رائحة القرفة -4
سمر يزبك
تمشي ببطء، ليس فقط لأن الحقيبة تغالبها، بل لأنها تتمنى أن تظل سائرة هكذا، ولا تصل إلى أي مكان. كانت خائفة من اختفاء أسرتها ومن وجودها بالقدر نفسه!
لماذا انقطعت أخبارهم كل هذه السنوات؟ ماذا يمكن أن يكون حدث لهم؟ يصيبها الرعب، وهي تتصور حريقاً نشب وأتى عليهم جميعاً. وفجأة تبتهج من داخلها، بأمل يراودها في أن يكون أبوها قد لقى حتفه وحده، ولم تعرف أمها أو أي من أخوتها الطريق إلى فيلا حنان وأنور. وكما ابتهجت فجأة، اغتمت فجأة، لأن هذا الجبار لا يمكن للموت أن يقترب منه. ربما اختفى مع امرأة، وربما لم يعرف الطريق إلى الفيلا، حيث تركها للسيدة في البيت القديم، وعدَّ رزمة النقود مرتين، وانصرف.
المشي باتجاه البيت، أعاد إليها إحساس ذلك اليوم، يوم الصورة التي استقرت في حقيبتها. كان ينتظرها في البيت، بعد مشاجرتها مع الصبيان. مشت ببطء تحت المطر، كما تمشي الآن، كأنها تؤجل مواجهته. لكن الزمن يمشي، والطريق إلى الغرفة قصير، ولا بد لها أن تدخل إلى المكان الذي تنام فيه.
عندما وصلت إلى باب الغرفة الذي يصفق بقوة، استغربت أن تتركه الأم هكذا، يسرب الدفء الذي تصنعه أنفاسهم. ولم تعرف أن هذه كانت أوامر الأب المتمدد على حصيرته كالعادة، ينفث دخان سيجاره البلدي، وينتظر بحنق، وصول ابنته العفريتة.
لم يكن يرتدي سوى قميص رقيق، وسروال من الجينز الكحلي. كان قد تعود في ذلك الوقت، أن يفتل شاربيه بعناية، ثم يحمل مرآة صغيرة، يحدق فيها، ويتمتم: راح الشباب..ضاع الشباب، ويدعو على زوجته التي ورطته بالزواج بها.
تفكر كيف سيكون شكله الآن؟ هل تغير كثيراً؟ هل سيعرفها ؟ ماذا ستقول له؟ طردتها سيدتها! لماذا طردتها؟
رجل أسمر، ذو جاذبية غريبة. لونه مثل قهوة شقراء، وصوته أجش. كل نساء الحي يحسدن الزوجة عليه، خاصة بعدما خرج في الليلة المشؤومة ودفع بشيئه أمام أعينهن.
ـ كبير، ويحتاج لأربعة نساء!
كنّ يمازحن الأم منذ رأين عضوه، يحسدنها وهن يرينها تعرج في الصباح، عندما يتحلقن حول الحافلة، لينتشرن في جهات دمشق، يخدمن في البيوت. والأم لم تعر تعليقاتهن انتباهاً. كانت تدور في مكان ضيق، مكان متاح لها؛ بين إرضاء زوجها العاطل عن العمل أغلب الأيام، والاهتمام بمخدوميها، والأولاد الشياطين الذين كانوا يجعلونها تركض وراءهم آخر الليل، لتلمهم من الأزقة.
ورغم أنها كانت تقوم بالخدمة في بيوت الناس، منذ أن تزوجته، ومنذ أن شعرت أنه لا سبيل إلى الراحة مع رجل ينزع الشعر بين فخذيه، بملقط الشعر الذي تنزع به حواجبها، ويضاجعها كل يوم أكثر من مرة، كانت تقول لجاراتها: إنه لا يشبع، في نوع من الشكوى الحقيقية الممزوجة بالتباهي.
كان يوقظها في منتصف الليل، وهي خائرة القوى من عمل النهار، يجرها من يدها، خائفاً من استيقاظ الأولاد. كان يفعلها قبلاً قرب فراشهم، حتى صارت بناته يروين للجارات ما يفعل أبوهن ليلاً، وعليا أكثرهن ثرثرة، فأصبح أكثر حذراً، وصار يجرها من يدها، وهي نصف نائمة، ويدخلها إلى الحمام الصغير، الحمام الذي هو مطبخ أيضاً، والذي بالكاد يتسع لوقوف شخصين، يجعلها تقعي على ركبتيها، ويمتطيها لدقائق، ثم يخرج مسرعاً. كانت تبكي في أغلب الأحيان، ومع الوقت اعتادت ما يفعله، فصارت تتحرك دون أن يطلب منها أي شيء. تخلع ثيابها، تسكن تحته. وعندما ينزل عنها تغتسل سريعاً، ولا تنظر في وجهه، وتعود بسرعة إلى فرشتها، وتغط في نوم عميق.
