خذوا الحكمة من فم كارتر
بقلم أمين قمورية
اليوم، لم يتردد البيت الابيض عن الجهر بان شاغله السابق جيمي كارتر هو مجرد مواطن عادي ولم يعد يمثل الولايات المتحدة. وغدا، ليس مستغربا ان نسمع اعلانا اميركيا بان الرئيس السابق فقد اهليته بسبب تقدمه بالسن وبات يحتاج الى مصح للامراض العقلية والى حجر صحي. ولن يكون الامر مفاجئا في حال اطلاق حملة عالمية على الرجل تطالب بتجريده من جائزة نوبل للسلام بذريعة انه تنكر للسلام بتشجيعه “الارهاب” عبر الاجتماع والتواصل مع احد رموزه. فكيف اذا كان هذا الرمز هو “حماس” وقائدها خالد مشعل العدو الاول لبلد “السلام” اسرائيل؟
اصلا، كان يكفي ان يتجرأ كارتر على القول في كتابه “فلسطين سلام لا ابارتيد” ان اسرائيل تسرق الارض وتستولي عليها بالقوة، حتى تهبّط عليه السماء ويتعرض لأسوأ انواع تشويه السمعة التي طالت سيرته وذمته المالية باتهامه بتلقي “الاموال السود” من مثلثات “الشر” والشياطين. فكيف اذا قرن اقواله بالافعال وذهب الى دمشق للاستماع الى “القتلة” الفلسطينيين الذين يريدون تدمير دولة اسرائيل وتاليا منحهم الشرعية؟
قبل مجيئه الى الشرق الاوسط مع غيره من “مجموعة الحكماء” كان حريصا على الايضاح ان الغاية من زيارته السلام الذي تسعى اليه دولته ورئيسها جورج بوش، وان اجتماعه مع “حماس” ليعرف عن كثب ما اذا كانت الحركة فعلا تريد التهدئة كما وعدته عند فوزها في الانتخابات. وانه يريد اقناعها بوقف الهجمات ضد المدنيين الابرياء في اسرائيل والتعاون مع “فتح” لتوحيد الفلسطينيين. ومع ذلك جن جنون اسرائيل وجنّت معها الادارة الاميركية التي رمت بكل ثقلها لنسف الاجتماع المقرر بذريعة انه “يهدد السلام” و”يقلص هامش المناورة السياسية لدى عباس”! وكأن اتصال كارتر بمشعل هو الذي يضعف عباس وسلطته، ويعوق السلام وليس الاحتلال وارتكاباته اليومية في الضفة وغزة.
كان يمكن ان يكون لقاء كارتر – مشعل حدثاً عابراً تتناوله الصحف الاسرائيلية والاميركية بشيء من الانتقاد والتقريع لانه لن يغير شيئاً في المعطيات السياسية والامنية القائمة على الارض. لكن ما يثير غضب اسرائيل وادارة بوش هو المنحى الذي يتخذه رئيس اميركي سابق حقق لاسرائيل اكبر انجاز استراتيجي في تاريخها القصير هو توقيع اتفاقات كمب ديفيد التي شقت العرب، واخرجت مصر من الصراع، وأرست اول علاقات ديبلوماسية بين اسرائيل واكبر دولة عربية. فبدلا من ان يواصل هذا الرجل النظر بمنظار السلام بعين واحدة لتفهم الصراع في المنطقة على حقيقته، ينظر بعينين. وما من صدمة أعنف لاسرائيل وحماتها من ان تصفها شخصية اميركية تحظى بالاحترام والصدقية والخبرة الكبيرة في حل النزاعات الدولية، بانها نظام “فصل عنصري” على غرار ما كان قائماً في جنوب افريقيا. فقد اصدر كتابه الشهير وكلمة “ابارتيد” تتصدره وصورة جدار الفصل في الضفة الغربية تغطي غلافه، الامر الذي لم يتجرأ رئيس رئيس عربي سابق على فعله حتى الآن. ولم يكتف كارتر بذلك، بل اصر في الذكرى الستين لقيام دولة اسرائيل على لقاء الطرف الفلسطيني المقاوم وكأنه بذلك يقول: ان السلام الحقيقي لا يكون الا بين قويين وليس بين قوي ومستسلم.
في حين قرر خليفته بوش مجاراة عقدة الاضطهاد اليهودي بزيارة موقع “المسادا” في المناسبة ذاتها. وربما كان الاستشعار المبكر للوبي اليهودي واخواته لإمكان تحول كارتر، السبب لإخراجه من السلطة بعد دورة واحدة فقط على رغم ما انجزه لاسرائيل واميركا.
قد يجادل البعض في ان كارتر لم ينطق ما نطقه ويتجرأ على المواجهة الا بعد تخلصه من قيود السلطة وتجاوزه سن الشيخوخة. هذا صحيح، ولكن لا بأس من اخذ الحكمة من فمه وافواه امثاله وان جاءت متأخرة وفي الزمن الرديء. ويا ليته يلقى نذراً بسيطاً من التكريم العربي الذي تلقاه اليوم ليفني واولمرت وبيريس وباراك.