يسار «لايت» وخرافة موت الأيديولوجيا
سلام عبود
شاعت في الثقافة الأوروبية المعاصرة سلسلة من نظريات الموت: موت المؤلف، موت الرواية، موت الفلسفة، نهاية التاريخ… وفي حقبة سقوط المنظومة الاشتراكية بدأ الترويج لنظرية موت الأيديولوجيا، أو ضمورها، كجزء من فكرة صدام الحضارات. كيف تجلّى ذلك سياسياً في العراق ومنطقة الشرق الأوسط؟
تقوم فكرة موت الأيديولوجيا سياسياً على عنصر جوهري، هو تجريد الواقع من محتواه السياسي وبعده الوطني، وما يترتب عليه من امتدادات اقتصادية وروحية وعوامل تاريخية. نظرية موت الأيديولوجيا اختصار فنّي مموّه لعملية تغليب النزعات والظواهر الثقافية والسلوكية الخاصة على مقولات الوجود الشمولية: الحق والخير والجمال، وعلى قوانين المنطق وأساسها المادي، وإعلاء شأن الاختلافات المظهرية والشكلية في المجتمع وجعلها غطاءً تبريرياً يخفي الصراعات بين الكتل والجماعات، ويجردها من مغازيها وأهدافها السياسية العامة، وما تعكسه من اختلاف في المصالح الاجتماعية. إن فصل الفكرة عن منتِجها، وفصل نشاط المنتِج العقلي والروحي عن الواقع الاجتماعي الذي أنتجه، وفصل هذا الواقع عن علاقات الإنتاج الاجتماعية هي الأساس النظري لفكرة موت الأيديولوجيا وصراع الحضارات.
فإذا كانت الفلسفة الألمانية السابقة للمادية الجدلية تجعل من السماء دائماً نقطة البداية، فإن نظرية موت الأيديولوجيا، التي تعترف شكلياً بوجود أراضٍ ثقافية متعددة تكوّن عناصر الاختلاف بين الناس، تلغي إمكان معرفة الأسس المشتركة للثقافات البشرية، وتنفي أو تزيّف في الوقت عينه وجود واقع ينتج هذه الثقافات. وعلى الرغم من هذه الإنكارية السافرة، تزخر خطابات كبار الزعماء الأميركيين، كالرئيس الأميركي جورج بوش، بالرسائل السماوية، التي تشير إلى السلطة الأولى، فوق البشرية، التي ألزمته باتخاذ قرارات تسيير جيوشه عبر القارات. الغزو، النهب الاستعماري، الاحتلال، الهيمنة الثقافية والاقتصادية، وحتى جرائم القتل السياسي تفرغ من محتواها الأخلاقي والإنساني وتتحول إلى سلسلة من العمليات الفنية والنشاطات الفردية، التي ترتبط بالمهارات العسكرية والعلمية أو القدرات الإعلامية، والتباين الثقافي في المعارف والأمزجة وسبل تقويم الظواهر، وترتبط بسوء الحظ أو حسنه وبالعوامل النفسية. غزو العراق تحت حجة أسلحة الدمار الشامل خطأ فني في حسابات جهاز للمخابرات، لا تترتب عليه عواقب سياسية وقانونية وأخلاقية واقتصادية، ولا يتضمن سؤالاً عن عائدية جهاز المخابرات هذا إلى نظام سياسي معين، وانتساب هذا النظام إلى «حضارة» معينة؛ لأنه خطأ مجرد، خطأ خالص، مفرغ من أي مضمون يمكن إدراجه ضمن نسق فكري وسياق أيديولوجي.
هنا تضمر أو تموت الأيديولوجيا. لكن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وقائع سياسية بامتياز، تشترط الرد والردع والحماية القانونية وتكوين جبهات عسكرية عالمية وفق حسابات وشراكات أيديولوجية باسم «المجتمع الدولي» و«الشرعية الدولية». هنا تعود الأيديولوجيا إلى الظهور، تعبيراً عن المصالح الموحدة. أحداث سجن «أبو غريب» مثلاً تمّ تحويلها إلى سلسلة مجردة من أفعال قام بها أفراد ضد جماعات غامضة، مطموسة الهوية (لا نزال نجهل أسماءهم)، أُحيل بعض صغار المتهمين على القضاء، وأُصدر حكم بحق بعض هذا البعض، ثم غُيِّر اسم السجن، وبذلك أُغلق كتاب الأيديولوجيا!
