من ذاكرة الصفحات: حكايات البؤس السوري – عن العزلة السوريــة
الحكايــة الخامسة
عن العزلة السوريــة
رفيق شامي
الديكتاتورية وحدها لا تكفي لشرح الحالة الخاصة لبؤس المنفي السوري. فالدولة السورية لم يعد لها شأن على المستوى الشرق أوسطي ناهيك العالمي. لكن المعارضة السورية – وهي أحد أكبر هموم المنفي – في عزلة أمر من عزلة الحكام عربياً وعالمياً. لماذا؟
الشعب التشيلي أو اليوناني عانا من ديكتاتورية دموية لكنها لم تملك على عكس الديكتاتوريات العربيــة جذوراً تاريخيــة. اليونان مهد الديمقراطية( بكل إيجابياتها ونواقصها) وتشيلي كانت أولى الأنظمــة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية. وفي كلا البلدين تأصلت رغم كل الحروب الأهليــة والإنقلابات الدموية حرية الفرد وإحترام الإنسان، والإنسان/الفرد الحرهو الوحيــد القادر على بناء الديمقراطيــة . إذ لا يمكن لمجتمع إِستُعبِدَ أفراده أن يكون قادرا على بناء نظام ديمقراطي صوت كل فرد فيه هو المرجع الأول والآخر للسياسة.
أما ديكتاتوريتنا السورية فيعود مصدرها الى حكم القبيلة الذي لم نبارحه في كل تاريخننا إلا للحظات نادرة. وهي تضرب جذورها في أعماق التاريخ وأنفسنا بالذات.
القبيلة ركيــزة البؤس السوري الأكثر حضوراً وثباتاً تجاه كل أعاصير التغييــر والتحول. تساقطت أنظمة بكاملها ومعسكرات وأصرحة أيدولوجية وبقيت القبيلة. بالمناسبة لم ينافس مدة حكم قبيلة قريش تا ريخياً أية سلالة صينية أو هندية أو أوروبية. ولولا “فسحة” الأمل لقلت القبيلة ذات هيكل سري وسرمدي كالأهرامات.
القبيلــة لا تترك مجالا لصعود الإنســان الفرد ولذلك لا يمكن لها أن تقبل الديمقراطيــة فهي عدوتها اللدود.
على إمتداد خمس وثلاثين سنة يرى السوري المنفي إمبراطوريات تنهار ومستعمرات تتحرر، ديكتاتوريات تعصف بمجتمعات لتعود إلى جحرها وفي هذا الوقت كله لا تتراجع الديكتاتورية العربية قيد أنملة. على العكس هي في تقدم رغم كل هزائمها فمن كان يتوقع في خمسينيـات القرن الماضي أن تصبح سورية مملكة وراثيــة؟ وماذا عن تحضير ولي العرش الليبي واخيه المصري؟
كم من صديق ورفيق برازيلي، وتشيلي، جنوب أفريقي وأرجنتيني رافقتهم للمطار وضحكوا وبكوا أثناء الفراق : سنزورك في دمشق.
كرهت المطارات. لم أعد اودع أحداً في السنوات الأخيــرة.
لكن هذا ليس كل البؤس. كان هؤلاء الرفاق والأصدقاء حتى في منفاهم هنا في ألمانيا محل دعم وتعاضد من كافة المنظمات التقدمية والمسيحية والنقابيــة والحزبيــة إذا إستثنينا قيادات الأحزاب المحافظة فالكل – حتى قواعد الأحزاب الكاثوليكية – كانت مع تحرير التشيلي واليونان من نيــرالديكتاتوريــة وسواء كان ذلك صادقاً أم مجرد موقف أدبي فالأصدقاء التشيليين واليونانيين كانوا يقدمون وجهة نظرهم عبر قنوات هذه المنظمات ونفوذها عبروسائل الإعلام والمنظمات السياسية والنقابية ويقيمون بمساعدتهم ندوات و حفلات شعبية توصل رأيهم بكل ذكاء للجمهور الألماني وبذلك كسروا الحصار الذي حاولت الديكتاتورية اليونانية والتشيلية ضربه حول المعارضة بالصاق تهمة الشيوعية بكل معارض وهذا ما روجته أمريكا أيضاً ولم تمض فترة حتى أصبح الحصار شبه تام على سفارات ودول القمع وصارت الديكتاتورية تلهث وراء الدفاع عن نفسها حتى يوم سقوطها. هذه الصورة الطبيعيــة جداً لمناصرة الإنسان لأخيه الانسان عند الشدائد والمحن ، تصبح ضرباً من المستحيل متى كان الموضوع الديكتاتورية العربيــة. لماذا؟
هل لأن شعوبنا تخضع للأمر الواقع بسرعة عقب إنقضاض أي ضابط إنقلابي على السلطة؟
لا يصيب من ينهال على الشعب السوري بالنقد لكونه خضع للطغاة . فلكل الشعوب لحظات خنوع تجاه طاغوت كما ولهذه الشعوب لحظات بطولية. ولا أرى في ذلك أي داعي للتشائم فليس هناك أية ضمانة في التاريخ لشعب ما ألا يسقط في درك مخيف من الإنهيــار يخجل بعد تحرره منه حتى من تذكره. من كان في أوروبا يصدق أن الشعب الألماني وهو الأكثر رقياً وحداثة في أوروبا سيصبح بربرياً من خلال دعاية بدائية ليسير قاتلاً ومنتحراً، مُدمِراً ومُدمَراً. الشعب الذي وهب الإنسانية آلاف المخترعين والفلاسفة والأدباء هو نفسه ذاك الشعب الذي سقط إلى هوة النازية البربرية والتي تركت وراءها دماراً و50 مليون قتيل.
