ذكرى حرب مُختلفٌ على روايتها
حسام عيتاني
تصاحب اتساع نشاطات الذكرى الثالثة والثلاثين لاندلاع الحرب الاهلية مفارقة. فبقدر ما تتعدد الندوات والمسيرات والاحتفالات، بقدر ما يبدو جمهور هذا النوع من التعبير عن الاعتراض على تجدد الحرب وعلى ابقاء ذاكرتها حية والعمل على استخلاص ما يمكن من دروسها، جمهورا محدودا ومحصورا، جمهورا مؤلفا في اكثره من الناشطين ذوي النوايا الحسنة لكنه قليل التأثير في الشرائح العريضة من اللبنانيين، هو من يتولى احياء ذكرى الحرب كل عام.
يمكن ايراد لائحة طويلة بالنشاطات التي خصصت لذكرى بداية الحرب، غير ان المشاركين في العروض المسرحية والفنية والسمعية ـ البصرية قد لا يتعدون الآلاف القليلة من المهتمين والمتابعين للحياة الثقافية في لبنان. المنابع التي تُوفر المقاتلين والضحايا موجودة في اماكن لا تضيئها، على الارجح، الدعوات الى الاتعاظ من مآسي الحرب السابقة وعدم الانجرار الى تكرار الاقتتال الاهلي.
ولعل نشوب حرب جديدة ليس قدرا. لكن من الضروري القول ان اللبنانيين لم يخرجوا من الحرب الاهلية التي لم تبدأ في 13 نيسان 1975 ولم تنته مع اقتحام قصر بعبدا في13 تشرين الاول .1990 الحرب الاهلية اللبنانية حالة ذهنية يغذيها ذعر الجماعات واساطيرها. ونزع هذه من حقل التداول العام، كما زرعها، يتطلب وقتا طويلا وجهدا لم يتبرع احد بتحويله الى عمل منهجي ومنظم. في المقابل، فإن آلات توليد الذعر والاساطير تعمل بكل طاقتها على ما يبدو.
يضاف الى ذلك، ظهور خطاب يقول بأن فئات سياسية مؤثرة اليوم، لم تكن معنية بكل ما جرى في الحرب التي يتحمل مسؤولياتها وأوزارها الآخرون. اقل ما يقال في الكلام هذا انه كذب صريح وخداع للذات وللبنانيين عموما. فالمسؤولية عن الحرب عامة، وتعني مواطني هذه البلاد بأسرهم، الى جانب قوى ودول من خارج الحدود.
أخطر في ما خطاب نفي المشاركة في حرب 1975ـ,1990 ان صاحبه يبرئ نفسه من دماء اللبنانيين من جهة، ليكسب الحق في اراقتها، من جهة ثانية. في عرفه ان القضايا التي قُتل اللبنانيون في سبيلها في اعوام الحرب لا تستحق ان يُلتفت اليها، اما القضايا التي يبشر هو بها، فهي القضايا الحق التي لا معنى للحياة، اصلا، من دون تحقيقها. جانبا المقاربة هذه خاطئان. فمن سقط في الاعوام الاولى للحرب كان يسقط من اجل قضية لم تقل اندغاما في حقل المقدسات من القضايا التي يقول اصحابها اليوم انها هي وحدها ما يستأهل الشهادة.
المهم في المسألة التي تعنينا هنا هو ذلك الشرخ بين من يحيي ذكرى الحرب وبين من تبدو عليه امارات الاستعداد لخوض حرب جديدة. يبدو الثاني في عزلة عن خطاب الاول الرافض لتكرار التجربة. والحال ان الوعي الطائفي المهيمن لا يقبل التأثير عليه بالنشاط الثقافي وبالقول الحامل لدرجات عالية من التجريد فقط. بل ان وقود الحرب ونارها، يصدران من صلب الجماعات التي تولي مصالحها اهمية تعلو كثيرا عن التحذيرات الأخلاقية او الاستنتاجات المفارقة لوعي الجماعة.
ولعل نقطة ضعف مركزية تبرز في عمل من يسعى الى الاستفادة من تجربة الحرب، وتقوم على ان الدعوات او العظات تسقط في فخ تعدد الروايات عن الحرب. فكيف تجري محاكمة حرب غير متفق على اسبابها ونتائجها واسماء ضحاياها؟
ليس كل 13 نيسان مشابها لمثيله من العام السابق. ولا كل احياء للذكرى يتعين ان يحمل الرسالة ذاتها. يفترض التفاؤل ان يكون اللبنانيون قد حققوا بعض التقدم منذ ثمانية عشر عاما حتى اليوم، في تحديد مصالح تجمعهم ورؤى تقرب بينهم. كم قليلة هي البواعث على التفاؤل في لبنان…
السفير