نتنياهو ورصاصة الرحمة
عبد الباري عطوان
اطلق بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل الجديد رصاصة الرحمة على عملية سياسية تحتضر، عندما اعلن امام الكنيست عدم التزامه بحل الدولتين، ولم يتلفظ بكلمة دولة فلسطينية مستقلة، وجاء مهندس دبلوماسيته ليبرمان ليشيّعها الى مثواها الاخير عندما اكد رفضه لمسار انابوليس ولكل ما تمخض عنه من مفاوضات وتفاهمات.
ما فعله نتنياهو ‘الليكودي’ علناً، هو ما مارسه سلفه ايهود اولمرت سراً، فالأول تنصل من عملية سلمية من المفترض ان تقود الى دولة فلسطينية مستقلة، وكشف عن نواياه مبكراً وبوضوح، اما الثاني فقد كان يريد التوصل الى الهدف نفسه، ولكن عبر الخداع وبيع الاوهام.
عامان من المفاوضات المباشرة، التقى خلالهما الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع زعيم ‘كاديما’ اكثر من عشرين مرة، بعضها على انفراد، في جلسات مغلقة، دون مشاركة الوفود المرافقة، وبعضها الآخر بمشاركتها، ناهيك عن ضعف هذا العدد من اللقاءات بين السيد احمد قريع رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض مع نظيرته الاسرائيلية تسيبي ليفني وزيرة الخارجية. والنتيجة المزيد من المستوطنات، والمزيد من مصادرة الاراضي، والمزيد من مضيعة الوقت وخداع الشعب الفلسطيني.
الادارة الامريكية السابقة شاركت في عمليات الخداع والتضليل هذه بفاعلية، عندما تسترت على الممارسات الاستيطانية الاسرائيلية، واذلال الشعب الفلسطيني عند الحواجز، ومباركة العدوان الوحشي الاخير على قطاع غزة، وما سبقه من حصارات تجويعية.
من الواضح ان نتنياهو لا يضع ‘السلام’ مع الفلسطينيين ضمن اولويات حكومته المتطرفة، ولا يعير اي اهتمام بالتالي لردود فعل الدول الغربية، والولايات المتحدة على وجه التحديد، التي استثمرت في عملية المفاوضات الكثير من الجهد والمال. فالرجل وصل الى سدة الحكم وفق برنامج انتخابي يتعهد فيه بمواصلة الاستيطان، وتحقيق ‘السلام الاقتصادي’ اي تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في الضفة الغربية، ولا شيء آخر.
نتنياهو مشغول بالبرنامج النووي الايراني الذي اقسم بتدميره، ومنع اصحابه من دخول النادي النووي العالمي مهما كلف الامر، مثلما اكد اكثر من مرة اثناء حملته الانتخابية، ومن يريد شن عدوان على ايران، وتوريط العالم بأسره في حرب قد تتطور الى حرب نووية تدمر المنطقة، وربما اقتصاد العالم بأسره، لا يمكن ان يضع السلام مع الفلسطينيين ضمن مخططاته، وحتى لو فعل ذلك، فإن شركاءه في الائتلاف الحاكم، ومعظمهم من الاحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، لن يسمحوا له بذلك.
ردود الفعل الفلسطينية، وخاصة من قبل السلطة في رام الله، محيرة، ان لم تكن مخجلة، فالدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين الذي سيجد نفسه عاطلاً عن العمل، وصف مواقف نتنياهو بأنها تعني نهاية العملية السلمية، بينما قال السيد احمد قريع رئيس الوفد المفاوض إن تنكر الحكومة الاسرائيلية الجديدة لمسار انابوليس، ورفض التسوية وحل الدولتين هو ‘عودة الى نقطة الصفر، وخطة لتصفية العملية السلمية’.
تصريحات السيد قريع (ابو العلاء) هذه توحي بان العملية السلمية التي يترحم عليها قد تحركت، وحققت تقدماً، وهي في واقع الحال لم تغادر نقطة الصفر على الاطلاق، وظلت تدور حولها، بدليل انها وعلى مدى عامين، لم تفكك مستوطنة واحدة، ولم تزل حاجزاً امنياً واحداً، بل ان هذه المستوطنات والحواجز تناسلت، وتوسعت، بعد كل جولة مفاوضات، على مستوى القمة، ام على مستوى الوفود.
التباكي على عملية سلمية خادعة ومهينة لن يفيد، كما انه ليس الحل المطلوب، وانما كيفية البحث عن استراتيجية واضحة المعالم لمواجهة هذا التطور الجديد في توجهات الدولة العبرية، استراتيجية تعتمد على الذات، وتقوم على اساس مراجعة شاملة ونقد ذاتي معمق، لاستخلاص العبر وتحديد الخيارات وخطط العمل.
