خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر لسهيل الحبيّب: خمسة مفكرين يضعون النقاط على الحروف
خالد غزال
استتبع انهيار مشروع التحديث العربي انهيارا موازيا في منظوماته الفكرية والثقافية، وهو امر طال مفاهيم الفكر القومي والليبيرالي والاشتراكي على السواء. ترتب على هذا الانهيار فراغ ملأه غلاة “الصحوة الاسلامية” الذين قدموا منظومة فكرية وسياسية وثقافية متكاملة في وصف “الاسلام هو الحل”. ليس مبالغة القول ان هذه الصحوة الاسلامية لا تزال اليوم في مرحلة صعود وتحقق “انجازات” على صعيد اسر المجتمعات العربية وشعوبها في سجون التخلف المريع والارتداد بهذه المجتمعات الى ما قبل قشرة الحداثة والتحديث التي حققتها لعقود مضت، والتي شهدت تبدد قواها الاجتماعية والسياسية في اعقاب الهزائم العربية، مما يعني ان المعركة ضد الاصولية تحتل اليوم موقعا رئيسيا في المشروع النهضوي المطلوب لادخال المجتمعات العربية في العصر وفك الحجر عن تطورها. يشكل مؤلف الكاتب التونسي سهيل الحبيّب “خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر معالم في مشروع آخر”، والصادر عن “دار الطليعة” مساهمة في هذه المعركة.
يركز خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر على جملة مسائل تتفاوت قراءة المثقفين العرب في شأنها. يتوافق الجميع تقريبا على اعتبار التحديث الثقافي في المجتمع العربي حلقة مركزية في اعادة استنهاض المشروع العربي، كما يتوافقون على ان التصدي للصحوة الاسلامية لن يتحقق له النجاح من دون سيادة الفكر المناقض لهذه الصحوة. ويذهب اصحاب القراءة النقدية في تلمس الاسباب الرئيسية لتراجع المنظمات التي كانت سائدة على حساب الصحوة الاسلامية، فيرون ان الهزيمة العربية عام 1967 وما استتبعها من تراجع شامل طرحت جملة اسئلة عن سر تخلف العرب والذات العربية معها، وعن الاسباب التي مكّنت الغرب من التفوق الشامل علينا. وهي امور استجرت سجالات ومراجعات طاولت الفكر العربي بمستوياته الشاملة، ومعه مناقشة الفكر الديني ومنظومته الاصولية، حيث يعرض سهيل الحبيّب آراء عدد من الكتاب العرب قدموا مساهمات جادة في هذا المجال.
تقوم قراءة عبد الله العروي على ربط المنظومات الفكرية السائدة اليوم عند العرب والمتواصلة منذ اواسط القرن التاسع عشر بالاوضاع الاجتماعية السائدة ومستوى التخلف الذي تقيم فيه، وبالظروف والعوامل التاريخية التي جعلت المجتمعات العربية اسيرة هذا التخلف. ادى عجز حركة التحرر العربية عن تحقيق الاهداف التي سعت اليها منذ قيام انظمة الاستقلال منتصف القرن الماضي الى مفاقمة عوامل التأخر، وفتحت الباب واسعا امام ضرورة النقد ووضع اليد على اسباب المرض. في هذا المجال يجزم العروي بان معضلة المجتمعات العربية ومشكلة مشروع الحداثة والتحديث فيها تكمن في ان الفكر العربي عجز عن استيعاب فكر التنوير المستند الى العقل والعقلانية، مما جعله مقيماً في الماضي ومجتراً مقولات تقادم الزمن عليها ومصرّاً على تقديمها علاجا لزمننا الراهن.
