الطِّفْلُ البدائيُّ لكلِّ صدْفَة
إلى فاء . عين. سين
ذكّرَها بندرة وجودها، مستقوياً بإشارة “هلدرلن”: الرّوحُ شيءٌ غريب عن الأرض. وأبدى، أكثر من مرة، فرحه الكبير بالهبة السخيّة التي جعلته يتقاسمها الزمن نفسه حيث تجمعُ الصّدف القاهرة أشياءَ غريبة، فتتآلفُ وتلتئمُ مثل رقائق غيوم الربيع. كذلك حاول إقناعها بما يُدْعَى”إرادة القوة” التي حسبَها، عن سذاجة وتهور، إرادةَ الجمال؛ منبّهاً إياها من فرْطِ الخوف من قدوم الموت.
كما أنه، لجهلٍ آخر بحاجات العصر الركيك، تمادى في إقناعها ببساطةٍ أنّ العقل الإنساني المعافى والمهيَّأ لتعبٍ طويل، يحيا سالماً داخل الموت ولا يخشاه، بل ينمو ويزدهر في الموت ذاته مثلما كان “ايمرسون” يقول: “إننا نزدهر بالمصائب”. لكنّ غايته الخفيّة كانت إغواءَها، عبر مماحكات عبثية وخبيثة في آن، وإنْ كانت متناغمةً في ظاهرها ومؤثرة، بالقبول السريع غير النادم في مشاركته علاقةً إباحيّة لا يضبطها شيءٌ سوى طهارة الغريزة وطفولتها النقية، كسوادٍ مشعّ، كذلك اللمعان الطازج المبلّل شفتيها الناعمتين واللتين صاغتا بشكلٍ صارخٍ فماً شديدَ الإغواء. لم يكن، وهو يقفز من فكرةٍ إلى أخرى، يتخيّل غير الطريقة الأرَقّ لعناقها وعضّ أرنبة أنفها، ملامستها وتحرير أصابعها خلل شعرها الكستنائي المنسال كضوء خافت، لثْمَ ولحْسَ غبَبِ عنقها الأملس، وغمْرَ شحمتي أذنها بريقه الشبق. كان يودّ، دفعة واحدة، كنيزكِ ساقط، دفن روحه في صدرها الممتلئ الناعظ. ما كان يبتغيه هو الآتي: اسمعي أيتها الفاتنة، قليلة الخبرة،: القلوب التي تستمتع هي القلوب الطيبة. اللذة هي الحيوية. الحيوية تحرق ظلام الكسل الذي هو الخطيئة. أمّا التألّق، قالها وصمت قليلاً ليضفي أهمية خاصة على هذه الكلمة، أمّا التألّق فهو جوهر العالم وغايته. سيعبُرُ حياتَهُ كمن يدخل نفقاً مظلماً، وسيعيق جسدهُ روحَه عن الترنّم بالحياة التي ليست سوى آلة فناء متقنة وعابثة.
قرّبَ وسنّ نظراتِهِ من مقلتيها الصافيتين الشهيتين كحبتي لوز مملحتين، مركّزاً تأمّل الحدقة العسلية الفائحة بذكرى ألحان ناعمة، تحوطها في شكل لوزيّ، كبحيرة حليب دافئ، شدّة واتساع وبياض جوف العين. هكذا أخذ يوضّح، أكثر، إدراكَهُ غير المسبوق أبداً، بالوصول إلى أدقّ عناصر الأشياء التي بتداخلها وانعتاقها الاعتباطي تؤلّف، ككتاب أحمق، ما ندعوه بالعالم الكبير:
أجسادُنا، كأثرٍ لتفتُّقِ النَّفْسِ على حواسِّها العمياء الطاهرة، تحتاجُ كلماتٍ غير معهودة حتى تُرى وتُحبّ وتُقتنى مثل تحف نادرة. ولكي نرى هذه الكلمات، التي ليست سوى أرواح مجسّدة في أصوات عديدة، علينا قبل أي شيء آخر فهْمُ ما يفعله الصَّمْتُ بقدراتنا على حيازة الكلام. انتبهي إليّ. قالها وهو ينفث دخان لفتاته المرتعشة بين أصبعيه بعيداً عن وجهها:
الكلامُ في علَّته أصلاً بذرةُ صمتٍ لا نفاد له؛ هذا الصمت الذي يثمر الكلماتِ ويبتلعها في آنٍ، بشكل متعاكس مثل ضوء غير مرئيّ في مياه عميقة مظلمة، ليس اعتيادَنا على الصمت الذي نحسبه ذَهَبَ الكلام. إنه صمْتٌ مضاعَفٌ، صمْتٌ يشقّق زجاجَ الصمت، يشبه الموسيقى أو إرواءَ عشبة ميتة. ولكي نكتسب مهارةَ التكلّم الواضح المبين علينا أولاً إجادةُ معرفة فنّ الإصغاء. توقّف قليلاً ريثما يستعيد عافية عينيه المسهدّتين، واصطنع ابتسامةً في غير أوانها. تذكّرَ وصايا ايتالو كالفينو مقارناً بها عدم قدرته على حذف ما لا ضرورة له. ندم لأنه ابتسم، ندم لأن ابتسامته مضت بلا أثر قوي. لم يجد غير ابتسامة عرجاء لتشير إلى ما به أو ما يعتقد، عن خطأ بصريّ، من سطوة إلى تشكّل الإصغاء الذي يرغبه لدى رفيقة صوته الساكتة والتي، ربما، لم تستطع دائماً موازاة تحوّلاته السريعة في عرض أفكاره. إنه يحاول الآن تعويض إقحام ابتسامته في صمتها بحركة أخرى. كان أشبه بعازف سيء، كان بالفعل متردداً وحائراً، رغم يقينياته التي خيبت انتظار الفتاة الخجول الطويل. أطفأ لفافته ضاغطاً بإبهامه وسبابته عليها، ثم حرّكها وسط رماد أعقاب بيضاء. ثم استأنف خطته للإيقاع بمعشوقته النديّة المتألقة التي بدتْ متلهّفةً لسماع شيء آخر غير فنّ الإصغاء المملّ.
كانت تريد، مثلاً، تذكيره بغياب قطّها المسكين؛ القط الذي لم يكن يقوى على الخروج إلى ضوء قطط المدينة. لكنها ألغتِ الفكرةَ إذْ رأتْ في نفسها ميلاً أغرز إلى اشتهاء نظراته طالما أنه يكثّفها بالتودّد، الملاطفة، وبريقِ الرغبة الحزين. غير أنه، قبل معانقتها، أضاف خاتمة غير متوقعة، وبشكل يحاكي طريقة فقيه غير مرغوب لدى العامّة: ثمة نور ضئيل علينا عدم إضاعة الوقت في امتلاكه. أقصدُ علينا الاحتفاظ الدائم بهذه المدينة النادرة الممنوحة بلا ثمن كالليل والنهار. يمكن للغياب الصغير الذي سيحدث الآن، وهو ذات الغياب الذي غلّفنا وغطّانا ونحن جالسان كظل شجرتين، أن يزيد من إشراق الخير في دمائنا؛ الخير الذي احتراماً لحيائه اللطيف ينبغي احتضانه في صمت وارفٍ كما لو زهرةٌ من زجاج خالدٍ تفاتح بَظَرها لتكشف عن السماء!
لم تردَّ عليه، لم تشأْ أي ردّ . لكنها استهجنت مرافقةَ البَظَرِ للزهرة، وفي ذات الوقت النادم كلعبةٍ نافقة شلّت رغبتها في الكلام، ربما، بسبب الجرأة العفويّة الغريبة التي نطق بها صورته تلك.
في الحقيقة، ورغم نظرات الفتاة العميقة الهادئة إلى وجه ونبرة الصوت المقابل لها؛ والذي أحسّ بسبب تلك الهيئة الباذخة بورقة نباتٍ ساخنة تعبر دمه إلى عينيه، لم تكن تأبه لمعنى حديثه كلّه. ثمة شيء لم تبح به. كانت تحاول، بجهد غير ملحوظ، عبر صمتها الإصغاءَ بشكل أفضل إلى الصوت وحده؛ صوتِ الكلمات وهي تخرج بدفءٍ شاكٍ بين شفتيه. أكثر ما كان يشغلها طوال الأسابيع الخمسة الماضية هي مقارنة أصوات الرجال مع وجوههم ثمّ الحكم على صدق كلماتهم من صدق أصواتهم المرئية. وكان هذا انفعالاً عاطفياً زائداً. لم تكن مهمّة معاني تلك الأفكار وعلاقتها بالحياة، فهي تعتقد، عن صواب ربما، أن الوجود على الأرض كالوجود في السماء؛ كلاهما بلا طائل. المهمّ بالنسبة لها وفرةُ الصوت على نقاءٍ غير شائع. كانت تحسبُ أنْ لا معاني جديدة يمكن إضافتها إلى العالم. كل عصر يذكّر بعار الذي يسبقه ويليه. الحياةُ دائماً جميلة وقاسية. أنهى الصوتُ كلامَهُ، ثم انحنى صاحبُهُ بجذعه قليلاً وأمسكها من يدها اليمنى النحيلة المنعشة على باطن يده كما لو ورقتا نباتٍ تظلّلُ إحداهما الأخرى برفقٍ والهٍ. رغبت الفتاة ترْكَ أصابعها على كفّه فترة أطول، لكنّ شيئاً ما، دون سبب معروف، جعلهما يتوقّفان فجأة عن تلك الرقة الظليلة كالفردوس.