ما البعد الأخلاقي والوطني والثقافي والقانوني المترتب على هذا الفعل؟ كم مثقفاً، كم عالماً، كم باحثاً عراقياً درس هذه الظاهرة؟ أهذا الفعل جزء من سلوك فردي، لهواة تعذيب، تسللوا خلسة إلى نادٍ ليلي وأحدثوا خللاً طارئاً في برنامج عروضه، وذهبوا إلى حال سبيلهم، أم أنه جزء من بنية مؤسسة دولية ذهبت علناً إلى أبعد نقطة في الأرض لكي تمارس وظيفتها العالمية «الحضارية» وتنفّذ «رسالتها» الإنسانية؟ ولو أن هذا الحدث وقع حقاً في نادٍ أميركي ليلي، بصورته التي تمّت في «أبو غريب»، لأضحى مادة عظيمة الأهمية لدراسة الاتجاهات السلوكية ودوافعها في المجتمع الأميركي كله.
استناداً إلى منطق دعاة موت الأيديولوجيا، تغدو حتى أكثر البنى الاجتماعية تخلفاً، كالقبليّة، مادة لبناء المجتمعات الجديدة، الحرّة. ففي العراق استؤجر مثقفون محليون لغرض اكتشاف الخصائص الإيجابية للتكوينات العشائرية وتمجيدها وتوظيفها لمصلحة الواقع الجديد؛ على الرغم من أن هذه البنى «متخلفة» و«رجعية» و«معيقة» و«كابحة» للتقدم العلمي والاجتماعي والحضاري وفق قوانين أصحاب نظرية موت الأيديولوجيا أنفسهم. هنا لا يهم إذا كان التاريخ الاجتماعي يمضي إلى الوراء أو إلى الأمام. ومن طرائف السياسة في العراق أن بعض المتحمسين اقترح، لغرض تصحيح فشل الشيوعيين في الوصول إلى مجالس المحافظات انتخابياً، التوجّهَ إلى العشائر لكسب ودّها، بدلاً من التوجه إلى الشعب، وإعادة النظر في التحالفات، والكف عن محاربة قوى اليسار والعمل على توحيدها. وبهذا التسابق المخجل يضرب هؤلاء عرض الحائط المبادئ الأساسية للتقدم الاجتماعي. فإعادة الحياة لمثل هذه البنى، وإن درّت أرباحاً حزبية للبعض، إلا أنها كالمحاصصة، تتعارض تعارضاً مطلقاً مع فكرة سيادة الدستور الوطني، وحقوق المرأة، والحرية الشخصية للمواطن، ومبدأ وحدة القوانين المدنية ومركزيتها. السرقة وسيلة للربح أيضاً، العنف وسيلة أخرى، التزوير، النهب… إلى أين نمضي؟ لا يهم، فالعقيدة الجديدة السائدة هي الفوضى الروحية والسلوكية. لقد أنتج هذا الجمع الغريب للأفكار المتناقضة «خلطة» ثقافية شاذة: الإيمان بالزواج الحر ليلاً على طريقة اينيس آرمان وبالقبلية نهاراً على طريقة مشعان بن ركّاض! حتى أمثلة الماضي العدوانية والبشعة سُخِّرَت لخدمة الدعاية وتفريغها من محتواها التاريخي، حيث جرت إعادة ترتيبها وفق معادلات مجردة من أي دلالات ثقافية وحقوقية واجتماعية؛ فهولاكو مثلاً، أصبح نموذجاً للنجاح السياسي ورقي المهارات العسكرية! أما عواقب تلك المهارات، كمحارق الكتب والمذابح ونهب كنوز الثقافة والمال وقطع سياق التاريخ فهي تلفيقات مشكوك فيها، ونوازع ثأرية يروجها السكان المحليون ضد المنتصر، كما روج الهنود الحمر أكاذيبهم ضد المستوطنين البيض، وروّج هنود أميركا الجنوبية ضد الغزاة الإسبان، وروّج سكان جنوب أفريقيا السود ضد نظام الفصل العنصري، ويروج الفلسطينيون الآن التهم ذاتها ضد قادة إسرائيل الديموقراطيين. فمعركة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني معركة فنية ـــــ إعلامية، تتعلق بمواسير صاروخية بربرية، مقابل ألعاب نارية من أعلى طراز تطلقها الطائرات والمدفعية والدبابات، ولا تتعلق بالحق والقانون والأخلاق والتاريخ والمواثيق الدولية والإنسانية. فشعب إسرائيل لم يعد يحتمل صوت ماسورة صاروخية تطلق عليه، أما الشعب الفلسطيني فلا صلة له بمبدأ الاحتمال والصبر، لأنه مجرد من المزايا البشرية، وعليه أن ينتظر بصمت الحجر قرناً آخر من الاحتلال البشع.
