بوصلة الإصلاح
عبد الحسين شعبان ()
كثر الحديث عن الاصلاح وشروطه ومعوّقاته في العالم العربي، لاسيما منذ انتهاء عهد الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي، أو تحوّلهما من شكل الى شكل آخر، خصوصاً بانهيار المنظومة الاشتراكية، وصعود الاسلام كتيار فكري وسياسي، وجد فيه الغرب “عدواً” أساسياً ينبغي مواجهته، مثلما وجد الاسلاميون أو الاسلامويون في الغرب عدواً تقليدياً يفترض مقاومته.
وهكذا فقد كان كل طرف يبحث عن عدو جاهز فإن لم يجده، فلا بدّ من اختراعه أو صناعته، لتبرير استمرار حالة الحرب الباردة أو الصراع الآيديولوجي، وإن كانت بأشكال جديدة، وهو ما عبّر عنه صموئيل هنتغتون في كتابه “صدام الحضارات” وقبله فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”، وكان المثقفون الاميركيون الستون قد أصدروا بياناً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001، وإن دعوا فيه الى الحوار، لكنه في بعض وجوهه، كان بلاغاً حربياً، خصوصاً تحت واجهة ما يسمى بالارهاب، فقد استثار في واقع الأمر حفيظة جميع القوى المناهضة لسياسة واشنطن، وبالمقابل فقد كان الخطاب الاسلاموي، لاسيما تنظيمات القاعدة بزعامة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي يقسم العالم الى فسطاطين “دار الحرب” و”دار السلام” وهو الوجه الآخر لخطاب الرئيس بوش الذي اعتبر العالم منقسماً الى معسكر الخير ومعسكر الشر وإن الحرب حتمية بين الطرفين.
ومثلما كثر الحديث عن ضرورة الاصلاح في العالم العربي فقد اختلف المتحدثون عن الاصلاح وافترقوا بثنائيات وتعارضات غريبة، لم يأخذ بعض منها الوعي بأهمية التطور الثقافي والوعي الحقوقي والواقع السياسي والاجتماعي، فهناك من تحدث باصلاح داخلي، والآخر عن اصلاح خارجي، وهناك من صنّفه باعتباره اصلاحاً فوقياً يقابله اصلاح تحتي، وهناك من أخذ بالاصلاح باعتباره جزئياً، في حين هناك من سعى لاعتباره اصلاحاً شاملاً، وبالمقابل راجت مصطلحات من قبل الاصلاح الترقيعي والاصلاح الجذري، والاصلاح المنفلت والاصلاح المنضبط، والاصلاح باللين مقابل الاصلاح بالقوة، والاصلاح السلمي والاصلاح العنفي.
وهناك من قصر الإصلاح على أحد الجوانب سواءً كانت السياسية او الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو الحكومية او المدنية أو غيرها، لكن الكثير من المتحدثين اغفلوا متى يتم البدء بالاصلاح وما هي حدوده وسقفه وكيف السبيل الى اعتماد آليات تحول دون التراجع عنه أو النكوص فيه؟ ثم ما هو فضاء الحرية، ولاسيما حرية التعبير في الحديث عن الاصلاح والشروع به ودور المجتمع المدني الرقابي والرصدي والاقتراحي، واعتماد الشفافية والمساءلة وسيادة القانون لتأشير مكامن الخطأ والفساد والمعوّقات وسبل المعالجة.
يمكنني القول: ان الموجة الأولى للاصلاح في العالم العربي التي ابتدأت في القرن التاسع عشر تم احتواؤها منذ العقد الثاني للقرن العشرين، لاسيما بفرض معاهدة سايكس ـ بيكو العام 1916 بعد تفكيك الدولة العثمانية وتقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا، أما الموجة الثانية التي بدأت ما بعد قيام الدولة الوطنية فقد تم تحجيمها، لاسيما في ظل هيمنة العسكر وحدوث الانقلابات والثورات ووضع الاصلاح والتغيير الاجتماعي في تعارض مع الاصلاح السياسي والقانوني.
وكانت الموجة الثالثة للاصلاح قد بدأت ارهاصاتها في الثمانينات، لكنه تم احتواؤها في أواخر الثمانينات عندما تحوّل التغيير الديمقراطي في العالم العربي، لاسيما بفعل القوى الخارجية وتأثيراتها، الى مجرد شعارات سرعان ما تحطمت عند شواطئ البحر المتوسط لحسابات المصالح والقوى الدولية المتنفذة.
اما الموجة الرابعة للاصلاح فقد تراجعت بعد احداث 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية العام 2001، وشددت بعض البلدان العربية من قبضتها على السلطة السياسية وتقلّصت مساحة المجتمع المدني وفسحة الحريات بزعم مكافحة الارهاب، وهو ما استثمرته القوى الغربية ايضا في تجاوزها على الحريات المدنية، في مجتمعات مستقرة وحقوق ترسخت بشكل تدريجي طيلة اكثر من قرنين من الزمان.
ولعل اشكالية الاصلاح الديمقراطي تطرح في العالم العربي بشقيها الثقافي والحقوقي وبجانبيها الفكري والعملي اليوم على نحو شديد، خصوصاً بوصول أوضاع العديد من البلدان العربية الى طريق مسدود، فالتجربة العربية والتيارات الاساسية فيها ما تزال رغم دعواتها للاصلاح بعيدة عنه، خصوصاً التيار القومي العربي والدولة التي انشأها والتيار اليساري الماركسي، الذي ظلّ معارضاً بشكل عام أو اقترب من هامش السلطة في بعض البلدان، او التيار الاسلامي، الذي أصبح القوة المؤثرة في نحو 10(عشرة) بلدان عربية، أو التيار الوطني الليبرالي القريب من التوجه الديمقراطي الذي انخفض منسوبه منذ تولي العسكر الحكم وانقطاع خط التطور التدريجي، وقد رافق نشوءه مجدداً أو محاولة احيائه تعويل بعض دعاته وجماعاته على القوى الخارجية، الامر الذي أضعف صدقيته كثيراً.
