شهادة في فيلم «برسيبوليس»: لا يفوّت!
نهلة الشهال
يعطيني اللغط الذي ثار حول محاولات منع فيلم مرجان سترابي، «برسيبوليس»، من العرض في لبنان، فرصة كي أعوض تأخري في الكتابة عنه يوم خروجه إلى الشاشات في فرنسا، ليس بسبب انتفاء الرغبة، بل على الأرجح انشغالا بالكتابة عن واحدة من المصائب المحيطة بنا…
الفيلم، بداية، قطعة فنية رائعة، ولعله من نوادر أفلام الرسوم المتحركة الذي يجمع في آن الوضوح التام والاحتفاء بالتفاصيل، فلا يضحي بأي منهما لمصلحة الآخر. وقد يكون انجاز الفيلم بالأسود والأبيض، أو فلنقل بالحبر الصيني احتراماً للمستوى الجميل من الرسم، هو ما يخدم تقنياً جانب الوضوح، وكان قد سطع في المجلدات الأربعة التي أنجزتها ساترابي، وهي في الأصل رسامة وكاتبة. ولكن الفيلم – كما الكتب – تزخر بالدقائق، كالزخرفات حين يلزم الأمر، نقلا لدواخل بعض البيوت أو الحدائق في إيران، كالفوارق في وجوه الأشخاص، وفي تعبيراتها…
أما ما يقوله الفيلم فلا يقل تعقيدا عن شكله. يسرد تاريخ إيران الحديث من خلال قصة عائلة الكاتبة المخرجة وبيئتها. لا يكتفي بالوقائع، بل ينقل عالم الطموحات والأمنيات، بقوة تبلورها، ثم بتلاوين تطورها، وصولا إلى نهاياتها، حيث الاحباطات غالباً، وإنما، دائماً، التمييز بين ما هو عرضي وما يبقى، رغم المآسي، جوهرياً. ينضح النص، والفيلم، بحب الكاتبة لبلدها، لكنه حب متخلص من الغباء، فلا يخلط بين الوطنية وبين تبرير الأخطاء المرتكبة. حين تتناول سترابي مرحلة الحرب الإيرانية – العراقية مثلاً، لا يشعر القارئ أو المشاهد أنها «تنحاز» إلى بلدها، بل هي تقول الظرف كما وقع، بموضوعية تفرض الرضا بها على الجميع، ثم تصف هول الحرب بشاعرية تعتمد على إظهار خوف الآدميين مما يجري خلالها، وفجيعة الخسائر، من إصابات أو موت الأصدقاء والجيران… وتمر على الآلة الدعوية المستخدمة لتجنيد الشبان ولدفع الفتية إلى الإسراع بالوصول إلى الجنة – قسوة قصة مفتاحها الذي يعطى لمن يتطوع منهم-، فلا تبالغ ولا تنتقل إلى الخطابة الإيديولوجية، بل تسرد خوف الأمهات وعبثية تطلب الحد الأقصى، وهي عملية لم تخل منها تعبئة على أية حال.
تعود إلى تجربة مصدّق وانقلاب القوى الغربية عليها جزعا على مصالحهم، فتقدم لنا سيرة عمها، المناضل الشيوعي الذي انحاز إلى مصدق ثم هرب عند وقوع الانقلاب عليه إلى موسكو، ثم عاد ليعتقل أيام الشاه ويعذب. وكيف أن الثورة الإسلامية أطلقت سراحه عند وقوعها، وهو كان يعلق عليها آمالا كبيرة بوصفها ثورة تحررية اجتماعيا وسياسيا، تسعى إالى تحقيق مصالح الطبقات الفقيرة وتناهض الأطماع الغربية في إيران. وكيف استمر يخفف من شأن الهفوات، على أساس أنها حال كل ثورة في بداياتها، إلى أن اعتقل واعدم. تغضب مرجان الطفلة يومها من الكون بأكمله بسبب خيانته لعمها، أو لحلم التحرر الذي يمثله. ولكن غضبها لا يخطئ طريقه: لا تنحاز بسببه إلى أعداء النظام القائم بل تبقى متمسكة بما أسميته المسائل الجوهرية، وهي في الحقيقة كتلة من القيم المحركة للسلوكيات والمواقف، تتناقلها هذه العائلة المتحررة والمناضلة بدءا من الجدة، نموذج تطلب التطابق مع النفس، مرورا بالعم، وصولا إلى والديها… ثم إليها هي نفسها التي انقضت حياتها وسط هذا السياق المأساوي، حالها في ذلك حال جيلها بأكمله.
وفي الحياة الفعلية، جسدت مرجان سترابي هذا النموذج، فخرجت على كافة شاشات التلفزة الأوروبية، وفي العديد من المقابلات التي حظيت بها بعد الجوائز التي حصدها الفيلم، ترفض التهديدات الأميركية بالحرب على إيران بحجة طبيعة النظام، فلم تهادن هذا الفكر السائد والمنافق مرة واحدة، وأبرزت كيف إنها فعلا أمينة لما أوصتها جدتها به: كوني متطابقة مع نفسك وقناعاتك، بلا تنازل ولا خداع بسبب دوافع مكاسب الحياة.
وهي تسرد بجرأة حياتها كشابة مراهقة في أوروبا حيث أبعدها أهلها، فلا تمارس هنا أيضا إي نفاق حيال ما قامت به. وفي السرد طرائف ممتعة، كما لحظات مؤلمة، وهي في جانب آخر تظهر التصورات النمطية السائدة في الغرب عن الإسلام والمشرق، وتحكي قسوة الحياة وما علمتها، ليصبح خيار موقفها نابعا من تجربة، خاضعا لها، وليس ترفا ذهنيا فحسب.
وفي واحدة من اشد لحظات الفيلم تأثيراً، تتذكر مرجان كيف أن عمها ذاك أعطاها بطة صغيرة مصنوعة من عجين الخبز في السجن. أعطاها الأولى عند خروجه من سجن الشاه، والثانية حين زارته قبيل إعدامه في سجون الخميني. وليست غاية المماثلة القول إنهما نظامان متشابهان، بل تحديد محركها هي، دافعها لتحقق منجزها: إنها مؤتمنة على وديعة! والحق أن الفيلم وقبله الكتب، أظهرت جدارة سترابي بحمل هذه الوديعة وإحيائها.
سيصاب المتزمتون بصدمات عديدة إذا ما قبلوا بمشاهدة الفيلم: العلاقة مع الله وهي متكررة، فيها لحظات غضب، وفيها ذلك المقطع الجميل حين تحاول سترابي الشابة الانتحار، فيعيدها الله إلى الحياة قائلا «لم يحن وقتك بعد». العلاقة مع الممارسات الحياتية، من شرب وجنس وسواهما، وهي لا يمكن أن تختزل إلى اسود وابيض، ولا الناس حيالها…
لا يُلخّص هذا العمل، بل يُشاهد.
الحياة – 20/04/08