ما جدوى الشِّعر اليوم…صَيْحَةٌ لِإطْلاقِ النَّارِ
صلاح بوسريف
[1]
ـ الشِّعْرُ ليس مُهِمّاً في الحياة، وهي تُوجَدُ بدونِهِ.
حتى عندما لا تَكْتُبون، فالحياة تَسْتَمِر، وتسيرُ، دون حاجةٍ إلى شِعْرٍ.
ـ لِنَتَّفِق أوَّلاً عن المعنى الذي تُعطيه للشِّعر، وكذلك عن مفهُومِكَ للحياة، آنذاك، قد أُوَافقُكَ، أو أُخالِفُكَ في ما تقولُهُ. لنبدأ أوَّلاً بالشِّعر…
[2]
حَدَثَ ما كُنْتُ أتَوَقَّعُهُ، فصاحِبِي لَمْ يُقَدِّمْ لِي معْنىً مُحَدَّداً للشِّعرِ، رُبَّمَا لأنَّهُ أدرك، حينَ بَاغَثْتُهُ بمعنى ما يقصدُهُ بالشِّعر، أنَّ كلمة شعر أوْسَـع مِمَّا يتصَوَّر، وأنَّ ما حملتهُ الكلمة عبر تاريخها من معـان، أَرْهَفَ ماءَها، وجعلها نَهْـراً مُتَدَفِّقـاً، لا يُمكِنُ القبضُ على جَرَيَانِهِ. فاستعمالُ المفاهيم، باتَ اليومَ من المُسَلَّمات التي لا نسألُ عن معناها، ولا نذهبُ في أقصى تقدير، إلى ما قد يكون تَمَلَّكَها من تَسْمِيَاتٍ. لهذا فنحنُ اليومَ، حين نستعملُ التَّسْمِيَةَ، نستعمِلُها عاريةً؛ تعني كُلَّ شيء، ولا تعني شيئاً. هذا، ما يجعلُ في تَصَوُّرِي، بعض النَّاسِ، مثلما حدث مع صاحبي هذا، يذهبُونَ إلى وَضْعِ الشِّعر في مُقابِلِ الحيـاة، وكأنَّ كَاهِلَ الحياة، لا يُثْقِلُهُ إلاَّ الشِّعر! لِذَا، على الحياة أنْ تُخَفِّفَ هذا العبءَ! أو تتخلَّصَ منه؛ أن تَحْدُثَ بدون شعر، وكأنَّ الشِّعرَ وِزْر، أو ما يُشْبِهُ الوِزْرَ.
لم يكُن صاحبي ، وهو يُباغِثُني بكلامه، يُدْرِكُ أنَّ الشِّعرَ هو الفَتْقُ الوحيدُ الذي ما زالَ يُتِيحُ لنا أن نَشْرَبَ بعض أريجِ سَماءٍ نَأَتْ عَنَّا، منذ زَاوَلْنا الوُجُودَ كخطيئةٍ.
أليس الوُجُودُ قَدْفاً. أعني، أَلَسْنَا، في أساسِ وُجُودِنا مقدوفينَ؛ رُفِضْنا هناكَ بغضَبٍ، لِنُرْمَى هُنا، بشرط أن نُقَوِّمَ سُلوكَنا، وأن نعتذر عن خطأ، هو في أصله عِبْءٌ، حملناه، منذ أَزَلٍ، ما زال إلى اليوم يُبَاغِثُنا.
فأن نحيا، معناهُ أن نغسِلَ أيْدِينا من رائحة هذا الدَّمِ القديمِ، ونتطَهَّر من دَنَسِ هذا الوُجُود الذي هو في جوهره عقَابٌ، وليس امتيازاً.
[3]
يُقَالُ، وهذا ما أَوْرَدَهُ القُرَشِيُّ في كتاب ” جمهرة أشعار العرب.. “، أنَّ آدم حين قُتِلَ أحد أبنائه بكاهُ بأبيات من الشِّعر، وأنَّ إبليس استعملَ الشِّعرَ ليتشفَّى فيه. ما يعني، أنَّ الشِّعرَ بدأ كخطاب لَوْعَةٍ و حُرْقَةٍ، أي بَدَأَ دَماً، وتعبيـراً عن حالَةٍ من الفَقْدِ والضَّياعِ. إلى اليوم، النِّساءُ عندنا، حين يبكين المَيِّتَ، يستعملن الكلامَ المُسَجَّعَ المُتَسَاوِيَ، أي القريب من الشِّعر، في صُورَتِه القديمة.