لم يبق في الثمان وأربعين سنة من حكم الطغات السوريـين فن من فنون الذل لم يساق إليها الشعب السوري. فمن منع الكلمة والصحف والأحزاب حتى تقنين الغذاء واذلال هذا الشعب الكريم المسالم بإجباره على الوقوف أرتالاً ليحصل على قوته اليومي وإجباره أن يذهب مكبلاً إلى حروب لا نهائية كجيش مسكين (الجنود وصف الضباط والضباط الصغار) ولئيم في قيادته التي لم تفكريوماً ولا حتى وهي سكرى أن مهمة الجيش السوري هي التحرير وليس قمع الشعب. وثمة امثلة كثيرة على همجية وبربرية هذا الجيش ودمويته (مجازر حماه ) ( اعدامات سجن تدمر) ما عدا الاعدامات والموت البطيء في المعتقلات الرهيبة العلنية والسرية ولنقارن كل ذلك بالذل والخنوع والجبن في مواجهته للجيش الاسرائيلي وفشله الدائم في حماية حتى نفسه ناهيك الوطن أوإسترداد شبر من الجولان أو حتى تحريك الجبهــة وذلك أولى واجبات جيش يحمي الديار.
إن أية حكومــة سورية – لوكانت ربع أو نصف ديمقراطية – لكانت ستسقط في اول انتخابات تواجهها إذا ما نظر االناخبون إلى إنجازاتها الإقتصاديــة (الفساد والهدر والخراب والفقر)، الإجتماعية أو السياسية. ولهذا لا يتجرأ حكام دمشق أن يسمحوا بأي حرية ولو ضئيلة رغم أن إعلامهم يؤكد بغباء ممل أن 90% صوتوا للرئيس.
قال لي صديق في الخامس من حزيران عام1997 أن أي قائد للبلاد كان عليه الإنتحار لفشله بعد ثلاثين سنة من إستعادة الجولان. أنا لاأظن أن الطغاة العرب عامة والسوريين خاصة يتعاملون مع الأمور كالساموراي الياباني والذي يقدم على الإنتحار حسب طقس “الهاراكيري” لينقذ شرف عائلته بعد عمله المشين.
أعتقد أن الجولان المحتل تحول إلى قميص عثمان، إلى ذريعة ليقصم الطاغية ظهر الشعب بقانون الطوارئ والأحكام العرفية وليرسم المزيد من الخطوط الحمراء تسهل تخوين أي شخص تحت ستار المواجهة مع اسرائيل ومعركة التحرير.
“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” لم يكن المقصود منه الهدوء لفترة بينما الخبراء العسكريون والجنرالات العباقرة يخططون للمعركة الفاصلة. أبداً ولم يكن المقصود منه منذ اللحظة الأولى سوى مقطعه الأول لا صوت. أما المعركة فغابت نهائياً.
النظام الحاكم يعرف تماماً أن تحرير الجولان عسكرياً أو سياسياً مناورة خطيرة قد تدق عنقه ولكن السؤال الأهم والأكثر إحراجاً والذي لا يملك جواباً عليه هو: ماذا بعد تحرير الجولان؟
كيف سيبرر الحكم تمديد العمل بقانون الطوارئ الذي يهزم به شعبنا يومياً؟
وكم شهر تستمر سلطة الطغيان دون أحكامه العرفية؟
الجواب تعرفه السلطة لهذا السبب لا يفتح النظام سيرة الجولان.