في الصباح كانت تلمّح له أن ظهرها يؤلمها، وتريد استراحة منه ليوم واحد. وكان لا ينظر في عينيها، ويجبيها: المرأة لا تدخل الجنة إذا لم تلب زوجها في الفراش، فتهز رأسها: وأين الفراش؟ فيصمت، فتتجرأ أكثر ويعلو صوتها: ليس كل يوم، ظهري يؤلمني من العمل طوال النهار. لكنه لا ينظر إليها. وفي الليل يفعل ما فعله في الليل الفائت. ويخبرها بأنه إن لم يفعل ذلك معها كل يوم، فسيفعلها مع إحدى العاهرات. وكانت تبكي عندما يهددها بذلك، ليس غيرة عليه، بل خوفاً من أن يأخذ ثمن طعام الأطفال ويذهب إلى عاهرة.. تصمت، وتخرج إلى عملها، ويبقى هو في البيت مع أولاده الذين يبذلون كل ما يستطيعون لإرضائه. ورغم أنها كانت تقوم بإدارة البيت، وإعالة الأسرة، إلا أنها كانت تترك له قيادة الأمور، كرجل وسيد حقيقي. لذلك، عندما طلب منها أن تترك الباب مفتوحاً، صمتت، وهي تلمح غضبه، وقررت عدم التدخل في طريقة معاقبته لابنته. في النهاية، هو رجل البيت وهو أبوها، وعلى البنات أن يجدن أمامهن من يقوم بتربيتهن، كما تردد لنفسها. وتفضل بقاءه في البيت، ليس فقط لأنها تحبه، فقد رحل الحب مبكراً، لكنها كانت تسير وفق المثل الذي علمتها إياه أمها “ظل رجل ولا ظل حيطة”
* * *
تبرطم عليا في طريقها الترابي، وتجاهد لجر حقيبتها، وتحاول اختراق ستائر نافذة حنان الهاشمي المغلقة. ترفع صوتها عاليا بسخرية: “ظل رجل ولا ظل حيطة” تسمع وقع كلمات أمها في الخلاء، فيزداد غضبها، وتعود بذاكرتها إلى حي الرمل، عندما دخلت البيت، ووجدت الباب مفتوحاً، وأباها ما يزال ممدداً على الأرض. دخلت بثيابها الممزقة، تلحس مخاطها، تمسح دموعها، فترسم على خديها خطوطاً من الشوكولا. تشعر بالبرد، وجسمها يزرق، بعد أن توقفت عن الحركة. تنفسها يشبه البكاء. تبكي وتلهث وكأنها على حافة هاوية. تحدق في أمها التي أظهرت لامبالاة متعمدة. فهي تعرف أنها لو حضنتها كما تشتهي، فستثير حنق الأب الذي لم ينتظر طويلاً. أمسكها من شعرها ودفعها داخل الغرفة، وركلها، وهو يدعو بالموت على أمها بنت القحبة التي تلد له البنات. والأم التي راحت تتوسل إليه أن يترك البنت، تعض شفتيها بقسوة، كلما وصفها بابنة القحبة، وتردد بصوت لا يكاد يُسمع: أنا من يجلب الطعام.
كانت عليا تجهل جنون الأب ذاك، وما يدفعه لمحاولة قتل أطفاله، عند أول ثورة غضب منه. تشعر بالرعب عند أول لكمة، أو عند أول ارتطام لجسدها بقدم الأب الضخمة، لكنها بعد ذلك تفقد الوعي، ولا تصحو إلا بعد ساعات، وآلام شديدة تغطي جسدها. والأمر الذي كان يزيد جنون الأب، أن الأم تعاقبه على ضرب ابنتها بالامتناع عن الذهاب إلى العمل، لتعتني بصغيرتها، وتذرف الدموع طوال النهار، فيسب ويلعن ويشتم، مدركاً أن امرأته لن تعود بما يسد بها البطون الجائعة التي تتحلق حوله.