وظلت المرجعية لدى التيارات السياسية والعقائدية العربية ملتبسة ومشوشة، فالتيار الاسلامي مرجعيته “الجامعة الاسلامية”، خصوصاً في بعدها الديني والطائفي احياناً، والتيار العروبي مرجعيته “الجامعة العربية”، لاسيما مواجهة اسرائيل والدعوة الى الوحدة العربية عبوراً للدولة القطرية، أما التيار الاشتراكي فمرجعيته أممية وكونية أساسها العدالة الاجتماعية، واعلاء شأن الصراع الطبقي، وباستثناء التيار الليبرالي- الديمقراطي، فلم تكن الديمقراطية هي المرجعية التي يمكن الاحتكام اليها في تداولية السلطة من خلال انتخابات دورية اساسها سيادة القانون ومبادئ المساواة، وهما أساسان للمواطنة في الدولة العصرية.
وإذا كانت هناك مشتركات بين التيارات السياسية والاجتماعية فإنها تكمن في المسألة الوطنية وإحراز الاستقلال، ولعل تلك كانت احدى المشتركات الاساسية التي طبعت البيئة الفكرية والثقافية العربية في الثلاثينات والاربعينات، لكن علاقة الدولة بالامة ظلّت سؤالاً مهيمناً على الثقافة السائدة، ينبثق من خلاله أي دولة نريد: قطرية أم قومية؟ دولة حماية أم دولة رعاية؟ دولة مؤسسات وانتخابات أم دولة قوة وحكم عسكري، مقابل دولة حقوق وحريات أم دولة مكرمات وهبات!؟
ويمكن تصنيف المنطقة العربية التي تعاطت مع مسألة الاصلاح خلال ربع القرن الماضي من خلال: النموذج الاول ويمثل الدول المغلقة والشمولية، ملكية أم جمهورية، حيث شككت بنوايا الاصلاح واعتبرته خطة غربية وتدخلا سافراً في الشؤون الداخلية، وربما مؤامرة محبكة هدفها تمزيق الامة وحرفها عن دينها وعروبتها. أما النموذج الثاني فيكمن في: الدول الأقل انفتاحاً، حيث شهدت شكلياً درجة من الانفتاح والتعددية والانتخابات فيما بعد، وخطوات اولى للاصلاح، لكنها لم تستطع الارتقاء الى خطة شاملة للاصلاح وبعضها نكص عن ذلك بفعل التطورات الدولية، لاسيما احداث 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية وضعف الضغط الدولي الداعي للاصلاح والذي كان في البداية شديداً. ويشمل النموذج الثالث: الدول الاكثر استجابة، حيث استطاعت التعاطي مع مشاريع الاصلاح والانفتاح والتعددية وحرية التعبير، واختار بعضها سبيل العدالة الانتقالية.
وطرح السؤال بصوت عال: هل يتم اصلاح الفكر أولاً أم اصلاح المؤسسات القائمة، أم اصلاح الاثنين من خلال الممارسة (البراكسيس)؟ وكانت الهوة تتسع بين الاصلاح الفكري والديني وبين الاصلاح السياسي والمؤسسي، ناهيكم عن اتساع التناقض بين التيارات الاسلامية والتيارات العلمانية ورؤيتهما للاصلاح، لاسيما في ظل هيمنة الفكر الشمولي.
وإذا كان الصراع العربي ـ الاسرائيلي عنصراً ضاغطاً طيلة السنوات الستين ونيّف الماضية، بفعل المواجهة العسكرية والتوجه الى التسلح، الأمر الذي عطّل من فرص التنمية والاصلاح الديمقراطي وقطع خط التطور التدريجي في بعض التجارب الجنينية مثلما هو الوضع في مصر وسوريا والعراق، فقد استغل الحكام بشكل عام ظروف العدوان الاسرائيلي والتهديد الخارجي، ليقايضوا ذلك بتقليص الحريات وتبرير هدر حقوق الانسان، وهنا طرحت مسألة تغوّل الدولة وتمركزها، وبالمقابل تضييق فرص مشاركة المجتمع المدني وامكانية تحوّله الى قوة اقتراح، وأخذ التكوينات الفرعية والهويات الجزئية في إطار الهوية العامة المانعة الجامعة.
ما زالت بوصلة الاصلاح مشوشة في العالم العربي، وما تزال القوى الحاملة للمشروع الاصلاحي النهضوي الحديث ضعيفة وهشة وقسم منها لم يستوعب التطور الدولي في هذا الميدان، وما تزال القوى والافكار التقليدية والشمولية ذات نفوذ وتأثير مهيمنين، الأمر الذي يحتاج الى تطور تدريجي بطيء، تراكمي وسلمي، قانوني واجتماعي، عبر مؤسسات سياسية ومجتمع مدني قوي، وبمساندة من المجتمع المدني العالمي ولكن أولا وقبل كل شيء لا بدّ من تحديد بوصلة الاصلاح. ولعل هذا كان محور نقاش حيوي في ندوة مهمة نظمها “بيت الحرية” وشارك فيها مثقفون وحقوقيون عرب، في البحر الميت في الاردن، ومثل هذه الندوة تحتاج الى ورشة عمل واوراق للبحث لمواصلة الحوار وتأطيره لما يساعد في نقله الى أوساط الجامعات والمنابر الاكاديمية والاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات.
المستقبل