلد ومصلحة الوطن بكل تنوعاته وتعددياته. والناس عندنا –بصورة عامة- مرتاحة وتعيش درجة عالية من الأمن والأمان الداخلي قلّ نظيرها في العالم، ولا شك توجد عندنا معاناة معاشية خصوصاً في ظروف الضغوط الاقتصادية والأزمات المالية العالمية الراهنة، ولكن لسان حال الناس يقول بأنهم لا مشكلة لديهم مع بعض المعاناة الاقتصادية طالما أن الوضع الداخلي العام هادئ ومستقر، وفيه شبكة عالية من الأمان الاجتماعي. كما أن الدولة تعمل –بكافة مؤسساتها وأجهزتها ومواقعها- لتأمين متطلبات المجتمع، وخلق فرص عمل للشباب، واستصدار قوانين وتشريعات لفتح أبواب الاستثمار الاقتصادي على مصراعيه. حيث أنه ومنذ انتخاب السيد الرئيس بشار الأسد للمرة الأولى في العام 2000م، (وبعد خطاب القسم الذي حدد فيه أولويات ومعايير البناء المجتمعي وسبل تطوير مختلف مواقع البلد، وتهيئته للدخول إلى مراحل متقدمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً)، فمنذ ذلك الوقت والدولة لا تزال تعمل وتحث الخطى باتجاه تحديث النظم والقوانين، وهيكلة الاقتصاد، وتطوير الواقع السياسي. وعلينا ألا ننسى هنا أن ضغوطات الخارج –منضافاً إليها مشاكلنا الداخلية وعلى رأسها عدم السيطرة كثيراً على التحدي الأكبر وهو مواجهة الفساد والمفسدين- لعبت دوراً كبيراً في توقف كثير من دوائر وخطوط الإصلاح الاقتصادي والسياسي وتأخير إقلاع عملية التنمية البشرية.
نحن –إذاً- مع النقد، ومع ضرورة تسليط الضوء النقدي على مكامن الخلل والإشارة المباشرة إلى مواقع الاهتراء والتكلس الكثيرة الموجودة عندنا، ولكننا نأمل ونطالب –كل من يمارس عملية النقد- بأن يكون هذا النقد -الحر والبناء والمتحرر من أي قيد وغير المرتبط بهذه الجهة أو تلك- مقروناً بالموضوعية والصراحة والحقيقة والوضوح من دون لف ولا دوران ضمن هذا الفلك أو ذاك المحور.
طبعاً أتمنى ألا يفهم من تحليلنا السابق أننا نجمّل أوضاعنا الداخلية، ونقدم صوراً ناصعة عن واقع مجتمعاتنا العربية وكأنها تعيش في الجنة.. بل هي مجتمعات أرضية نسبية في فكرها وسلوكها وأفعالها، ونعترف فيها بالقصور القائم، كما أننا لا نزال نعاني من وجود أخطاء وفساد وتحديات داخلية على شتى الصعد والمستويات، ونموذجنا أو تكويننا “السياسي-الاجتماعي” الذي نعيش في ظله ليس الأفضل، ولم يدّعِ أي سياسي أو مفكر عندنا في أي يوم أنه نموذج مثالي وخالٍ من الأخطاء، ولكن هذا النمط “السياسي-الاجتماعي” –برأينا المتواضع- ضروري ومناسب لطبيعة التكوينات المجتمعية البنيوية الثقافية والتاريخية المشكِّلة لمجتمعنا، وملائم أيضاً لطبيعة التواجد الجيواستراتيجي للبلد في خضم جغرافية هلامية وتوازنات مخلخلة ومناخات دولية عاصفة باستمرار (بسبب وجود الثروات، والموقع الحيوي الممتاز، والحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، وضمان إمدادات النفط.. وهي تمثل بمجموعها الأهداف الأساسية للقوى الكبرى الساعية باستمرار للإبقاء على هذا الوضع المتوتر وغير الطبيعي للمنطقة عموماً)..
ونحن حقيقةً نحاول بهدوء وروية وعقلانية وتدرجية –وبالتعاون المثمر والتفاعل البناء بين الدولة والمجتمع- تطوير نموذجنا من دون أي تدخلات أو اختراقات أو مؤامرات من هذا الجانب أو ذاك.. وهذا لا يعني أن نبقى معزولين عن العالم، أو نغلق علينا أبواب الانفتاح والتنفس في الهواء الطلق والاستفادة من تجارب وتراكمات الخبرة لدى الآخرين.. بل يعني أن نأخذ بمقدار ما نحتاج، وبما يتناسب إيجاباً مع سياقاتنا التاريخية والحضارية، طبعاً مع رغبتنا الأكيدة في بلوغ التطور والتقدم والازدهار.. وكلنا يعلم بأن المريض المزمن في مرضه –إذا سلّمنا جدلاً بأننا فعلاً نعاني من أمراض مستعصية على الحل! (وأنا لست من أنصار التشاؤم والسلبية بل من أنصار أن تشعل شمعة خير وأبقى من أن تلعن الظلام)- لا يأخذ الدواء دفعة واحدة، بل يتناول الدواء والعلاج على مراحل وفترات وبانتظام وفي أوقات زمنية محددة حتى يتمكن من تهيئة جسده لتقبل الوصفة الطبية ليشفى ويتعافى لاحقاً. ونحن نفضل أن يطول العلاج إذا تبين أن النتيجة إيجابية ومثمرة لاحقاً، على أن يؤخذ دفعة واحدة بما سيؤدي ربما إلى موت المريض، أو على الأقل زيادة معاناته واستدامة مرضه.