لهذا السبب نرى أن الاحتلال الأميركي للعراق مثلاً لا يحتل ولا يغزو ولا يسيطر ولا يستعمر ولا يقتل ولا يدمر ولا ينهب أو يُفسد أو يعتقل، بل هو مجرد حلقات في سلسلة حركية محايدة: «تأتي» و«تذهب»، «تدخل» و«تخرج»، «تتمركز» و«تنسحب»، «تُوقف» و«تُحرّر»، توقّع عقوداً وترفض أخرى، طبقاً لتعابير مثقّفي الاحتلال. إنّ تجريد المجتمع المحلي موضع الدراسة من أبعاده الاجتماعية ومن ذاكرته التاريخية لبنة أساسية من لبنات نظرية موت الأيديولوجيا، لأن المعنيين بهذه النظرية يخلقون تاريخاً مفرّغاً من عناصر الصدام مع مشروعهم الخارجي، ومفرّغاً، في الوقت ذاته، من المسؤوليات السياسية والروحية والقانونية، المترتبة على أفعالهم.
إن تجريد الاحتلال من بعده الأيديولوجي هو أكثر الأهداف الأيديولوجية أيديولوجيةً في ثقافة الاحتلال؛ لأنه يجرّد الفعل الإجرامي من عواقبه الوطنية والإنسانية والأخلاقية والقانونية، ويحيله إلى مجرد حسابات ومهارات فنية وردود أفعال نفسية خالية تماماً من القيم: من يقتل أكثر صدام أم الأميركان؟ من ينهب الثروة أكثر؟ من يفسد أكثر؟ في مثل هذه الحسابات تُلغى ثلاثة عناصر أساسية من الواقع:
الفرد، والمجتمع كياناً ثقافياً، والتاريخ عنصراً جامعاً لسيرورة التطور. إن نظرية موت الأيديولوجيا تجعل من النهب والقتل والإفساد والتدمير واستصغار الإنسان واحتقار قيمته فرداً، سواء جاءت من صدام أو من بوش، أحداثاً لا تقع على كاهل المواطن والمجتمع المعني، بل هي حلقات مغلقة من الوقائع تجري في سياق خاص بها، لا صلة لها بسلسلة تطور الواقع والإنسان؛ وفي هذا الموضوع، يكفي المواطن أن يفوز بحياته، ثمناً وحيداً، وهبة سياسية، مقابل حق الانتقال إلى حقبة زمنية جديدة. إن فكرة موت الأيديولوجيا تجريد تام للتاريخ البشري من مضمونه الإنساني ومغازيه العقلية.
إن مراقبة دائرة التحالف السياسي في العراق، وفق نظرية موت الأيديولوجيا، تبيّن بوضوح تام حجم الربح الذي حققه أصحاب المشروع الثقافي المستجلب من الخارج. ففي العراق يتحالف القوميون الكرد ومسلحو العشائر والمجلس الأعلى الإسلامي والقوى المناطقية السنية أو الدينية كالحزب الإسلامي والشيوعيون ودعاة المشروع الإسرائيلي والقوميون العرب في جبهة موحدة تحت راية المحتل وما يعرف بالعملية السياسية. هذا الانتصار السياسي الواسع واللافت يعني أن الشيوعي، صاحب الرسالة الطبقية مثلاً، قبل طوعاً بتجريد الاحتلال من صفاته الطبقية ودوافعه الاقتصادية وأغراضه السياسية والثقافية، لمصلحة حسابات يعتقد أصحابها الجهلة أنها رابحة ومفيدة حزبياً، وهم يدركون ويثقفون رفاقهم يومياً بأن تلك الأسس هي قوام النظرية الشيوعية، من دونها لا يجوز للشيوعي أن يسمي نفسه شيوعياً، كما تنص النظرية الشيوعية نفسها، لأنها علامته السياسية الفارقة. ومن جانب آخر نجد حزباً، كالمجلس الأعلى الإسلامي، المتزمت دينياً، الذي هو أقل ارتباطاً بالوطن من الحزب الوطني الديموقراطي مثلاً، يقوم بغض الطرف عن الخلاف الديني والأخلاقي والروحي والثقافي والاجتماعي والإقليمي والقومي، لمصلحة تغليب التحالف الرامي إلى تقاسم مواقع الحكم مركزياً ومناطقياً، أي الاستيلاء على الوطن كله، أو تفتيته إن فشلوا في تحقيق ذلك. فعلى سبيل المثال، سمحت شرطة المجلس الأعلى، التي تهيمن على أجهزة وزارة الداخلية، ببيع وترويج أقراص الأفلام الجنسية والحبوب المخدرة علناً في أشهر ساحات بغداد لمدة ست سنوات ولم تزل!