صورته هي نفسها، وكأنه يخرج إليها قادماً من الأفق البعيد، وهي تخبط بكعب حذائها العالي. تتوقف قليلاً. تدير رأسها. النافذة مغلقة. وصارت تبدو من بعيد، مثل نقطة سوداء معتمة.
لم يعد لعليا من أمل سوى العودة إلى حي الرمل الذي يشكل جزءاً من سوار يلتف حول دمشق، كأفعى تطوق المدينة. وداخل هذا السور كانت المدينة تضيق، وتقف صامتة أمام زحف البيوت الإسمنتية. والتجمعات الغريبة للبشر القادمين من كافة الجهات للبحث عن لقمة عيش.
ورغم الطائفية التي وسمت هذه التجمعات الوليدة في العقود الأخيرة، من حي الرز إلى عش الورود ومخيم جرمانا، إلا أنها تتشابه وتتشابك، وامتدت عشوائياتها إلى قلب المدينة، كما حدث بين منطقة الدويلعة وجرمانا وباب توما. لكن حي الرمل الذي سكنت العائلة فيه، كان خليطاً غريباً من الفقراء الذين هربوا بفقرهم المدقع إلى جنوب دمشق، وصنعوا غرفاً صغيرة من صفائح التنك والحجر الإسمنتي الردئ الصنع. فلسطينيون فقراء مع ذوي بشرة سوداء “غورانّيون” مع المعدمين الذين جاؤوا يوماً من الجبال الساحلية، وتفرقوا في مجموعات كبيرة، وعاشوا في أحياء بائسة أنشأها في الفوضى متنفذون و مرتشون و مهربون، وضباط كبار اقتطعوا الضواحي القريبة و أطراف المدينة وأسكنوا فيها ” جماعاتهم ” بحيث شكلت مجالات لنفوذهم و” غيتوات”، في تشكيل موزاييكي، لونه الموحد الفاقة والبؤس. و من أتوا من الأرياف البعيدة و القريبة، حالمين بحياة كريمة، تحولوا إلى مرتزقة وأزلام ورجال مخابرات و مهربين. و الآخرون الذين لم يتحولوا إلى مرتزقة، و منهم سكان حي الرمل، حولوا بناتهم إلى خادمات، كما فعلوا قبل أكثر من مائة سنة مضت، عندما رهنوا بناتهم لتجار حلب، كخادمات، فيما تحول الآباء بدورهم بعد ذلك الزمن، إلى عمال مياومة يفترشون ساحات دمشق العامة، ويقومون بأي عمل يطلب منهم. وسرعان ما اجتذب المكان فئة من طلاب الجامعات المعدمين الذين يسكنون بالعشرات، في غرف متلاصقة، وعاهرات من ذوات الدرجة العاشرة اللواتي يتفقن مع سائقي سيارات الأجرة، لجلب زبائن الليل. كان المكان غريباً حتى عن نفسه، ولم يجمع جيرانه وبيوته المتلاصقة إلى جانب بعضها البعض، أيُّ نوع من أنواع الحميمية، رغم أنهم استطاعوا دائماً، سماع تأوهات رغباتهم وشهواتهم في الليل، حيث تتندر النسوة في الصباح، عن طبيعة الأصوات التي يقلدن فيها الحيوانات، وهن يجلسن محشورات، أمام الأبواب، قبل أن تغادَر أغلبهن للعمل.
يشبه حي الرمل ساحة غريبة عن زمانها. كل شيء فيها يبدو مضحكاً مثل فيلم كرتون أو فيلم من أفلام الويسترن بالأبيض والأسود قاحل، ومغبر، وناء: النوافذ الزجاجية المغطاة بالكرتون، الأبواب الحديد الصدئة، الجدران من التنك والصفيح، الدكاكين الصغيرة الشبيهة بمغارات قطاع طرق، البيوت التي تعلو فوق بيوت. كانت هذه البيوت نادرة الوجود، ربما لأنها مصنوعة بطريقة مبتكرة، حيث يقوم أصحابها بتثبيت أربعة قوائم حديد، يكسون جدرانها بقطع من الصفيح القاسي، ويربطونها بواسطة قليل من الإسمنت، فتمنع نفوذ الهواء، وتتحول إلى جدران متينة، لولا قرقعة الريح في أيام الشتاء، أما السقف، فيثبت بنفس النوع من الصفيح القاسي، المدعم ببضعة كيلووات من الاسمنت أيضاً، ولم يكن من الضروري وجود نافذة في الغرفة، الثقوب التي تظهر رغماً عن كل الاحتياطات، كانت تفي بغرض التهوية. الثقوب نفسها التي تتحول إلى حبال مطر في أيام الشتاء.
