عن الانتخابات اللبنانية، وما بعدها… لعله مجرد كلام!
محمد مشموشي
لا حديث سياسياً في لبنان الا حديث الانتخابات النيابية في 7 حزيران (يونيو)، ولا تفكير في الواقع الا في ما بعد هذه الانتخابات. والسؤال في الحالتين هو: هل تؤدي الانتخابات، أيا كانت النتائج التي تسفر عنها، الى تبدل ما في الوضع اللبناني يخرج البلد مما هو فيه من ضياع.. وحتى من جمود لا يفعل الا أنه يضع البلد أمام المجهول؟!.
ذلك أن التنافس بين مرشحي الفريقين المتقابلين من جهة، والبحث في اللوائح التي تنتظمهم من جهة أخرى، لا يقدمان للناخب الا ما يدل (أقله حتى الآن) الى أن عملية الاقتراع، بما هي تصويت وتعداد للأصوات، وحدها ما سيتم.. ليبقى كل شيء بعد ذلك على حاله من دون أي تغيير. بتعبير آخر، انه اذا كانت الانتخابات النيابية هي الممر الشرعي والدستوري في العالم الديموقراطي لـ «تداول السلطة»، فما يشهده لبنان يوم 7 حزيران لن يتجاوز «تداول» مقاعد في مجلس النواب بينما تبقى «السلطة» قضية أخرى لا علاقة لها بالانتخابات ولا بمن يفوز أو يخسر فيها.
هذا ما تحدث به أخيرا، وبكلمات لا تحتمل التأويل، نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم بقوله ان من يتوقع «تغير الاتجاه لمستقبل لبنان» في الانتخابات هو «مخطئ»، لأن هذه الانتخابات «ستعدل مواقع بعض القوى، يعني هنا يزيد نائبان وهناك ينقص نائبان… لكن في البلد اصطفافات سياسية حادة ومؤثرة، وستبقى مؤثرة على القرار السياسي». و«مستقبل لبنان»، كما تقول أدبيات الحزب المعروفة والمكررة في كل مناسبة، يقوم فقط على ثنائية «المقاومة» بالسلاح غير الرسمي – كي لا نقول غير الشرعي – على الصعيد الداخلي و«الممانعة» السياسية على صعيد القضايا الاقليمية… وحتى المحلية.
قبل الشيخ قاسم، كان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله قد قال، وبعبارات لا تحتمل التأويل بدورها، ان ما بعد الانتخابات لن يكون مختلفا عما قبلها «حتى لو بقيت الأقلية أقلية… لأنها أقلية حالياً»، وأن الأكثرية البرلمانية ليست هي نفسها الأكثرية الشعبية. وفي كلام السيد حسن هذا اشارة لا تقبل النقاش الى هدفين في وقت واحد: أولهما تعطيل الحكم، من داخله أو من الخارج، ما لم يكن متوافقا مع طروحات الأقلية المحلية والاقليمية، وثانيهما أن ما قامت به الأقلية في الأعوام السابقة (بما في ذلك استقالة الوزراء والاعتصام في وسط العاصمة واقفال مجلس النواب) قد يتكرر مجددا في مرحلة ما بعد هذه الانتخابات.
بهذا المعنى، فضلا عن الكلام على «المشاركة» و«الثلث المعطل» في أية حكومة تشكل بعد الانتخابات، يكون الاستفتاء الشعبي المقرر يوم 7 حزيران – وكل انتخابات استفتاء شعبي – مجرد عملية لوجستية تفترضها دورة الحياة الدستورية لكنها لا تقدم ولا تؤخر، الا في تبديل بعض شاغلي المقاعد في المجلس النيابي. وبه أيضا وبالذات، يكتسب معناه العميق اصرار قادة الأقلية جميعهم على نفي كل كلام يصف هذه الانتخابات بأنها «مفصلية» أو «مصيرية» أو حتى بأن ما بعدها سيكون مختلفا عما قبلها.