كيف نفسر هذه التسامح الثقافي الأخلاقي سياسياً ودينياً؟ كيف تسامح التكفيريون، من مختلف الاتجاهات، مع هذه الظاهرة، ولم يتسامحوا مع مواطن جريمته الوحيدة أنه حمل اسم عمر أو علي، أو مع حلاق، أو مع بائع أغاني ناظم الغزالي؟ إن نظرية موت الأيديولوجيا جزء من نظام إعادة هيكلة الأيديولوجيا لمصلحة قوة منتصرة، عظيمة الجبروت، تستطيع توظيف مكونات العناصر المختلفة في وحدة شكلية، فوقية، خارجية، قائمة على المنافع الحسية المباشرة، من دون النظر إليها كعلاقات مجتمعية ضمن ترابطها الوطني والإقليمي والدولي سياسياً، ومن دون النظر إلى صفتها التاريخية، والأهم من هذا كله، من دون النظر إلى أسسها المنطقية، باعتبارها منظومة فكرية متحدة، وليست مجرد شذرات متفرقة من أفكار مشتتة ومبعثرة…
إن أكذوبة موت الأيديولوجيا، التي سادت في فترة تصاعد فكرة صراع الحضارات، حققت نصراً سريعاً وحاسماً، حينما رفعت من شأن التيارات السلفية الإسلامية المتطرفة، جاعلةً منها عدواً أيديولوجياً مزيفاً، بديلاً ووحيداً؛ بهذه الخطوة نشأ صراع مفتعل، لكنه دموي، تحت راية الاختلافات الحضارية وتعدد الثقافات؛ صراع بين قوة سلفية ميتة الأهداف اجتماعياً، مشلولة الحركة تاريخياً، تعتمد استسهال الصراع، وتتخذ من شكله السطحي الخارجي جوهراً: العنف المفرط، والتزمت المفرط، والانعزال المفرط. وبذلك فإن نتائج هذا الصراع أضحت محسومة سلفاً لمصلحة القوة الأساسية المهيمنة على العصر؛ وإذا اتحد هذا العامل بالعامل السابق، المتمثل في قيام جبهات التحالف المحلية الموسعة المؤيدة لمشاريع الاحتلال الأجنبي، نجد أن النتيجة لا تحتاج إلى تفسير أو اجتهاد: فوز مطلق وعظيم لفكرة صراع الحضارات، بديلاً لصراع الأيديولوجيات، التي هي في جوهرها الاستثمار الأمثل للصراع الأيديولوجي في صيغته المنتصرة، حيث تصبح أيديولوجيا المنتصر هي القانون السائد حتى لدى معارضي الأمس، وحتى لدى بعض الذين يتناقضون معه شكلياً أو ظاهرياً لأسباب تاريخية كالشيوعيين مثلاً أو الإسلاميين سنة أو شيعة. أي تغدو الأيديولوجيا المنتصرة أيديولوجيا كليّة، معممة، لا بدائل لها، وما الخروج عن مقاييسها سوى صراع ضد التاريخ، وضد الحضارة يصبّ في دائرة الإرهاب. لأن العالم ينقسم إلى «نحن» و«هم». وهذه إحدى أهم نقاط تفوق صواريخ إسرائيل الفتاكة على مواسير حماس الصاروخية الدعائيّة. أما نتائج هذا الصراع على المستوى المحلي فباهرة وتاريخية حقاً، لكنها مناقضة لسيرورة التاريخ الإنساني. إن النتيجة الماثلة أمامنا الآن تتكون من سيادة خيارين: السلطات المتخلفة القائمة، التي غذت وأسهمت بصناعة الإرهاب وإنتاجه، والقوى التكفيرية الإرهابية. وهي معادلة مجيرة لمصلحة ما سُمّي «فريق الاعتدال». وهذه هي نقطة الالتقاء التاريخية بين النظم المحلية المتخلفة وأصحاب نظرية مكافحة الإرهاب دولياً. فعلى سبيل المثال، أضحت المقاومة جزءاً من بنية الإرهاب، بعدما كانت، في الأعم، مزية يسارية. لماذا؟ لأن نظرية الخيارات هي التي تحدد طبيعة الظواهر وتكسبها ألوانها الظاهرية.
يعمل مروجو فكرة موت الأيديولوجيا على فصل الوعي الحقوقي والأخلاقي والسياسي والفلسفي عن أساسه المادي والاجتماعي وإحالته إلى مجرد إشكالات ثقافية فوقية، أو صراع حضارات، وإلى صيغ مفهومية خالصة ناتجة من مفاهيم أخرى، لا باعتباره إدراكاً للوجود. إن فصل الإيديولوجيا عن أساسها المادي وعن التاريخ هو محاولة تمويهية تهدف إلى حبس الصورة في عدسة العين، وعدم تمكينها من الانفلات من شبكية العين كصورة منعكسة عن واقع موضوعي، تفسر هذا الواقع في هيئة مفاهيم وتصورات. أما التاريخ فيغدو جمعاً لوقائع سكونية، ميتة.