رُبَّما، منذ بُكاء آدم، أدركَ الإنسانُ، أنَّ اللَّفْظَ، أو الكلامَ، هو الوسيلة الوحيدة لمُخاطبة الحياة، و الاقتراب من شَرَاسَتِها، و أنَّ الشِّعرَ، بالذَّات، هو الخطابُ الذي، قد يُنَاسِبُ حَجْمَ المأساة التي وَجَدَ الإنسانُ نفسَهُ يعيشُها في مكانٍ، ليس هو مكانُه الأصلي. فهو هناك مقدوفٌ، مَرْمِـيٌّ في خلاءٍ، سيسعى لعمارَتِـه، ولِمَلءِ شُقُوقِهِ ببعض لَوْعَاتِ أنْفَاسِهِ المُشْتَعِلَةِ.
الشِِّعرُ، بهذا المعنى، كان نوعاً من المَلْءِ، والاسْتِئْنَاسِ، أو هو إعادة بناء لشيءٍ ما مُنْفَرِطٍ، ضائِعٍ، ومُتَلاشٍ.
[4]
في الشِّعر الذي نُسَمِّيه جاهلياً، أو ما وَصَلَنا منه، بدايةً من امريء القيس، كانت مطالع القصائد، وُقُوفاً على هذا المُتَلاشي، الضَّائع، أو المُنفَرِطِ. فالطَّلل هو بقايا مُكوثٍ حَدَث في المكان، لكنَّه امَّحى وتلاشى. ما تبقَّى هو مُجرَّد آثار، أو رُسُـوم يَدٍ دَرَسَت خُطُوطُـها، أو أوْشَكَت أن تمَّحِي بفعل الرِّيحِ التي لا تفتأ تُخفي أثر العابر، وتنكُث وُجُودَهُ.
الشَّاعر في هذه المطالع، كان يُعيدُ بناء وُجودٍ مُفْتَقَدٍ. فهو كان يسعى لاستعادة أنفاس العابرين، ولِمَلْءِ المكان بروائح وأصوات، صوت الرِّيح وَحْدَهُ مَنْ صارَ يَعْبَثُ بها.
لا ننسى أنَّ المكانَ هنا هو الصَّحراء، وأنَّ الباديةَ، بمعنى الظُّهور والبُـدُوِّ، وما تستدعيه من فراغٍ، كانت هي فضاء الشاعر، بعكس ما سيجعلُ من أبي نواس مثلاً، في فترةِ المَلْءِ و البناء، أي في العصر العباسي، حين بدأت العمارةُ تنتشر، وبدأ الإنسانُ يُواجِهُ وُجُوداً مُمْتَلِئاً، أو شِبْهَ مُمْتَلئٍ، يرفُضُ مطالع الجاهليين، ويذهبُ إلى ” كتابة “، النصُّ فيها صار نوعاً من الوَصْلِ في المعنى، لا معانِيَ تُبْنَى في القصيدة و كأنّها خيامٌ تتجاوَرُ في غير اتِّصالٍ، أو وَصْلٍ. كُلُّ معنىً هو ” بَيْت “، أو بناء، كما يقول ابن رشيق، قائم بذاته، ليس في حاجة إلى ما قبله، ولا إلى ما بعدهُ.
[5]
القرآنُ كتابٌ.رغم طابعه الشَّفاهي، فهو، في أكثر من مَوْضِعٍ، أشارَ إلى الكتابة والقراءة، كما أشار إلى القلم و التَّسطير، أي إلى الخطِّ. لم يكُن القـرآن آلََةً، أو اختراعاً تقنياً ماديا، كما هو مألُوف عندنا اليوم. فهو مُجرَّد كلام!
فبماذا إذن، يُفيدُ الكلام؟
حين نطرح هذا السؤال، نكونُ قد وَضَعْنا كُلّ ما أنْجَزَهُ الإنسان، من معـارف وكتـاباتٍ، مَوْضِعَ امتحانٍ، بما فيه كلام الله. اسمحوا لي أن أجيبَ هنا، بأنَّ القرآن، ككلام، غَيَّـرَ نَفْسَ الإنسـان؛ ” لا يُغَيِّرُ الله ما بقـوم حتَّى يُغيِّـروا ما بأنفُسِهم “، أي غيَّرَ عقلَه وطريقتَهُ فـي التَّفكيـر. غيَّـرَ منظُورَهُ للحيـاة والأشياء. ولعـلَّ ما يَمَسُّ الإنسانَ في طريقـة تفكيره، وفـي منظُـوره، أو رُؤيته، أي في ذهنه، هو أهمّ ما يمكنه أن يجعل من الحياة تسيرُ بأكثر من وتيرة، و تحظى بهذه الصيـرورات المتواليـة، التي نُسمِّيها اليـومَ تقدُّمـاً، أو تطوُّراً.
