سياسيون يكرهون “التسييس”
زين الشامي
منذ بدء التحقيقات في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وحتى اليوم مع بدء أعمال المحكمة الدولية في لاهاي، وتحديداً حين تصل التحقيقات إلى مرحلة حيوية أو مفصلية، تخرج بعض الأصوات في سورية أو في لبنان، محذرة من تسييس المحكمة، وتقول إنها ستتعاون مع التحقيقات فيما لو لم تكن مسيسة وستقبل بالنتائج إذا لم يتم تسييس المحكمة الدولية، وهو نوع من النقد الذي غالباً ما يخفي رغبة في القول إنه إذا سارت التحقيقات والنتائج في منحى ينتهي بتوجيه الاتهام لجهة أو دولة ما، فإن ذلك يعني أن التحقيقات ونتائجها خضعوا إلى التسييس. أما لو مضت تلك التحقيقات بعيداً عن اتهام جهة أو دولة إقليمية معينة فإنها ستكون غير مسيسة. وهذا يعني أن على المحكمة أن توجه تحقيقاتها منذ البداية، ثم تنتهي بنتائج تتهم فيها أشباحاً، أو ربما كائنات تسكن كوكب المريخ، عند ذلك فقط تكون المحكمة مهنية وغير مسيسة.
لابد من التوضيح أن السياسة هي أصل المصطلح الذي نحن بصدده، نقصد «التسييس»، وبهذا المعنى، فإن الفعل والنشاط المسيس هو الاسم الآخر لنشاط أي جهة رسمية أو حزبية تعمل في الشأن العام، هذا على مستوى الحكومات والأحزاب. أما على المستوى الدولي فالتسييس صفة أي نشاط ذي فاعلية عامة، خصوصاً إن كانت موجهة إلى آخر، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو تنموية أو تقنية أو عسكرية أو اجتماعية. وعليه فليست هناك من دولة واحدة تمارس الشأن العالمي العام كشأن خيري، ولا يوجد بلد واحد في العالم لا يربط أنشطته ومصالحه بأهداف سياسية، أو لا يؤسسها على أرضية سياسية، أو يستخدم لتحقيقها وسائل سياسية. ومن المعروف أن العالم ليس غير حقل سياسي شديد التشابك والتعقيد، يتصف بكثرة الفاعلين وتقاطع وتضارب المصالح القائمة فيه، وعليه فإن من يبحث عن ميادين وحقول دولية بلا سياسة، أوغير مسيسة فهو كمن يقتفي السراب بحثاً عن المياه. وللتوضيح، فعندما يجتمع أعضاء مجلس الأمن الدولي، فإن أعضاءه لا يجتمعون ليقرضوا الشعر أو لسماع أغنية لسيدة الطرب العربي أم كلثوم، بل هم يجتمعون لبحث قضايا سياسية، ويحاول كل طرف خلال ذلك، خصوصاً الكبار من أعضائه، قراءة تلك القضايا وتفسيرها بما يخدم مصالحهم، حتى لو انتهوا بإصدار قرار دولي وأعطوه صفة قانونية وشرعية، إن تطلب الأمر. أما عندما تعقد تسوية بين دول ومصالح متعارضة، فإن شأناً سياسياً ما هو الذي يمليها، أي أنها تكون مستحيلة من دون قدر من التسييس المصلحي، نعم ليس هناك أي جهد عام إلا وهدفه تسييس أمـر مـا، مهمـا كـان صغيـراً أو كبيـراً.
وعودة إلى جريمة اغتيال الحريري، فعندما ارتكبت الجريمة كنا في سورية ولبنان والعالم أيضاً أمام جريمة سياسية بكل ما للكلمة من معنى. وحين اجتمع مجلس الأمن وتدارس القضية وتفرعاتها، فإنه انتهى إلى اتخاذ قرار سياسي هو القرار 1559، وكذلك عندما أصدر قراراً بتشكيل محكمة دولية للتحقيق في الجريمة. وعندما قام «مجهولون» بقتل الحريري، فإنهم كانوا يقومون بنشاط جرمي سياسي يستهدف زعيماً سياسياً، وعليه فإن المسألة سياسية من أولها إلى آخرها. بكل تأكيد فإن ذلك لا يعني أن لجنة التحقيق مكلّفة بإجراء تحقيق سياسي، هنا يجب توضيح نقطة طبيعية، وهي أنها لجنة قضائية تحقق في موضوع سياسي، وأن مهمتها تكمن في وضع يدها على الأشخاص، الذين خططوا لقتل شخصية عامة تعمل في الشأن السياسي، وللوصول إلى هؤلاء القتلة وكشف حقيقة ما حدث لابد للتحقيق أن يأخذ بعين الاعتبار الخلفيات السياسية التي أتت الجريمة في سياقها، ولابد أن يأخذ التحقيق الخصوم السياسيين في الاعتبار، أي الشخصيات التي تعمل في الشأن السياسي بغض النظر عن جنسيتهم، ومن دون ان يفقد التحقيق طابعه الجنائي والقانوني.
لكن من ناحية ثانية لابد من القول إن التحقيق شيء واستغلاله السياسي شيء آخر. بمعنى أن أي ترتيبات سياسية أو أفعال وخطوات سياسية وعسكرية وليست قضائية قد تتخذ مستقبلاً بحق الجهات المنفذة والراعية للجريمة، عندها فقط يمكن القول إنه تم تسييس الجريمة ونتائجها. أما توجيه الإدانة بحق شخصية مسؤولة سياسية أو أمنية استخباراتية في نظام ما، فهذا ليس تسييساً. إنه مجرد اتهام قضائي، سواء أعجبنا أم لم يعجبنا.
ومن ناحية أخرى، لن يمنع التحقيق أي بريء من إثبات براءته، ولن يمكّن خصومه من إلصاق تهم به أو من استغلال نتائجه ضده فيما لو كان بريئاً. إن التحقيقات ورغم أنها تدور في غرف مغلقة، لكن ذلك لا يعني أن المحققين سيلبسون الأبرياء تهمة جريمة لم ينفذوها. ليست المسألة بهذه البساطة، وليس القضاء الدولي يشبه قضاءنا المنخور والمحكوم بالفساد والأمن.
وأخيراً لابد من التوضيح أنه من غير الممكن أو المجدي رفض نتائج التحقيق في ما لو بنيت نتائجه على أدلة وقرائن كافية لتجريم الجهة التي قتلت الحريري. أما النتائج السياسية، التي ستترتب عليها، فتقع جميعها خارج نطاق التحقيق وأهدافه. وفي هذا الصدد يبدو موقف الحكومة والمسؤولين السوريين غريباً بعض الشيء، فهم ومع أنهم يؤكدون براءتهم من دم الحريري، فإن تصرفاتهم تفتقر إلى الثقة بالنفس، خصوصاً حينما يعودون بين الفينة والأخرى إلى نغمة التسييس واتهام المحكمة بهذه التهمة عند أي منعطف أو تطورات جدية في مسار التحقيقات.
الراي الكويتية