يحاول بعض دعاة موت الإيديولوجيا من اليساريين المؤيدين للعنف الدولي التمترس خلف ضرب جديد من الليبرالية المصطنعة، من طريق ربط الصراع الثقافي بفكرة استقلال الوعي النسبي عن مصادر إنتاجه. لكنهم يجعلون من استقلال الوعي حجة تهدف إلى إنكار شروط إنتاج الوعي المادية ـــــ العلاقات الاجتماعية وإنتاج القيم وتأثير الطبيعة ـــــ وبذلك يحققون عودة إلى الوراء في منظومة تطور الفكر، ويقيمون ردة معرفية تتناسب مع واقع وجود قوى تحتكر إنتاج القيم المادية عالمياً، ووجود جموع هائلة مستهلكة مغتربة تماماً عن عملية الإنتاج، ما يُعطي للمنتج الأقوى (المحتكر) أفضليّة مطلقة، لا في تصريف الإنتاج والتحكم بمصادره وحسب، بل أيضاً في إنتاج الأفكار المرتبطة به…
إن أنصار صراع الحضارات يحيلون الصراع الثقافي إلى صراع بين مفاهيم وفق قانون الفوضى، الذي يتناسب في لامنطقيته ونفعيته وسطحيته مع ضحالة فكر المؤسسة الدولية الحاكمة، وتهافت فكر أيديولوجيي المنظومة الفكرية السياسية الأميركية بزعامة المحافظين الجدد. إن فصل الوعي الثقافي عن بنيته التاريخية والمادية: علاقات الإنتاج، وفصل هذه العلاقات عن أساسها الواقعي هو العنصر الجوهري في نظرية موت الأيديولوجيا، التي هي محاولة للتستر على سيادة أيديولوجيا محددة.
لقد وقع كثيرون من دارسي عقيدة المحافظين الجدد في الاضطراب وسوء الفهم وهم يحاولون حصر هذا الاتجاه فكرياً في تيار فلسفي محدد. وسببب هذا الفشل يعود إلى أن هذا التيار نفسه يقوم على صيغة تجميعية، ملفقة. فهو يجمع بين بعض تراث التجريبية والنفعية، اللتين تطورتا بصورة خلاقة على يد روادها الأميركان الكبار فلسفياً وتربوياً: وليم جيمس وجون ديوي، مع الاتجاه التوراتي، على الرغم من التضاد في المسارين من الناحية التطبيقية. وهذا التضاد شأن واقعي، لا نحتاج ـــــ من أجل فهمه ـــــ أن نقوم بتخفيف حدته أو تجاهله، على العكس يجب أن يؤخذ كحقيقة. فاتجاه المحافظين الجدد يجمع نظرياً بين تراث التجريبية النفعية في صورتها المبتذلة، ممزوجة بمثالية لاهوتية. على الرغم من تضاد التجريبية والعقلانية تاريخياً، وعلى الرغم من تحول النفعية (البراغماتية) إلى عدمية خالصة حينما تتعلق بتفسير الآخر لا الذات. إن هذا المزيج هو انعكاس واضح لمجريين واقعيين: ارتباط هذا الاتجاه بحركة سياسية محددة تقتضي النفعية والتجريبة في حركتها اليومية أولاً، وثانياً محاولة السيطرة على وعي الأمة الأميركية، التي تتميز بالعزلة الثقافية وبسطوة الاقتناعات الدينية الغامضة، التي يقترب في سطحيتها من الإيمان السلفي. إن هذا التضاد في أجزاء عقيدة الأيديولوجيين الاميركيين المسيرين للحياة الروحية، لا يلغي عناصر وحدتها الداخلية، فهي تملك قدراً من التجميع النسقي كوحدة خاصة حينما تعبّر عن ذاتها وتطبق مفاهيمها على ذاتها؛ لكنها تصاب بالاضطراب الشديد حينما تُطَبَّق على الآخر، فيغدو الآخر مباشرة عنصراً معادياً وغريباً لا يمكن استيعابه إلا من خلال استخدام معايير العدمية السياسية الخالصة وفوضى المنطق. ويسري هذا التضاد حتى على الفكر السياسي الأوروبي، حينما يتعارض هذا الفكر مع سياسة الإدارة الأميركية ومشاريعها، حيث تغدو أوروبا فجأة «قارة قديمة»، أي أقل قيمة من الناحية القيادية. لذلك تحمل عقيدة المحافظين الجدد استصغاراً للآخر يقترب إلى حد كبير من أن يكون تمييزاً خاصاً، قوامه المواطن الأسمى، الذي يتفوق على الآخرين بقدراته الخارقة وهيمنته المطلقة، التي هي جوهر النظرية العنصرية. ونتيجة لهذا، يتمتع المقاتل والسياسي الأميركي ومن يخدم معه بحصانات مكفولة دولياً ضد القتل وجرائم النهب وضد المحاكمات خارج الولايات المتحدة. فهو الطور الجديد من أطوار الإنسان الخاص، «السيد»، المعترف به حقوقياً من الجميع. إن هذا الخليط الذي يشبه الفوضى العقلية هو القاعدة التي انطلق منها وزير الدفاع السابق رامسفيلد، حينما وصف ما يحدث في العراق بأنه الفوضى الخلاقة، والتدرب على ممارسة الحرية. لم يكن رامسفيلد سوى مترجم صادق، يجمع بين عامية الفكر وغايات القائد العسكري، لكنه يلخص على نحو مركز جوهر فكر المحافظين الجدد واتحاده بسياسة الأحزاب الحاكمة.