هبطت يداهما، كوداعٍ ثقيلٍ، ونظرا ببطءٍ شفيف إلى ليلة أخرى من ليالي العزلة حيث البردُ مؤلمٌ كالأسى ومخيفٌ كالظلام. تحت ظلال رطبةٍ داكنة، حيث كانا يتواعدان، بعيداً عن صخب السوق المجاور، مضيا وحيدين دافئين في تواضع ووداعة مهبّ سنونوات على سطح مياه راكدة. وحيدين، كغريبٍ في مرآة واحدة، في صمتٍ يكشف عن رقة ووحشة غياب الصمت. لم يكن ليعرف بماذا تفكر، فوجهها لم يحمل أيّ أثرٍ لكلماته. أحسّ أنه ربّما أزعجها بمثل هذا الحديث. ربّما كان من الأفضل حقاً لو تحادثا عن مصير القطّ الغائب. ترى في أي نوعٍ من الحرج يعيش الآن خارج المنزل؟ هل من أحد يداعب فراءه؟
على المرء ألاّ يزعج أحداً. هذه صفة تربية وتهذيب ينبغي التأكيد عليها. إمّا أن تخترق الكلمات روحَ من تتحدث إليه، وإما أن تظلّ لطيفة كهواء خفيف يهفّ على البَشَرة فحسب. بيد أنه لم يستطع رؤية وجهها المتألّق في عينيها. كان ذلك خطأً كبيراً وقعتُ فيه وليس من وقت الآن لتصحيحه. فبسبب الحاجة الشديدة إلى لطف أنثوي تراءى له، لا دَمُها فحسبُ، بل حجمُ وشكل عظامها. وكان ذلك كافياً ألا يبصر ظاهرَ وجهها وعينيها. ثمة شيء أكثر إخافةً ومدعاة حيرة: الصمت؛ لقد كنّا في حريق هائل ورغم ثرثرتي الطويلة ورغم صمتها المقترن بعدم حاجتها الإفصاحَ عنه، كان عدمُ الكلامِ الرئةَ المشتركة التي تنفّسنا منها حياتنا القصيرة تلك . لم يكن كلامي متساوياً بشكل دقيق لصمتي، ولم يكن صمتُها يحمل شيئاً من رغبتها بالكلام أو الإصغاء . كان ثمة انفعال متضايق يعيدنا ويكيلنا إلى الصمت نفسه؛ ذاك الذي يجعل حنجرتك نحراً من زجاج مشقوق وملتهب. مازلتُ خائفاً. لكنني تعلّمت رؤية نفسي من جديد، غير أني لم أدرك بعد السرَّ الذي يجعلني أشعر بعبور الوقت وكأن النهاية تحلُّ دون سبب في كل لمحةٍ منه. إنها النهاية تخترق نظراتي فتلتمّ بندىً غريب لا أعرف متى تيبَس أوراقه أو تنام. أعتقد أن الإباحية أمرٌ جميل؛ أي ضروري. وهي قبل أن تكون كذلك، تعبير مُغرٍ ودقيق عن حاجةٍ ذهنية مفتقدة وغير قابلة للإشباع، كالتنفّس أثناء النوم أو السير على حوافّ أنهار لا نهاية لمجراها. إن الحياة الدعائية الإعلانية، بسبب تهافتها الركيك وتسفيهها لكل جمالات الجسد والرغبة، والتي بذلك تلتهم أحاسيسَ عقليةً غايةً في الجمال تجعل أمراً كهذا جديراً بالتفكير وردّ الاعتبار إليه. بذا يتمّ الوصول إلى طريق الحيوان النبيل، الطفل البدائي لكل فلسفة، ومن ثمّ لا تعود حاجةٌ إلى معلمين وأساتذة.
المستقبل – الاحد 20 نيسان 2008