حتى عندما يقابل أحد الصحفيين الغربييين مسؤولين سوريين لا يتطرقون لطرح أي سؤال حول الجولان وكأنهم يعتبرون مسألته منتهيــة فأي صحفي يسأل سورياً بعد عن لواء الإسكندرون؟ وبالمقابل يسهل المسؤولون السوريون عليه بأنهم – وكأن الأمر متفق عليه على أعلى المستويات – لا يقتربون من موضوع الجولان. أحياناً تبلغ ساديــة ومراوغة كلا الطرفين في مقابلة صحفية ليس فقط في فضائية عربية بل وحتى صحيفة أو مجلة أوروبية حداً مرضيــاً عندما يهتم الطرفان بكل شيء إلا بالأسئلة الملحة.
كمثال: يصرح مصطفى طلاس – أحد القادة السابقين لهذا الجيش – لمراسلة مجلة “دير شبيغل DER SPIEGEL” الألمــانيــة – جالساً تحت لوحة رسمها هتلرفي شبابه وإقتناها المفكرالعسكري الستراتيجي بسعر باهظ في لندن (من أين جاء بتلك الأموال التي يلقي بها بكرم حوله؟) واللوحة تحظى بإهتمام الصحفيــة السخيفة الألمانيــة أكثر من مصير شعب بكامله – بأنه كان مسؤولا عن قتل الكثيرين لكي يتوطد حكم الأســد وعندما طلبت منه الصحفية أن يعطي رقماً تقديرياً ( ليس تعاضداً مع مظلومي الأرض فالشبيغل لا يعنيه ذلك بل لتجره بخبرة الى فخ عنهجيته ولتقدم صورة سيئة عن العرب) أجاب محررالجولان وهو يتباهى كالديك: 150 شخصا أسبوعياً. 150 إنسان بريء يقتلون أسبوعياً ليخيم هدوء المقابر فوق دمشق الحبيبة.
كتبت يومها أن إسرائيــل تعجز مع كل خبرائها عن تقديم دعاية معاديـــة للعرب وللسوريين تفوق تأثيــرهذه التصريحات على القارئ الألمــاني. كل صور البشاعة لخصتها هذه المقابلة القصيرة بأقل من صفحة.
ما لفت إنتباهي آنذاك و يلفت إنتباهي دوماً هو كلام المسؤولين بلسانين كلاهما كاذب أحدهما يتحدثون به مع الأوروبيين للاستهلاك الخارجي والآخر مخصص للإستهلاك المحلي . ويختلف الكلام ليس في محتواه وحسب بل حتى في تركيب وصياغــة لغته ووقع كلماته. لكن هذا موضوع طويل له علاقة باللغة والتبعية.
لنأخذ المحتوى فهو ليس فقط كارثة إنسانية حلت بأبرياء وعائلاتهم المنكوبة بل يعبر بحد ذاته عن مصيبة ثقافية إجتماعية وأخلاقيــة لإنهيارالمجتمع المدني وقيمه في سوريا. كيف لإنسان مهما كان مركزه أن يتباهى بقتل 150 إنسانا أسبوعياً دون أن يخشى عواقب هذا التصريح ودون أن يسبب تصريحه إنتحاراً جماعياً لقضاة الدولة السورية ولجبهة الأحزاب المشتركة في الحكم وجرائمه.
لا حدث هذا ولا ذاك.
يضحك طلاس حتى اليوم مِلأ شدقيه وتبتسم قيادات الأحزاب في ما يسمى مجلس الشعب ببلادة وتنتظر بفارغ الصبر سقوط نعجة لتستل سكاكينها وتخرج بها طالبة دم الأيوبي ثم الخدام ثم رفعت الأسد ثم ميرو وهكذا دواليك.
يمكن ترجمــة مقابلة طلاس ترجمة حرفية محلفة وإهداءها لقضاة سوريا الاسد فقد يكون لدى أحدهم بقايا ضميــر وشجاعة ويأمر ولو لمرة واحدة قبل إقالته أو سجنه بإستدعاء مصطفى طلاس للتحقيق معه في جريمة كبرى مثل هذه.