بعض اليساريين العرب، الذين فقدوا مرتكزاتهم السياسية عند سقوط المنظومة الاشتراكية، وفقدوا مرتكزاتهم النظرية والفلسفية بخفوت صوت الشيوعية وصعود نظرية موت الأيديولوجيا، وجدوا ضالتهم في الفوضى الفكرية، التي أتاحت لهم حرية التصرف من دون قيود عقلية أو أخلاقية أو منطقية، تعويضاً عن نقص جدي في درجة وعيهم للنظرية، التي ادعوا نفاقاً أو تكسباً، الإيمان بها سابقاً، فنراهم يصفقون لصواريخ إسرائيل تحت حجة محاربة حماس، ويمجدون حسني مبارك تحت حجة محاربة الإرهاب، ويصطفون مع أكثر الحكام والسياسيين تخلفاً وابتذالاً لأنهم يعارضون «سلفية» حسن نصر الله! إنها فوضى العقل في أردأ نسخها. فإذا كان اغتراب هذا الفريق سابقاً نظرياً، بسبب انتسابهم الكاذب إلى أيديولوجيا خدموها من دون إيمان وفهم حقيقيين، فإنهم الآن يغتربون نظرياً وعملياً، بانضمامهم إلى تيار الفوضى العقلية والعدمية السياسية!
بعد سقوط الكتلة الشيوعية وهبوط صوتها الأيديولوجي إلى درجة الصفر، وانتخاب الحليف السابق، المتمثل في التيارات الإسلامية التكفيرية عدواً أول، وقعت الأيديولوجيا المنتصرة في مأزق تطبيقي حاد، غير قابل للحل. فالتيارات الإسلامية التكفيرية لا تكوّن بذاتها قوة قيادية تمكنها من التحول إلى منظومة عقلية، عقائدية، شاملة، أي أيدويولوجيا؛ وظلت هذه التيارات لا تعدو أن تكون سلوكاً لجماعات متفرقة وأجنحة مذهبية ترتبط ثقافياً بمحيط واسع المصالح والأوجه سياسياً واجتماعياً، يمتد من الجزائر إلى إندونيسيا، ويضم في ثناياه تجارب متنوعة تجمع تركيا بالمملكة العربية السعودية، وماليزيا بإيران، وتكون بمجموعها النسيج الثقافي الإسلامي العام، المتعدد، والمتباين في أساليب إدارة الحكم وتوزيع الثروة وطرائق المعيشة والتفكير. لذلك تطلب الحال أن يكون العدو ثقافياً، لا أيديولوجياً، وأضحى صراع الحضارات لا يقوم على صراع كتل أيديولوجية، بل على أساس صراع ثقافات أو تكوينات وتيارات ثقافية معينة في مواجهة أخرى، بديل لصراع الأيديولوجيات. إن صراع الحضارات، بمفهومه الراهن، هو محاولة لتكييف الأيديولوجيا لمقتضيات مرحلة انتصار القوة الواحدة، في ظل عدم ظهور جبهة عقلية فاعلة، متجانسة، نقيضة جذرياً، ذات طابع عالمي شامل، ترتقي إلى مستوى النسق، وتستطيع أن تكون خصماً أيديولوجياً، أو بديلاً أيديولوجياً. ولهذا السبب ترافقت فكرة موت الأيديولوجيا مع فكرتي صراع الحضارات وموت التاريخ، لأنها نتاج لعقل مشترك، وتعبير متنوع التسميات عن مصالح سياسية واحدة، تؤلف بمجموعها مذهباً عقائدياً (أيديولوجياً ) واحداً، نابعاً من خلائط تجمع بين النفعية التجريبية والعدمية السياسية. ووفق هذه النظرية يمكن تغيير التاريخ من خلال تغيير الأفكار، وهو قول يذكّر بمقولة وليم جيمس: «تتغير حياة الناس بتغير مواقفهم الفكرية»، لكن من دون وضع أسس اجتماعية لعملية التغيير هذه، لأن الصراع والتباينات، لدى أصحاب هذه النظرية، ليس صراعاً على مصالح مادية واجتماعية واختلافات تاريخية بل هو اختلافات حضارية، أي اختلافات ثقافية خالصة، واختلافات في طرق التفكير. بيد أن المفارقة العقلية الكبرى المتعلقة بخرافة موت الأيديولوجيا تكمن في أن بعض أتباع الأحزاب الأكثر تعصباً وجموداً إيديولوجياً، وتحديداً العقائديين من ستالينيين وقوميين شوفينيين، أضحوا، بطرفة عين، الدعاة والمروجين الأساسيين لهذه الخرافة، إحساساً منهم بضرورة اغتنام الفرصة لغرض قبر ذكريات جمودهم العقائدي وإخفاء إخفاقاتهم النظرية والفكرية، وطروحاتهم الثقافية السطحية والعامية، وتجاربهم الشخصية الفاشلة، وعلى رأس هؤلاء تقف بعض التيارات اليسارية سابقاً، المسايرة حالياً لمشاريع القوة الدولية والاحتلال.