المنطق يقول ان السلطة في رام الله كانت تعرف جيداً ان حظوظ نتنياهو واحزاب اليمين المتطرف في الفوز في الانتخابات النيابية الاسرائيلية اكبر من حظوظ خصومه في حزب ‘كاديما’، الامر الذي يتطلب وضع ‘خطة ب’ مبكرا للتعاطي مع هذه المسألة. ولكن ما نلاحظه حاليا ان هذه السلطة ورئيسها واركانها يتصرفون وكأنهم أُخذوا على حين غرة، ولهذا بدت خياراتهم محدودة، ان لم تكن معدومة، وتتلخص في الاستمرار في النهج العبثي السابق، وكأن شيئا لم يحدث، والامور تسير وفق المخططات المطلوبة.
توقعنا ان تؤدي تصريحات نتنياهو وليبرمان الاستفزازية هذه الى حرص اكيد على انجاح اللقاء الذي تم بين طرفي المعادلة الفلسطينية، اي حركتي ‘فتح’ و’حماس’ الذي انعقد اخيرا في القاهرة، ولكن ما حدث هو العكس تماما، حيث انهار اللقاء، بسبب الهوة الواسعة بين مواقف الطرفين، وجرى الاتفاق على اللقاء مجددا بعد ثلاثة اسابيع.
المعلومات التي تسربت عن اسباب انهيار اللقاء قليلة، ويمكننا ان نتكهن ان ابرزها اصرار الاشقاء في وفد ‘فتح’ المفاوض على ‘التزام’ حركة ‘حماس’ بالعملية السلمية، والاتفاقات الموقعة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، بما فيها اتفاقات اوسلو ومسار انابوليس، والاعتراف بدولة اسرائيل.
فإذا كانت الحكومة الاسرائيلية اعلنت عدم التزامها بهذه الاتفاقات علنا، فهل من المنطقي اجبار ‘حماس’ على القبول بها، وفي مثل هذا التوقيت بالذات؟
نتوقع من حركة ‘فتح’ التي اطلقت الرصاصة الاولى، وحملت القضية الفلسطينية على اكتافها طوال اكثر من اربعين عاما الماضية، مقدمة التضحيات الجسام ان تقترب اكثر من حركة ‘حماس’، وخيار المقاومة الذي تتبناه، خاصة ان الكوادر الفتحاوية، التي لا يشك احد في وطنيتها، تدفع في هذا الاتجاه، وتطالب، بل وتضغط لاسترجاع الحركة من الذين خطفوها وحرفوها عن خطها الوطني الصحيح، الى متاهة عملية سلمية مهينة، اضرت بالحركة قبل ان تضر بالمصالح الوطنية للشعب الفلسطيني.
لا نريد ان نبدو منفعلين، ونكرر مطالبنا السابقة بحل السلطة فورا، على اعتبار ان هناك التزامات دولية، واطرافاً عربية لا بد من التشاور معها، ولذلك نطالب بان يدعو الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى مؤتمر صحافي عالمي، يعلن فيه اعطاء مهلة للحكومة الاسرائيلية، والمجتمع الدولي في الوقت نفسه، لمدة ثلاثة اشهر كأقصى حد، فإما العودة الى عملية سلمية جدية بسقف زمني محدد، ووفق قرارات الشرعية الدولية والثوابت العربية الفلسطينية، والا حل السلطة والعودة الى خيار المقاومة بكل الطرق والوسائل، واعادة احياء منظمة التحرير الفلسطينية على الاسس نفسها التي قامت عليها، وبمشاركة كل الفصائل الفلسطينية الجديدة مثل حركتي ‘حماس’ و’الجهاد’ ولجان المقاومة الشعبية، وكتائب شهداء الاقصى.
حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة يجب ان لا تخيفنا، لا بل انها تعطينا القوة والذريعة للتنصل من عملية سلمية خدمت اسرائيل، وحسِّنت صورتها، وكسرت عزلتها عربيا ودوليا، بينما لم تحقق للشعب الفلسطيني غير الهوان والاذلال والحصارات التجويعية.
الشعب الفلسطيني الذي قاوم حربا شرسة لثلاثة اسابيع تعرض خلالها للقصف الوحشي من كل الاتجاهات، برا وبحرا وجوا، ودون اي مساعدة من احد، بل تواطؤ بعض الاشقاء مع العدوان، هذا الشعب يستطيع بمقاومته وصموده ان يواجه حكومة نتنياهو ويهزمها، ويعمق من مأزق الدولة العبرية السياسي والاخلاقي، مثلما فعل اثناء حكم ‘كاديما’، وكل ما يحتاجه هو قيادة ترتقي الى مستوى تضحياته، وشهدائه.
من تابع القمة العربية الاخيرة في الدوحة يخرج بانطباع ان الوفد الفلسطيني كان اقل الوفود حركة وتأثيرا ويعيش حالة من الانكسار وكلمته الاضعف، رغم انه من المفترض ان يكون الرقم الصعب ونجم هذه القمة بسبب قضيته ومكانتها العربية والعالمية، لدرجة انني تمنيت لو ان هوغو تشافيز رئيس الوفد، وليس الرئيس محمود عباس، لما اتسمت به كلمته من شجاعة وقوة وتحديا لاسرائيل وجرائمها، ولكن التمنيات شيء والواقع شيء آخر.
القدس العربي