لا يحق إذن لأي إنسان أن يسأل السوريين بعجرفة لماذا لا يقومون بالمزيد. لقد قدم هذا الشعب أمثلة لا حصر لها في التضحية والفداء والمقاومة من أجل الحرية والديمقراطية ومن اجل وطن حر ولايزال يقدم يومياً. رياض الترك، حسيبة عبد الرحمن، ياسين الحاج صالح، أسماء الفيصل، أمين مارديني، هند قهوجي، فاتح جاموس، ناهد بدوية، عارف دليلة وفادية لاذقاني – إخوة وأخوات مانديلا – يمثلون بحق وشرف آلاف المواطنين الذين عاشوا وعذبوا وقتلوا وشردوا بصمت دون أن يعرف العالم حتى أسماءهم.
البؤس ليس فقط أن يحدث ما حدث في سوريا بل أن يحدث بالوقاحة التي حدث بها والعالم يقف مكتوف اليدين بحيادية مريبة.
لكن لماذا لا يقف العالم مع أبطال التضحيــة السورية كموقفه الصلب مع مانديلا ورفاقه والذي أدى في النهاية إلى سقوط “سلمي” لأعتى نظام عنصري في القرن العشرين؟ لذلك أسباب دولية وسورية محضة سأعود إليها. ما يجب ذكره قبل كل شيء هو أن الطاغية السوري نجح نجاحاً منقطع النظيــرفي إرهاب الشعب رغم ضئالة قاعدته وهذا لم يتم له إلا لأن النظام البعثي الغى السياسة وأحل محلها إدارة إرهابية مافياوية لضبط ناس يسمون نفسهم شعب حيوي كريم حساس ومعطاء لكي يعملوا بإنتظام وصمت كالعبيد مقدمين وتاركين كل شيء للعصابة. هذا الذي جعل ضباطاً جاؤوا من العدم الثقافي (أحد أسباب العقدة النفسية التي تجبر بعضهم أن يسمي نفسه دكتورا مع علمه وعلم الجميع أنه كذاب) والفقر المدقع يتحكمون اليوم ليس فقط بمقدرات العلم والثقافة بل بمليارات الدولارات وذلك في أقل من أربعين سنة بينما تنهار الثقافة وينهارالإقتصاد الوطني وتتوسع رقعة الفقر كما لم يحدث ذلك في التاريخ. من مفارقات الحياة أن يكون البعث الذي خرج للملأ يطالب بتسييس الجماهير هو الحزب الذي أقصى السياسة من حياة السوريين والعراقيين. رغم كل تطبيله وتزميره للسياسة وللأمــة ذات الرسالة الخالدة أقصى هذا الحزب الشعب عن كل قرار يتعلق بمصير البلد وأحل محله إدارة تتألف من نصابين محترفين كما لم يفعل قبله أعتى الحكام رجعيــة.
أليس من مفارقات الزمن المضحكة المبكية أن ميشيل عفلق أحد مؤسسي حزب البعث ينتهي معزولاً ويائساً وأن يعلن إسلامه ليس في السعودية بل في بغداد صدام ويدفن كأحمد عفلق حسب الشريعة الإسلامية.
لكن لنعود إلى الأسباب التي عزلت السجناء السياسيين السوريين في سوريا والوطن العربي والعالم.
كما قلت أعلاه لا يفسر ذلك سلطة الطاغية فقط فهي ليست ذات شأن خارج حدود الوطن.
هزيمة المعارضة في إنشاء جبهة تعاضد عربية وعالمية مع سجناء الرأي كانت كاسحة ومحبطة وهي أحد أهم أسباب بؤس المنفي السوري. وأول أسباب هذه الهزيمــة الكبرى إنتهازية الأحزاب التي إلتحقت بنظام الأســد ولم يكن لها أية وظيفة أخرى وطنية أو تقدمية. أحزاب هي على الأغلب تجمعات بأسماء طنانة ليس لها أية قاعدة شعبية لكنها تضم العديد من أبناء العشائر الفكرية العديمي الخلق والذين يتمتعون بالخبرة وبإتصالات مع أحزاب ووسائل إعلام ومنظمات وسلطات دول عربية وأوروبيــة.
حافظ الأسد نجح نجا حاً فائقاًً في شراء هؤلاء والمعارضة الديمقراطية لم تقدر بواقعية دور هذه المجموعات (وهو يختلف عن وزن هذه المنظمات القزمة شعبياً) والتي سببت إستمرارية البؤس وتفسخ أية جبهة على المستوى العربي والدولي للتعاضد مع مساجين الرأي وللدفاع عن الحرية والديمقراطية.