الطريقة الأخرى المبتكرة للعيش في غرف جانبية، كانت ببناء جدارين ملاصقين لغرفتين، وتغطيتهما بصفيحة، وتغطية الجدران الحجرية الداخلية بقطع قماش ملونة، وتثبيتها بالإسمنت حتى تتحول إلى جزء من الحائط، وفي النهاية لا يترتب على ساكني هذه الغرف، سوى أن يفترشوا حصيراً، ويأتوا ببعض الأغطية، ليصير المكان جنة للعيش.
اللافت في حي الرمل، عيون الرجال الغارقة في السأم، رغم وجوه النساء الجميلات اللواتي يتبرجن بأحمر شفاه فاقع، ويتهادين بغنج قلق. لكن حي الغبار والملل والغرابة، كفيل بتحويل تلك الألوان، المتفاوتة الحمرة على شفاه النساء، إلى لون معتم ورمادي، عندما يعرف الرجال في قرارة أنفسهم، أن ذلك الغنج سينعم به أول زبون متعة تصادفه إحداهن. والأزقة التي تفصل بين هذه الأبنية، كانت تتحول في الغالب إلى فاصل لا يتجاوز نصف المتر، والعديد من نساء الحي اللواتي تنتفخ بطونهن كل سنة، يبقين في بيوتهن ويمتنعن عن الخروج في أشهر الحمل الأخيرة، لأن بطن كل واحدة لا يستطيع النفاذ بين الجدران، أما وجود مسجد في الحي، فكان يضفي عليه طابعاً أكثر غرابة، ويبدو بفخامته غريباً وسط القتامة المفزعة للبيوت. كان مبنياً بالاسمنت والحديد، ومزيناً بحجارة الرخام. بناه أحد فاعلي الخير، حيث يجتمع رجال الحي مساء لفض خلافاتهم، وتلقي التبرعات التي تهبها الجمعيات الخيرية. لم يكن إمام الجامع من أهل الحي. كان يسكن منطقة الميدان، وفي السنوات الأخيرة تحول إلى وصي على كل من في الحي، ورغم أنه تجاوز الخمسين من عمره، ومتزوج من امرأتين، فقد تزوج فتاة ثالثة لا تتجاوز الخامسة عشرة، من فتيات حي الرمل، بعد أن لمحها تخرج من البيت سافرة، عندما كان راجعاً من المسجد، فهبت في جسده قشعريرة، وهو يحدق في ردفيها المتكورين.
ما يزال أهل الحي يذكرون أن الكثير من الأمور تغيرت، بعد أن بنى رجل الخير لهم مسجداً، واختلفت النساء بعد قدومه. وبعد أن جاء بالعديد من مُريديه ذوي اللحى الطويلة والسراويل الفضفاضة، صارت أغلب النساء يغطين رؤوسهن، وهو يباركهن في خطبه، أيام الجمع، ويطلب من الأخريات الانضمام إليهن، رداً للّرذيلة.
كان والد عليا يتردد إلى المسجد بشكل يومي، ويجد السلوى في ساحته، وتكون لديه الفرصة لسماع أخبار الحي، وما يتردد فيه من أقاويل. ومع ذلك، كان الرجال يتجنبونه، ويخافون نوبات غضبه، ويخشون على نسائهم منه، مع أنهم يرسلونهن إلى الخدمة في بيوت الرجال العازبين، دون أدنى حرج. وكانوا مع ذلك، يحسدونه على زوجته الغورانية الجميلة؛ بقامتها الطويلة، وامتلائها الشهي، وعينيها السوداوين، وشفتيها المكتنزتين، وشعرها المتوهج بالأحمر. كانوا يرونه غير جدير بها، وهم يسمعون صراخها النهاري عندما يضربها لأي سبب كان، وصراخها الليلي عندما يأخذها عنوة.
نزَّ عرق الخوف البارد، تحت ملابس عليا، ليزيد من إحساسها بالبرودة في هذا الصباح البارد، عندما لفحها هواء شاحنة. أي شبه بين أبيها وبين الشاحنة؟! لعلها عاصفة الغبار التي كادت تقتلعها وتطوحها بعيداً، مثل عواصف أبيها التي لم يكن هناك من يتصدى لها.