الوحدة الأوروبية مطلب حضاري، تقدمي، مشروع، لكن الوحدة العربية مطلب رجعي، مريب، لأنها تمس مصالح إسرائيل والدول الاستعمارية والنظم العربية المحلية المتخلفة. المفاعل الذري الإيراني عدواني، لكن المفاعل الإسرائيلي بريء. أما المفاعل الباكستاني فهو بريء ومريب في الوقت عينه، تبعاً لتذبذب ميزان التوجه السياسي داخلياً وخارجياً. حزب العمال الكردستاني التركي إرهابي، لكنه أمر واقع في الوقت ذاته. منظمة مجاهدي خلق تنظيم إرهابي وأمر واقع؛ القبلية بنية متخلفة ـــــ من منظور صاحب النظرية نفسها ـــــ وأمر واقع؛ وفي بعض الحالات يُعاد بعث الميليشيات والنوازع والبنى الاجتماعية والروحية الميتة تاريخياً وتصنيعها من العدم لغرض إنتاج أمر واقع مقرر سلفاً.
الفساد المالي والإداري أمر واقع. ويصل الأمر حدوداً بالغة التطرف حينما تُهدَم أسس المجتمع لصناعة أمر واقع مفترض، يراد من ورائه بناء سلسلة من المعادلات المفرّغة من شروط ترابطها، مقطوعة الصلة عن سياقها.
ففي مرحلة الحصار وحدها، وطبقاً للبيانات العسكرية الأميركية الرسمية، دُمِّر أكثر من ثلاثة آلاف مؤسسة رئيسية من المؤسسات الإنتاجية العراقية، تحت شعار «إعادة العراق إلى العصر الحجري»، وهي مؤسسات تعود ملكيتها إلى الشعب العراقي لا إلى صدام، إلا في نظر مروجي الغزو، وأعداء الشعب العراقي. تمثّل خسارة هذه المؤسسات ـــــ ربحياً وفنياً ـــــ عبئاً ثقيلاً على عشرة أجيال عراقية مقبلة في أقل تقدير. تم ذلك لصناعة أمر واقع يسمح ببناء منظومة مفرغة من الترابط الوطني والثقافي، ومفرغة ظاهرياً من البعد الأيديولوجي. أي مفرغة من البعد السياسي سلاحاً محلياً للدفاع عن وجود وطني محدد، ومفرغة ظاهرياً من عدوانية المصالح الأجنبية، باعتبارها الحقيقة الوحيدة الكامنة خلف مشاريع القوة الدولية.
إن الحجة الأخيرة التي يستند إليها المروجون المحليون من أنصار نظرية موت الأيديولوجيا ونظرية إلغاء المحتوى الأخلاقي والاقتصادي والسياسي والتاريخي تستند إلى المبدأ نفسه: الأمر الواقع. ماذا بأيدينا أن نفعل إذا كان العالم الذي يحيط بنا هكذا؟ فأمريكا مثلاً هي الأمر الواقع، هيمنتها الجبارة هي الأمر الواقع، والتعامل معها هو الأمر الواقع الوحيد المتاح. يتساءلون ببراءة الأطفال: هل من العقل والحكمة محاربة الأمر الواقع، أم تقتضي الحكمة منا التفتيش في هذا الواقع لغرض الحصول على موطئ قدم فيه؟ هذا السؤال هو آخر الحجج التي تقوم عليها ثقافة القوى المحلية المؤيدة لنظرية موت الأيديولوجيا وحساباتها النفعية. مثل هذا التفكير مختل منطقياً وأخلاقياً، لأنه لا يفصل نفسه عن نظرية موت الأيديولوجيا، وفي أحوال كثيرة نراه يجتهد ليحشر نفسه في أحشائها، ليكون جزءاً مطيعاً وملتئماً مع كيان الأمر الواقع، المصنوع من الخارج. إن الهيمنة، أمراً واقعاً، لا تستطيع أن تفرض على القوى الاجتماعية الحيّة مشروعاً إرغامياً، كشرط وحيد لممارسة دورها في الواقع. إن التفتيش عن دور في الواقع لا يقتضي الخضوع لشروط الواقع القسري، بل يوجب التفتيش في الواقع نفسه عن عناصر ممكنة للتغلب على صعوبات النفاذ إلى هذا الواقع. وبعكس ذلك يصبح الجميع جزءاً عضوياً من منظومة الأمر الواقع وشروره وسيئاته: الاحتلال كأمر واقع، الهيمنة الاستعمارية كأمر واقع، السيطرة الاقتصادية والثقافية والسياسية كأمر واقع، القتل والتدمير والإرهاب والفساد كأمر واقع، وأخيراً الهزيمة السياسية والفكرية كأمر واقع… إن نظرية موت الأيديولوجيا هي بعث جديد لفكرة الأيديولوجيا المنتصرة، الأيديولوجيا التي لا تقابلها في الواقع سوى أيديولوجيا مختلقة، مصنوعة ومرتبة من الأيديولوجيا المنتصرة ذاتها، لكي تسهل عملية مواجهتها، وتسهل عملية تجميع الحلفاء ضدها، وتسهل إدارة التناقضات والتعارضات الكامنة بين أفرقائها.