حين لا يمسُّ الكلامُ نفس الإنسان، لا شيءَ يَحْدُثُ. ما يعنـي أنَّ الصيـرورةَ لا تحـدُثُ، ولا تَتِمُّ، و تبقى واقفةً في نفس مكانها.
كُتُبُ البدايات؛ تلك الكُتُبُ التي من خـلالها كان الإنسـانُ يُقْـدِمُ على تَسْمِيَـةِ الوجـود و الموجودات، أو لنقُل على تسمية الحياة، كُلُّها عملت على تَبْدِيلِ الأنْفُسِ، وهذا ما فعله القرآن ككتاب، كما فعلته قبلَه الكُتُبُ الأخـرى، وهي كُتُبٌ ما زالت إلى اليوم، تحظى بتأويلاتٍ وقراءاتٍ، لم تتوقَّف بعدُ.
اللُّغةُ المُدهِشَةُ، في صُوَرِها، كما في تراكيبها، وطُرُق بنائها، هي ما كان يَضَعُ الإنسان أمام نفسه، يعودُ به إلى شِغَافِ ذاتِه، وإلى دَمِهِ البعيد، أعني إلى ذلك الخطأ الذي ما زلنا نُزَاوِلُهُ. فكلُّ ما نَسْتَشْعِرُهُ من أفكار ومعاني، يأتينا من خلال اللُّغـة، من تلك المجـازات والتراكيب، التي وَضَعَتْنا في مُفْتَرَقِ كلام لم نكُن، أعني الإنسان، أَلِفْنَاهُ، لأنَّهُ غيَّرَ مجرى قُدُومِهِ، وأعادَ ترتيبَ الأنساب و العلائق، بطريقة جعلتنا نرى الحياةَ من منظور لم نتوقَّعْهُ.
ليس مُهِمّاً أنْ تُؤْمِنَ أو لا تُؤْمِن، بل المهم هُنا، أن تَسْتَشْعِرَ وَقْعَ الصَّدْمَة، التي وَضَعَنا هذا الكلامُ في مُفْتَرَقاتِها. مِنْ هُنا جاء ذلك الاحْتِدامُ الذي حَدَثَ بين خطابين: الشعروالدين.
وهو على أيٍّ، احْتِـدامٌ بين خطابينِ، كِلاهُمـا كان له تأثيـرُهُ و حُضُـورُهُ، وكلاهُما تَميّـَز بـ : ” فتنة ” قَوْلِهِ، كما في تعبير للجاحظ، أو بتلك ” الهَزَّة ” كما يقولُ الجُرجاني، التي كانا يُحْدِثَانِها في نفس المُتلقي. لهذا ليس غريباً أن يعمل الخطاب الديني، أعني القرآن، على تمييز نفسه ووَضْعِ لُغَتِهِ خارج سياق لغة الشِّعر،
وآليات عملها؛ ” وما علَّمْناهُ الشِّعرَ و ما ينبغي له” [يس69]، ” وما هو بقول شاعر ” [الحاقة 41]، ” بل قالوا أضْغَاثَ أحلامٍ، بل افتراهُ، بل هو شاعرٌ ” [الأنبياء 5].
[6]
الجرجاني في ” دلائل الإعجاز “، سَيَضَعُ يَدَهُ على سِرِّ هذه الفتنة، أو الهزَّة التي تأتي من كلام الله، و ما سيجعلُ من هذا الكلام يخرجُ من سياق القصيدة، وآلات عملها. يقول:
“أعْجَزَتْهُمُ مزايا ظهرت في نَظْمِهِ، و خصائص صادفُوها في سيـاق لفظـه، وبدائع راعتهُم من مبادئ آية ومقاطِعِها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مَضْرِبِ كُلِّ مَثَلٍ، ومساقِ كُلِّ خَبَرٍ ” [ص39]. فنظمية القرآن، لا شعريتَه، هي ما سيجعلُ من هذا الكتاب ينأى بنفسه عن الشِّعر، ويُحْدِث مَجْرًى في الكلام، لا سابقَ له في كلام العرب.