تسمرت في مكانها، وهي تتذكر الليلة التي خرجت فيها أمها إلى الزقاق، وقد مزقت ثيابها وأخذت تولول.
أحداث تلك الليلة، كانت عليا تحفظها غيباً، وتستطيع أن تسمع صوت أختها الكبيرة.
كانت الأخت عائدة من عملها في أحد مصانع الجوارب غير البعيد عن حارة الرمل، والكثير من هذه المصانع الصغيرة التي بُنيت حول دمشق، سُميت تجاوزاً بالمصانع، لكنها ورشات عمل خياطة، أو تطريز، وقودها نساء صغيرات في السن، يعملن بأجور زهيدة، ويرضين بما يقدمه أصحاب العمل دون أي تأمين، لأنهن فضّلن العمل من الصباح حتى المساء، على التسكع في شوارع دمشق، والبحث عن زبون متعة.
عليا الكبيرة كانت واحدة من هؤلاء، بعد أن حظيت بفرصة لم تحصل عليها الكثيرات، لأنها بالكاد، تفك الحرف. وقد عاشت أياماً صعبة، تلحق أمها من بيت إلى بيت، تساعدها في التنظيف، وفي حمل الأغراض الثقيلة للسيدات الأنيقات. وإعداد القهوة والشاي، وتنظيف ورشة الخياطة، إلى أن أجادت الصنعة، وجلست وراء ماكينة خياطة. كانت جادة في كل ما تقوم به. تفكر أن عليها الحصول على رضى ربّ عملها. وجعلت همها الوحيد، مساعدة الأم في تأمين أمور البيت. وفي كثير من الأوقات، تحلم بموت مفاجئ للأب. ففي موته راحة لها، ليس لأنه يستولي على كل ما يأتي إلى البيت من نقود فقط، لكن أيضاً لأنها ستضمن ألاّ ينتفخ بطن أمها كل سنة، وألاّ تزيد أعباء الحياة عليها. ونادراً ما فكرت بشراء ثوب جديد لها، أو انتظرت مغازلة أحد الشباب، عند خروجها اليومي من باب الغرفة إلى باب المصنع. كان هدوءها ولامبالاتها يجعلان منها، مثالاً وحلماً لكل الشباب المتسكعين في الأزقة. ومع ذلك، سمحت لصاحب المصنع مداعبة جسدها، دون أن تجعله يتمادى، خاصة عندما يمد يده إلى فخذيها، كانت تتركه ينزع سرواله، ويقبل نهديها، لكنها لم تسمح له بالاقتراب من منطقة الخطر، المنطقة العميقة فيها، حيث تصبح عاراً على أهلها. هي تعرف بحس مطاردة الخطر، أن هناك خيطاً فاصلاً بين ممانعتها، والحفاظ على عملها.
كانت تفكر بترتيبات الشهر المقبل، عندما غسلت وجهها من آثار لعابه على خديها، وأخفت نقودها في جيبها. متحفزة لادخار القليل منها. ولم يخطر على بالها ما سيحدث عند عودتها، وما تزال في ثياب العمل، لم تنزع جواربها وغطاء رأسها، ترتعد من دخول مفاجئ للأب. وتعدّ مع أمها المنفوخة البطن تكاليف الولادة، وربما سوء حظها هو ما جعل الأب يدخل لحظة انتشرت الأوراق النقدية على فراش الإسفنج الرقيق. لا، ليس حظ الأم، بل الأخت الكبيرة عليا.
دخل بهدوء وصمت في ليلة الشؤم تلك، وهو يراقب ابنته وزوجته تتمتمان، وتعدان النقود. كان طويلاً ومحنياً، وكثيراً ما كانت هذه الانحناءة تضفي عليه مسحة رومانسية، جعلت زوجته تقع في حبه من النظرة الأولى. ليست الانحناءة الخفيفة فقط، بل شعره الناعم الأسود، وشواربه الكثة، وصوته الأشج، ونظراته الحادة. النظرات التي ورثتها عليا الصغيرة، بكل ما فيها من قسوة وقوة وضعف. كان يعرف سطوته على امرأته، ويعرف أنه معشوقها، وأنه سيكون مُطاعاً كما يشتهي، ويعرف أن الأم ورّثت الطاعة لبناتها. كان سعيداً بحياته السهلة، كما يقول لنفسه، عكس ما يردد أمام عائلته. لكنه عندما دخل ورأى الأوراق النقدية ملقاة على الفراش الإسفنجي، شعر أن الأمور ستخرج عن سيطرته، وفكر أن يلقن إناثه درساً لن ينسينه، كما ردد لنفسه. حمحم، ودفع الباب على عتبة الغرفة، قبالة زوجته التي انتشر الرعب في أوصالها. أما عليا الكبيرة، فقد لملمت النقود بسرعة، وخبأتها في عّبها، لأنها تعرف أنه سيأخذ كل ما تملكه آخر الشهر، ويغيب لأيام، ثم يعود خالي الوفاض، ويخبرهم أن دورية الشرطة صادرت كل ما اشتراه من علب السجائر المهربة، وأنه لم يبع سيجارة واحدة.