من إشترك في هذه الجبهة وسمى نفسه وحدوي وشيوعي وليبرالي وإسلامي و.. و.. و..الخ من اللافتات ، لم يكن لا وحدويا ولا شيوعيا ولا إسلاميا ولا حتى وطنيا بل هو جزء من ميكانيكية أحكم الأسد الأب بناؤها و ألزمت الأطراف بحدودها المذلة و بخطوطها الحمراء ولم يعطها الأسد شيئاً من السلطة فهم جميعاً لم يمتلكو اية سلطة. الأسد أعطاهم ما أسميه “مظهر سلطة” كفت هؤلاء المتعطشين على البروز والإرتفاع ولو على خازوق.
مقابل ذلك صنع الأسد منهم بذكاء الداهيــة أبواقاً يحدث بها أولا المجتمع السوري بالذات وبالدرجة الثانيــة الدول الشرقية والسوفييت آنذاك كما مصر والسعودية والأردن كماوكافة أطياف الأحزاب في الغرب وكل جهة إحتاجها النظام ليطبق قبضة قبيلته على الشعب. حتى أن كوبا لا تزال حتى اليوم تعتبرسوريا بلداً تقدمياً معاديا للإمبريالية…. وهل للبؤس بعد من حدود عندما يقرأ السوري المنفي مثل هذه التصريحات؟
هذه الأحزاب بالذات هي التي ذهبت لتنشر الدعاية المُسِمة عن المعتقلين في الداخل والخارج ولم تفعل ذلك إلا مجبرة لتبرير إنتهازيتها فكيف لشيوعي بكداشي أو فيصلي أو ضراب السخن أن يبرر وجوده للحظة في حكم حتى ولو بمنزلة خادم في وقت يُعذَب فيه شيوعيين بأساليب وحشية لم يعرفها حتى النازيون؟ كيف دون خسارة كل شرف؟ كيف يمكن لمن عرف نزاهة رياض الترك مثلاً أن يقبل بتوقيف هذا الإنسان الرائع للحظة دون أن يحمر وجهه خجلاً؟ إذن لا بد من ترويج إشاعات تقنع الذات والغيــر بأن رياض الترك وكل المعتقلات والمعتقلين لا بد وأنهم فعلوا شيئاً ولولا ذلك لما وصلوا للسجون. النظام لم يكلف نفسه أية مشقة. لم يعلن حتى عن إعتقال، ترك المهمة الوسخة لهؤلاء الخدام.
ويأتي أحدهم ليحدثني بأن فلان أو علتان من مسؤولي الأحزاب المشاركة بالحكم نظيف اليد. لا شك أن هناك كثيرون من نظفاء اليد لكن هذا يذكرني بالتفتيش الصارم للمدرسة الكاثوليكية الي كنت طالبا فيها. كان الخوري السادي يفتش أيدينا كل يوم أحد قبل دخولنا للكنيسة ويضربنا إذا إكتشف وسخاً تحت الأظافر. وكانت أيدينا تستربنظافتها المصطنعة الحقد والشتائم التي يرددها قلبنا. هذا في المدرسة فكيف الحال بالمسؤولية التاريخية لحزب تجاه مجتمعه؟ لا يهمني نظافة أيدي أحد إذا كان ضميرهم تحول في اللحظات الحرجة إلىعلبة قمامة.
مشاركتهم في عملية إذلال المجتمع شيء فريد، إختراع سوري لم يقلده أحد.
لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل في التشيلي، اليونان أو جنوب أفريقيا.
هذه الجبهة اللاوطنيــة واللاتقدمية إختراع سوري أصيل. وكما كنا أول من قام بإنقلاب عسكري في بلد عربي مستقل وأول جمهورية عربية تُورَث ملكياً لإبن فنحن أيضاً أول من إخترع هكذا جبهة تمويهية في ظل ديكتاتور.
إلى جانب رتل أبواق هذه الأحزاب طنطن وزمرللنظام رتل آخر من مثقفين القبهم منذ سنين ب “مرتزقة الكلمــة” كانوا حتى إنقضاض الأسد على السلطة من المفكرين القوميين واليساريين وأصبحوا بين ليلة وضحاها من مهرجي النظام يرسلهم إلى مشارق الأرض ومغاربها يطبلون بمدى الحرية المتوفرة في سوريا. هكذا مفكرين وكتاب ومثقفين مرتزقـــة كانوا يتذكرون كل صباح سبابة حافظ الأسد القوية الغائصة فيهم حتى النخاع ويمعنون في تناسي أو حتى تجريح رفاق الأمس.