لا يبتعد محمد عابد الجابري عن العروي في تشخيص الداء العربي، فيراه نتيجة فشل المساعي النهضوية. لكن المعضلة الاساسية تكمن في رأيه في اهمال مسألة “نقد العقل العربي” الذي قدّم حوله مساهماته المركزية في الفكر العربي. تشكل الثقافة العربية اطارا مرجعيا للعقل العربي، لكن المشكلة في هذه المرجعية انها “ذات زمن واحد” مما يعني انها تفرض على الانسان العربي ان يتقولب في اسار القرون الماضية وان لا يتجاوز التراث الذي يجب ان يشكل الاساس في النهضة عبر العودة اليه واسقاطه على حاضرنا. هذا يعني ان المجتمعات العربية، وبعد الهزائم التي المت بها، محكومة بأن تستعيد النهضة بـ”عقل ما قبل النهضة” بكل ما يعنيه ذلك من البقاء اسرى عصور الانحطاط ومنظومتها الفكرية السائدة.
لم يكن مشروع محمد اركون في “نقد العقل الاسلامي” بعيدا عن تداعيات فشل مشروع التحديث العربي الذي حاولت انظمة ما بعد الاستقلال القيام به. يعطي اركون اهمية كبيرة الى العوامل الثقافية في فشل الاهداف التحررية والاصلاحية في العالم العربي، وذلك عبر اعتماد سياسات ثقافية غلّبت ايديولوجيا الكفاح واعطتها الاولوية على حساب الميادين الأخرى. ويذهب اركون بعيداً في اعتبار العقل العربي عقلا دينيا، ويتجلى ذلك في كون العقل الاسلامي يستغرق الثقافة العربية الاسلامية في مجملها، وهذا ما يبرر في نظره القول بأن مفتاح المشروع النهضوي العربي يكون بنقد العقل الاسلامي. ويصف اركون واقع الثقافة العربية بأنها لم تتجاوز حتى اليوم ابنيتها التراثية والقديمة وبأن “القطيعات الاجتماعية والثقافية الحاصلة في المجتمعات العربية ولااسلامية المعاصرة لم تجتز بعد مرحلة اللاعودة كما هي عليه الحال في المجتمعات الاوروبية والغربية”.
في السياق نفسه، يرى ادونيس ان نمط التفكير وطرائقه القائمة على الدين تشكل العنصر الحاسم في بنية المجتمع العربي وحركته. فالتفكير الديني المهيمن على مجمل الجسم الاجتماعي بميادينه الاقتصادية والثقافية والسياسية والاخلاقية والفنية يدفع بالمجتمعات العربية الى مناح ترفض بموجبها الاخذ بإنجازات الحداثة وترفض استخدام المبادئ العقلية التي كانت وراءها. في هذا المجال، لا يمكن النظر الى ما عرفته المجتمعات العربية من تحولات في الازمنة الحديثة الا من كونه “مظاهر شكلية وظاهرية وسطحية”، مما يجعل نقد الدين والفكر الديني في موقع الاولوية اذا كانت المجتمعات العربية ستسعى فعلا الى تجاوز بناها المتخلفة وتقرر الانتساب الى التقدم والحضارة.
لا يفصل خليل احمد خليل الثقافة عن العقل بل يؤكد اقترانهما، واذا كان هناك من اختلاف في العقول عند الجماعات البشرية، فانما يعود الى اختلاف الثقافات المتكونة والسائدة فيها. يتوافق خليل مع الرواد الذين سبقوه في ان الابنية الثقافية العربية لا تزال حبيسة الواقع الماضوي الذي يمسك بتلابيبها ويحدد لها وجهة فعلها. ويرى ان المجتمعات العربية تتعامل مع الواقع الراهن الجديد في كل المستويات من خلال ابنية ثقافية قديمة، فيتم “استدعاء نبذات من التاريخ الاسلامي ومن الفلسفة العربية الاسلامية لتبرير سلوكات عملية واجتماعية واقتصادية جديدة”.
اذا كان الرواد الخمسة يتقاطعون في اعتبار تجديد الثقافة العربية وتحديثها مشروطا بالتحرر من ابنيتها التقليدية الماضوية، الا ان الشرط الاهم في هذا المجال يجب ان يركز على نقد التجارب السياسية التي قامت وشكلت المقولات الثقافية احدى ترجماتها وافرازاتها، وهي تجارب تتحمل المسؤولية الرئيسبة في الهزائم العربية ومنها الهزيمة الشنيعة في العقل العربي ومستوى تحصيله وعلاقته بالتقدم.