عليا الكبيرة خائفة. أسنانها تقرط لسانها، والحروف تتلعثم على شفتيها الزرقاوين، وتحاول أن تتمسك بالنقود، بينما كانت يداه مثل مخلبين يلتفان حول فريسة ضعيفة.
دفنت وجهها في حضن أمها، بينما الأم تفكر بحماية بطنها المنتفخ؛ فقد اعتادت أن تُضرب في النهاية، لكن غضب الأب، خيب ظنها هذه المرة. انقض على عليا الكبيرة، وأمسكها من شعرها الذي تحول بين يديه إلى حبل لفّه حول أصابعه، وضرب بجسدها جدران الغرفة. ارتجت الجدران وتساقطت النقود. صرخت الأم، وبطنها يرتج أمامها. صفعها، خرجت من الغرفة، دون غطاء رأس، ومزقت ثيابها بين الجيران، وهي تولول وتصيح بالرجال لإنقاذ ابنتها التي فقدت وعيها. دخل بعض رجال الزقاق إلى الغرفة، وأمسكوه. دفعهم بشدة وأنزل سرواله، ودفع بشيئه أمامهم، وهو يقول لهم:
· ابن امرأة يقترب حتى أطعمه.. هذا.
حدقوا فيه غير مصدقين ما رأوه، وانسحبوا، وعلامات الذهول تعلو وجوهم. أما النساء فقد حملقن مذهولات، قبل أن يركضن وراء أزواجهن.
كان من المحتمل، أن يدخل الغرفة، لو أن نظرات الأهالي كانت أقل حقداً واستهجاناً. وقف يرتجف غضباً قبل أن يعود ويجمع النقود ويختفي. لم يعرف أن زوجته نزفت حتى مات جنينها، وبقي لثلاثة أيام يجول في الطرقات، ولم يخطر في باله، أن ابنته الكبرى ستقضي بقية عمرها القصير، طريحة الفراش، تنظفها الأم و تلفها بمناشف حول حوضها، كما فعلت وهي صغيرة، عندما كانت تنظفها من برازها وبولها، وتدعو إلى ربها أن تستيقظ في الصباح، فتجد أن العلّي القادر استجاب لها، وقبض روح البنت، وأراحها من عذابها.
بعد ذلك الحادث بعام، ولدت عليا، وكانت تحمل اسماً أخر، نسيته الأم بعد موت عليا الكبيرة، وصارت تناديها تيمناً باسم الأخت الميتة، وأحاطتها برعاية فائقة. لم يحظ أي من أولادها الخمسة بها، الأولاد الخمسة الذين بقي منهم ثلاثة بعد وقت قصير، عندما طوى المرض الآخرين.
أخذت عليا تتقدم في طريقها، بعيداً عن نافذة حنان وتتحول الى نقطة سوداء، تفكر أنها ستأخذ مكان الأخت الكبيرة، وتحل محلها في مساعدة الأم. تسب سيدتها، وتبصق في كل خطوة تخطوها، ولم تعد تحتمل ثقل الحقيبة أو ثقل الذكرى، فجلست تجفف عرقها البارد، وهي تفكر متى ستنام نومة أختها بعد ثورة جديدة للأب، ومتى ستموت؟ ثم عادت للمشي ببطء وتثاقل، ولكن هذا لم يكن يعني أنها تنتظر نداء من حنان لاستعادتها، بل لأنها كانت لا ترغب في الوجهة التي عليها أن تمضي إليها. وفي الوقت نفسه، لا تعرف بديلاً لحي الرمل.
بإذن من الكاتبة سمر يزبك، خصيصا لصفحات سورية