ثم إن الإصلاح والتغيير مطلوب بصورة دائمة في أي مجتمع يريد أن يكون له حضور نوعي منتج ومؤثر في عالم اليوم والغد.. لأن التطور ناموس كوني وقانون طبيعي.. والمتغير هو الثابت الوحيد في هذا الكون.. ولكن ينبغي أن يكون الإصلاح تدريجياً وداخلياً ليكون مؤثراً ومستمراً وناجعاً.. وقد أثبتت كل تجارب الشعوب والأمم والحضارات أن الإصلاح الفوقي المفروض بالقوة (وبالريموت كونترول) مرفوض ومدان وضعيف التأثير حتى لو جاء بأيدي القريب الشقيق، فما بالك بالإصلاح الخارجي القادم إلينا من الغريب (الصديق!!) أو العدو المتلبس لباس الصداقة.. وهاكم العراق (والآن السودان على الطريق للأسف) أكبر دليل على صحة تحليلنا.. انظر ماذا فعلت به الإدارة الأمريكية (بزعامة المحافظين الجدد من ذوي الرؤوس الحامية والعقول الحارة) وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش.. فقيم الإصلاح والديمقراطية والحوار والتسامح (ومجمل مبادئ المدنية الحديثة، وقيم العلمنة الراقية)، وعيٌ وثقافة وتربية فكرية وتهيئة نفسية مستمرة ومتواصلة منذ الصغر، وجهد داخلي فعال، ومحاولات مستمرة لاستنباتها في تربة المجتمعات العربية بما يتلاءم مع فكرها وثقافتها وحضارتها، قبل أن تكون معادلة ومقاييس وموازين مادية. ومجتمعاتنا العربية عموماً –لاشك- متعبة ومنهكة، وظروفها وأحوالها المختلفة ليست على ما يرام بالتأكيد، وهي –كغيرها من المجتمعات- تنشد أفضل أساليب الحكم والإدارة في السياسة والاقتصاد وغيرها، ولكن هذا المقصد المطلوب لا يحدث فجأة بصورة تلقائية (كن فيكون)، بل يحتاج لعقود وعقود طويلة من تربية الناس على قيم العمل والحداثة والتطور والاستنارة العقلية والمادية.
من هنا مطلوب منا جميعاً –كل بحسب موقعه وجهده وقدرته- أن نعمل بقوة على المساهمة في إصلاح مجتمعاتنا وبلداننا. وهذه المهمة بالذات لها خطورتها وحيويتها لدى جمهور المثقفين المتنورين خصوصاً أولئك الذين لم يوجهوا سهام النقد الشخصي الجارح والهدام واللامسؤول إلى قلب الوطن، ولم ينخرطوا في لعبة السياسات الدولية التي تعمل ليلاً ونهاراً لتقويض مندرجاتنا الاجتماعية وتكوينات وحدتنا الوطنية (التي نأمل تطويرها وتعزيزها) وتسعى لتكريس مصالحها الذاتية وتركيزها ضمن قنوات مختلف الاستراتيجيات الدولية السياسية والاقتصادية التي تحبك لمنطقتنا (طبعاً نكرر الاعتراف بأن القصور قائم ولكن أيضاً المؤامرات الخارجية موجودة لاستمراريته)..
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على سمعة الباحث والمفكر بين الناس أهم بكثير من الحضور (أو النطوطة) الإعلامية هنا وهناك، وأهم بكثير من الألقاب العلمية المفخمة التي من السهولة توفرها حالياًَ للكثيرين خصوصاً إذا ما حضر عنصر المال!.. لأن أسلوب إيصال الفكرة أهم بكثير من الفكرة ذاتها، والطريق إلى العقل يمر بالقلب.. والإنسان الذي ليس فيه خير لوطنه وشعبه لن يكون فيه خير للآخرين لا في الخارج ولا في الداخل.. وهناك مثل شعبي عندنا ينطبق على أمثال هؤلاء، نقوله بما معناه: “الشجرةُ الباسقة التي لا تفيء على عروقها لا نفع ولا خير فيها”..
إن واجب بناء الوطن من الداخل أهم بكثير من أي موقع، كما أن التهرّبْ من المسؤوليات العلمية الوطنية عندما يكون الوطن بحاجة ماسة لنا جريمة كبيرة ولاشك.
والإنسان الوطني الحقيقي –وأنا ضد التنميط والانتقائية والوصائية- هو الذي يعمل لصالح بلده (من الداخل والخارج) مهما كانت الظروف والأحوال، حتى لو شعر بالغبن، أو وقع عليه بعض الظلم في داخل وطنه..كما يقول الشاعر: “بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ …..”. فالبلد غالية، وهي أهم عندي من الولد ومن أي شيء آخر مهما علا شأنه وغلا ثمنه.
وأخيراً أريد التنويه بأنني –كمثقف وباحث- لا أحب الخوض كثيراً في السياسة والسجالات السياسية، لأنها متغير سلبي لا يلبي طموحي الثقاقي ونزوعي المعرفي العميق، وولهي الشديد بقضايا الفكر والمنطق والتأمل الفلسفي. ولكنني اضطررت إلى كتابة تلك الكلمات السابقة شعوراً مني بضرورة الرد الموضوعي على دعاة الحرية والديمقراطية المجوقلة والمحمولة جواً وبراً وبحراً، وأيضاً التزاماً مني بأهمية التعبير عن آراء بعض الناس العاديين والبسطاء عندنا ممن يطلعون أحياناً على ما يجري هنا وهناك من عالمنا “الكبير-الصغير”.
كلنا شركاء