أبو العلاء المعري، ضَاهَى كلامَ الجُرجاني عن القرآن، بكلامٍ آتٍ من الشِّعر، واختارَ أن يرى في شعر المتنبي مُعْجِزاً. والكتابُ المنسوب إليه ” معجز أحمد “، بما تحمله التَّسْمِيَةُ ذاتُها من إيحاءات، هو تأكيدٌ لهذا الاحتدام بين كلام الله، وكلام الإنسان، أعني الشِّعر.
[7]
حين اخْتَرْتُ أن أذْهَبَ إلى هذه الأماكن، فأنا لم أكُن أسعى لِتَثْبِيتِ مَزَايا خطابٍ في مُواجَهَة غيره، بل كُنتُ أُحاولُ وَضْعَ يدي على أهمية الكلام في حياة الإنسان، وعلى أهمية اللغة، حين تَخُوضُ أراضي الشِعر، أو النَّظم، أي حين تصير خَطراً، بالمعنى الذي أعطاه هايدغر لهذه الكلمة، في حديثه عن اللغة كـ ” أخطر النِّعَمِ ” التي وُضِعَت في يَدِ الإنسان.
باللغة، وهي تتحوَّل، من مَاءٍ إلى عُشْبٍ وشَجَرٍ، وإلى طُيُـورٍ تُزَاوِلُ نَغَمَها في أقصى الرِّيحِ، نستطيعُ قَلْبَ القِيَـمِ، ونستطيعُ تَبْدِيـلَ الأنْفُسِ، ومُوَاجَهَـةَ الحياة، في نَمَطِيَتِـها وتكرارها، في هذا اليومِيِّ الذي يَشْغَلُنا عن مُزَاوَلَةِ وُجُودِنا، ويَجُرُّنا نحو آلِيَتِهِ. أي ينقُلُنا من وَضْعِ الإنسان المُفَكِّر المُبْدِعِ، إلى وَضْعِ الإنسانِ الآلة، أو الإنسان المُغْتَربِ عن نفسه، والضَّائِعِ داخل أنسـاق التقنية ومجرَّاتِهـا الهائلة. أعنـي ذلك الاغتـراب الذي نعيشُه، دون أن نعي خَطَرَهُ على أنفُسِنا، وعلى ذواتنا، أي على وُجُودنا الذي هو إشارة فِعْلٍ، لا مُجرَّد انفعال و تَنْفِيذٍ.
هذه التقنية التي تسيرُ بنا اليوم نحو إلغاء مفهوم الإنسان، ورُبَّما نحو إلغاء كُل ما يجعلُنا أصحابَ قرارٍ.
أليست ” غاية الموجود هي أن يَجِدَ [أو يُجَدِّدَ] ذاتَه وسط الوُجـودِ “، ما يعنـي أن نَخْرُجَ من وَضْعِ المقدوفِ والمُغْتَرِب، أو مَنْ يُؤدي عُقُوبَةَ غَضَبٍ حَـدَثَ في أزَلٍ مّا، إلى وَضْعِ مَنْ يُعيدُ بناءَ وُجُودِهِ، وفق منظور، فيه تتآلفُ الطبيعةُ مع الإنسان، ويصيرُ التأمُّلُ والتفكيرُ، هما آلة صِلَتِنا بهذا الوُجُود.
أن نستعملَ التقنيةَ كآلة نظر، وكوسيلةِ عَمَلٍ، أي باعتبارها ” مجموعة سُلوكات عملية “، من خلالها نعمل على ” تحقيق بعض المتطلبات اليومية “، هو ما يُمكِنُه أن يجعلَ الإنسانَ، أو الحياة، لأبقى على صلة بصاحِبِي، لا تخـرجُ من سياق الوُجـود الإنساني الخـلاَّق، وتصير مُجرَّد وسيلة للاستجابَة لِما يَفِـدُ علينا من جهـاتٍ، هي مَنْ يُقَـرِّرُ مصائرنا، أو يصنع شكلَ هذا الوُجُود، أو الحياة بالأحرى.
[8]
مارتن هايدغر، هو أحد أبرز من خَاضُوا مُعْضِلَةَ العلاقة بين الشِّعر والوُجُود، أو ما للعبارة من أهمِّيَة في تَسْمِيَةِ هذا الوُجود، أو في إعادة تَسْمِيَتِهِ.