إن نظرية موت الأيديولوجيا هي شعار عصر العولمة الدعائي المضلل، في مرحلة انتصار القوة الواحدة، وتحولها إلى قوة إرغامية، احتكارية، سالبة، في مواجهة التاريخ الثقافي والاجتماعي للإنسانية كافة. وهي شعار ينطوي على مفارقة عقلية مثيرة في حجم طرافتها. فدعاة هذه النظرية من اليساريين خاصة، الذين كانوا أكثر العصبويين الأيديولوجيين تحجراً وشكلية، هم الوحيدون الذين آمنوا، صدقاً أو نفاقاً، بالأكذوبة التي اختلقوها، جاعلين منها منظومة عقلية إلغائية، بديلة، تحل محل منظومات الفكر أجمع، مجسدين بذلك فكرة الانتصار النهائي للأيديولوجيا الطبقية الواحدة، أيديولوجيا ديكتاتورية الهيمنة العالمية.
إن أعظم انتصار حققه دعاة أكذوبة موت الأيديولوجيا في العراق المحتل هو قتل الجدل الثقافي في المجتمع العراقي، وغلق قوانين تطور التاريخ الوطني بإحكام وفظاظة تامين لمصلحة مشروع الاحتلال والقوى المتحالفة معه. وربما لم يرغب كثيرون رؤية هذا الانتصار كحقيقة مرّة. وعلى الرغم من ضرورة هذا الموضوع المصيري، إلا أنه لا يروق الجميع ـــــ سواء كانوا مساهمين فيه أو خارجه ـــــ الخوض فيه أو النظر فيه، لأنه يضع الجميع في مواجهة أنفسهم ومسؤولياتهم الحقيقية. إن إغلاق دائرة الجدل الاجتماعي هو الانتصار الأكبر للاحتلال الأميركي…
إن جريمة غلق آفاق الجدل الثقافي مهمة تولتها وقامت بها منهجياً القوى المحلية العراقية، المرتبطة بالمشروع الأميركي، كتمهيد روحي وعقلي للغزو، وكتهيئة نفسية لعملية التدمير الشامل للذات الوطنية. وقد أدت صحافة هذا التيار والوجوه الثقافية المرتبطة بالغزو ارتباطاً مباشراً دوراً قائداً لعملية وأد الجدل الوطني. وكان لصحيفة «المؤتمر» ورئيسها حسن العلوي، وصحيفة «الزمان» ورئيسها سعد البزاز، قصب السبق في ذلك. ومن مفارقات القدر المضحكة أن يعود هذان المنبران بأصلهما إلى أكثر أجزاء النظام الديكتاتوري رثاثة وعفونة.
شارك في تلك المهمة الثقافية «التاريخية» حلفاء محسوبون على التيار الليبرالي كتحالف الجلبي ـــــ مكيّة، والتيار القومي الكردي، وبعض عناصر التيار الديني، وقطاع واسع من الحزب الشيوعي، مع اختلاف درجة ارتباطهم بتلك التيارات. وكان للنشاط الثقافي الصهيوني دور مميز فيه. إن كل هذه التغييرات في اللوحة الثقافية تتطلب أن يُعاد تجديد أساليب النظر إلى الظواهر الثقافية، وأن يجري فهم ودراسة الواقع في ضوء الحقائق الماثلة، الناجمة عن تداخل تأثيرات ثقافة الاحتلال في بنية الواقع الوطني. فلم يعد العراق كما كان. نحن أمام عراق جديد، عراق مفرغ من مضمونه الوطني، مفرغ من عناصر وحدته، مفرغ من هويته الخاصة، عراق مصمم على أساس قوالب موت الأيديولوجيا، القائمة على فوضى المنطق، باعتباره التطبيق العملي الأمثل لنظرية فوضى الحرية، البديل الرث والمعاصر للعدمية السياسية.
* كاتب عراقي
الأخبار