كل هذا لم يكن له مثيل.
كنت أحياناً أقول لو كان الكذب مُسِماً لما بقي كثيرون من المثقفين والكتاب الرسميين للدولة السورية على قيد الحياة. لكن الكذب يسبب للأسف إزدياد وزن الكاذب وتسمم في كبد من يفضحه وتسمم الكبد هذا هو جزء من بؤس المنفي السوري.
إذا أضفنا لذلك تأثير كارثة لبنان التي بدأت عام 1975 وأستمرت ثلاثين سنة على المعارضة السورية خاصة خنق لبنان كمنبر إعلامي فريد وشجاع لكل المعارضات العربية. وإذا أضفنا أخيرا وليس آخراً الى كل ذلك إنتهازيــة الغرب والتي أدت وتؤدي لليوم إلى مواقف هشة إنتهازيــة يبدو فيها البترول ، صفقة أسلحة أو سيارات بالمليارات أو تحرير مخطوف ألماني لدىحزب الله أهم من كل المعارضــة السورية. لتبينا مدى عزلة المعارضة السورية.
نجح النظام السوري في المقابل بتقديم نفسه كالمرجع المفضل والأكثر فعالية في تحرير المخطوفين الأوروبيـين. ومرت عشرات السنين وسوريا تبدو في الصحافــة الألمانية ليس كوطن بتاريخ وسياسة وثقافة بل كمكتب للسمسرة والوساطة بين خاطفين وذوي مخطوفين. وكان النظام ولا يزال يلوح بدون كلل من أن أي نقد سيسبب تراجعاً في العلاقات الرسمية وهو ليس من صالح الحكومة التي تهلع في الدول الديمقراطيــة لمصيرمواطن من مواطنيها والذي قد يسبب مقـتله كارثة إنتخابية للحزب الحاكم.
السوري المنفي يعاني من إنتهازية أغلب الأحزاب السياسية التقدمية الأوروبية متى كانت مصلحة صناعتها موضع سؤال وجواب. فجأة ينسى زعيم يساري ألماني ليس هيغل وماركس وبيبل فحسب بل يلقي بكل ما علمته روزا لوكسمبورغ إلى الجحيم ليتغنى كالأهبــل بالنظام في سوريا والذي سيقف قريباً ضد أمريكا والذي رحب به في زيارته لدمشق وتدمر لأن المافيا السورية قررت شراء دفعة كبيرة من السيارات الألمــانية وليس الفرنسية وكان التقدمي العتيــد يرافق الوفد الألماني… إلى ما هنالك من بؤس.
عزلة السجناء السوريون الشرفاء عربياً وعالمياً هي مؤشرلعزلة الشعب وقضاياه على مسرح العالم. هذه العزلة يعيشها الشعب يوميا ويـدرك بحسه أن كل آلامه لا تعني أحد وأنه فعلاً ملك يد جلاديه كما كان ذلك يُكرر على كل السجناء السياسيين: لن يساعدك أحد يا إبن ال…. فأنا ربك ومالك حياتك وموتك.
مثل هذا الخوف يصيب حتى أشجع الشجعان. وهو خوف مبرر للانسان الاعزل تجاه سلطة دموية تتفنن يومياً وبإمكانات مادية وتقنية هائلــة في إبتكار وسائل جديدة للعنف والقهر يبلغ حجمه حجم السماء فوق رؤوس السوريين. والعنف لغة بدائيــة لكنها واضحة الرسالة. محتواها كلمة واحدة: الخوف.
وأنا أعتقد أن كسر هذه العزلــة هي أولى مقدمات إعادة السياسة للشعب.
كسر العزلة مرهون بمصداقية المعارضة وذكاء توجهها أولاً للشعب السوري وبعدها للجار القريب والبعيد. أن تكون على حق لا يعني أن الأخرون مقتنعون بذلك وفي بعض الأحيــان لا يعني حتى معرفة الآخرين أنك على حق. وأما أن تأخذ المعارضة أشكالاً كاذبة (مثل قران بيانوني / خدام العقيم) غير مفهومة حتى لأغلبية المعارضة السورية والتي تُقدم بطنطنة وتطبيل للرأي العام العربي والعالمي فهي لا تزيد إلا بؤس السوريين.
خاص – صفحات سورية –
الحقوق محفوظة للكاتب ولصفحات سورية
مقال أكثر من رائع