ولعلَّ الحاجـة إلى الشِّعـر اليـوم، أمـام ما نتَعَـرَّضُ لـه من غـزو تقنيٍّ وإعلامـي،وما تسعى الشَِّرِكاتُ العالميةُ الكُبرى، التي أصبحت تُوَجِّه الأسواق، وتستحوذ عليها، إلى تَرْوِيجِهِ من قِيَـمٍ يحكُمُها منطـق الاستهـلاك والاستجابة، هو ما دَفَع الكثيرين ممن يَحْرِصُونَ على مفهوم الإنسان المُفَكِّـر والمُبْدِع، إلى تبنـي الصَّوتَ الهايدِغِرِيَّ، وإلى اختيار الشِّعـر، أو الفن، عامةً، كخطابٍ، لا يُمكِنُ اسْتِشْعارُ رحابة الوُجُود،والمَوْجُودِ، معاً، إلاَّ من خلال ممارسته، والاقتراب منه، تأمُّلاً،وإنصاتاً، وكِتابَةً.
يقولُ هايدغر في عمله الأساسي Holderlin et L essence de la poésie :
” إنَّ الشَّيءَ لا يُوجَدُ وُجُودَهُ الكامِلَ، ولا يكتَسِبُ كيانَهُ، إلاَّ متى نطق الشَّاعِرُ بالعبارة الجوهرية التي تُسَمِّيه. ذلك أنَّ الشِّعرَ إنَّما هو تأسيس للموجود بواسطة العبارة “.
لسنا بصدد كلامٍ لا طائلَ من ورائه، أو ” أضغاث أحلامٍ “، كما جاء في التعبير القرآني، بل إنَّ العبارةَ، حين تكون تَسْمِيَةً، وحين تُقْبِلُ على الوُجـود كتأسيس، وكمُشارَكَة في خلق الأشياء، وإعادة ترتيب نظامِها، وصياغته وفق منظور جديد، فهي تكونُ قد مَسَّت نَفْسَ الإنسان، ومَسَّت عقلَهُ، ووِجْدانَهُ كامِلاً، وهو ما يفي بشرط الوُجود إرادَةً، لا بالوُجُود عَمَاءً، أو تَبَعِيَةً و انتظاراً.
[9]
يعود بي كلام هايدغر السَّابِق، وموقفُه من دَوْرِ العبارة في تَسْمِيَةِ الأشياء، إلى عبد القاهر الجُرجاني، الذي زَاوَلَ النَّظر من جِهَةٍ، كانت فيها العبارة، أو ” اللفظ “، كما يُسمِّيها، هي مدارُ ” النَّظْمِ “، الذي لا يتحقَّقُ ولا يُوجَدُ إلاَّ في الألفـاظ ” ولا سبيلَ إلى أنْ يُعْقَلَ الترتيبُ الذي تَزْعَمُهُ في المعانـي، ما لَمْ تَنْظِم الألفـاظ ولمْ تُرَتِّبْها على الوجه الخاصِّ“.
هذا ” الوجهُ الخاصُّ “، هو إعادةُ تَسْمِيَةٍ، لكن هذه المرَّة من جهة التركيب، لا من جهة اللَّفْظَة في فرادتِها.
ليسَ عَبَثاً أن تأتي كلمة المدير العام لمُنظَّمة اليونسكو، بمناسبة اليوم العالمي للشِّعر، لهذه السنة[2008]، لتُؤكَّدَ على دَوْر الشِّعرِ في اخْتِلاقِ اللُّغاتِ، وفي تَحْيينِها ووَضْعِها في سياق الحياة. فالشِّعرُ هو الخطابُ الأكثر قُدْرَةً على ابتداعِ المُستحيل، وعلى اجتراح المُفـارِقِ، والمُناهِضِ. واللُّغةُ تَجِدُ في الشِّعرِ الْمَرْعَى الأكثر خُصُوبَةً لابْتِذَارِ شَجَرٍ، ما أحوَجَ الغابَةَ إلى ظلالِه.
[10]
الشِّعرُ إذن، وفي سياق ما حاوَلْنا مُلامَسَتَهُ من قضايا تَهُمُّ دَوْرَ الكلام، أو ما لِلُّغَةِ من تأثير في نفس الإنسانِ، هو مثل الهواء الذي لا نَسْتَشْعِرُ وُجُودَهُ في حياتنا، لكننا بهِ نَحْيـا ونُوجَد.
لاَ نَراهُ
نَنْسَاهُ، و لا نُفَكِّرُ في مُصَاحَبَتِهِ لنا
لكنَّهُ، هو الدَّفْقُ الذي يَنْسَابُ من خلالِ أنْفَاسِنا
ويَمُدُّنا بهذا الشَّغَفِ الذي نَطْوِي أوْزَارَهُ بين جَوَانِحِنا.
مَا لا يَتَبَدَّى و يَظْهَرُ،
ما لا نَسْتَطِيعُ القَبْضَ عليه.
هذا المُتَفَلِّتُ، المُتَمَنِّعُ.. هو هِبَةُ الحياةِ، أو هو الحياةُ ذاتُها.
لا نَسْتَشْعِرُ الزَّهْرَةَ في وُجُودِنا، لكنَّها مَبْثُوتَةٌ في كُلِّ مكانٍ. الرُّؤيَـةُ الخاطِفـةُ تَسْتَجْلِبُها، وَتَبُثُّ لَوْنَها و رَوَائِحَها، في أنْفَاسِنا، حتَّى ونحـنُ لمْ نُقْـدِم على اسْتِشْعَـارِها، وَعْيـاً و مُلامَسَةً.
تَصَوَّروا أنَّنا استيقظنا ذاتَ صباحٍ على أرْضٍ لا زَهْرَ، ولا شَجَرَ فيها، أعني لا هـواءَ، أو لا حياةَ، فهل يُمكن لهذا الافتراض أو التصوُّر ذاته أن يََحْدُثَ…
وتَصَوَّرُوا أنَّ اللُّغَةَ، لم تعُد تَصْلُحُ لغير تلبية حاجاتنا اليوميـة، واخْتَفَـى فيها الغنـاء، أو المجاز، أو أصبَحَت لُغَةً عارِيَةً، تُؤَدِّي المعاني رأساً، لا صُوَر ولا خيالات… وأنَّ كُلَّ كلمة تَدُلُّ على شيءٍ واحِدٍ، لا على احتمالاتٍ شَتَّى، فكيفَ ستصيرُ الحياة بهذا النَّوع من الكلام الحَادِّ، الخالي من الجمـال، ومن الابْتِداع…
أدْرَكَ ابنُ جني هذا، في ما أَوْرَدَهُ السيوطـي في ” المُزهِـر.. “، في قوله: ” واعلم أنَّ أكثرَ اللُّغَةِ مع تَأمُّلِه مجاز لا حقيقة “، كما يُشيرُ إلى وُجُود ” الاتِّساع ” في استعمال الألفـاظ، ” ومن المجـاز في اللغة أبوابُ الحَـذْفِ، والزِّيادَات، والتَّقْدِيمِ،والتَّأخِيرِ، والحمْلِ على المعنـى، والتَّحْريفِ؛ نحـو ( واسْألُوا القريَةَ) [يوسف82] ووَجْهُ الاتِّساع فيه أنَّه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يَصِحُّ في الحقيقة سُؤَالُه “.
حتى في لُغاتِنا الدَّارجة، أو العامية، التي بها نُـزَاوِلُ أيَّامَنا، تُوجَدُ مجـازات واستعـارات، و رُبَّما هي اللُّغةُ التي لا تحيى إلاَّ بالاستعارات والمجازات، أي أنَّها تقُومُ على الابتداع، الذي هو ذلك الهواء الذي لا نسْتَشْعِرُ وُجُودَهُ في حياتِنا، ورُفْقَتَهُ لنا، إلاَّ حينَ نُصابُ بالرَّبْوِ، خُصُوصاً حين تضيقُ أَنْفَاسُنا، أي تصيرُ لُغَةً تَخْلُو من شِعريَة الكلام، ومن ذلك الماء الذي مِنه تأتي الحياة.
هل يُمكنُ أن نعتَبِرَ سُؤالَ ” جدوى الشِّعر اليوم “، هو سؤال نَفْيٍ، أو سؤال توكيدٍ وإثباتٍ. أم أنَّه سُؤال لحظةٍ، كُلُّ القِيَم التي تُؤسِّسُ للجميلِ والخَلاَّق، شَرَعَت فيها فـي التَّلاشِـي، ويُفْتَرَضُ فينا، نحنُ مَنْ مازالَتْ أنْفاسُ الإنسانِ تَشِي بِحَشْرَجَاتِها في كلامِنا و بعض سُلُوكنا، أنْ نقُومَ بِصَوْنِها، أو بإطالَة أَمَدِها، ولَوْ إلى وَقْتٍ مَعْلُومٍ..
رُبَّما في ما قُلْتُهُ، بتعبير غادمير، كان بمثابَةِ صَيْحَةٍ لِإِطْلاقِ النَّارِ..
• كاتب من المغرب