هي اذا « ديموقراطية « من نوع خاص، تلك التي تدعو الأقلية الشعب اللبناني الى ممارستها ليس في الانتخابات فقط، وانما في الحياة السياسية كلها أيضا. بل هي اضافة جديدة الى ما سبق من تأويلات لمعنى الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي تتحدث عن «العيش المشترك» ولمفهوم «الديموقراطية التوافقية» وحتى لروح «الميثاق الوطني» نفسه.
أما تطبيقها في الحياة السياسية اللبنانية فمن شأنه أن يؤدي، في الممارسة على الأرض، الى جملة وقائع غريبة على الشكل التالي:
أولاً- تقسيم اللبنانيين الى «أكثريات» متباينة، بل ومتضاربة في ما بينها، بحيث يتحولون الى «أكثرية نيابية» وأخرى شعبية، وربما ثالثة طائفية ورابعة مذهبية وخامسة جهوية الخ… مع فتح الباب واسعا، كما حدث في مرحلة سابقة، لوصف كل منها الأخرى بأنها «أكثرية وهمية» وتفسير الفقرة (ي) من مقدمة الدستور والميثاق الوطني على أساسها!.
ولأي مراقب محايد أن يتصور أية سلطة تنفيذية، وأي مجلس نواب، يمكن لهذه «الاكثريات» أن « تتوافق « (من الديموقراطية التوافقية نفسها )عليهما في أي يوم!.
ثانيا- اقتلاع مبدأ «تداول السلطة» مما اتفق اللبنانيون، منذ الاستقلال في 1943، على أنه نظام ديموقراطي برلماني من جذوره، واستبداله بنظرية «السلطة الدائمة» – أو الأبدية – التي تقوم على الاجماع في ما بين مكونات لبنان… وهي في هذه الحالة «الأكثريات» المشار اليها في الفقرة السابقة.
والمفارقة هنا، أن «الديموقراطية التوافقية»، بالتعريف اللبناني، هي الاختراع الخلاق لمعالجة ما يسمى بمعضلة الكم الكبير من «الأقليات» (لبنان بلد أقليات، كما يقال دائما) فاذا بنا الآن أمام «أكثريات» جديدة، ومتنوعة، تتوالد من رحم تلك «الأقليات».
ثالثا- الغاء أية فروق بين «الأكثرية» و «الأقلية» النيابيتين، ليس من خلال الانتخابات فقط، وانما اضافة الى ذلك من خلال «الثلث المعطل» الذي ترى النظرية اياها أنه ينبغي أن يكون قاعدة دائمة في تشكيل الحكومات. فما يطلق عليه اسم «الثلث الضامن» في الحكومة لا يفعل في الحقيقة الا أنه يلغي وظيفة الأكثرية في أن تحكم، بأن تمنعها الأقلية من ذلك بـ «الفيتو» الذي تملكه، تماما كما يلغي وظيفة الأقلية في أن تلعب دور المعارضة المطلوب منها. وليس صحيحا أن «المعارضة» من داخل الحكومة، كما هو حال الحكومة الحالية، أن تلغي مثل هذا العيب، فجليد اقرار الموازنة والتعيينات والتشكيلات مؤشر الى عيوب أخرى اضافية.
أكثر من ذلك، فلا دور ممكنا لمجلس النواب كله في مثل هذا الوضع.
واذا كان من المسلم به، ديموقراطيا، أن الحكم السليم انما يقوم في الواقع على رأسين معا وفي وقت واحد، احدهما السلطة والثاني المعارضة، وأن الأول تجسده (تمنحه الثقة وتمنعها عنه) الأكثرية في مجلس النواب فيما تجسد الثاني الأقلية في المجلس، فأقل ما يمكن أن توصف به مقولة «الثلث المعطل» أنها تلغي حتى احتمال قيام حكم سليم في البلد.
مع ذلك، لا بد من اجراء الانتخابات النيابية في 7 حزيران المقبل، بما هي استفتاء على وضع لبنان الحالي وعلى مستقبله، بعد ثلاثة عقود كاملة من الحروب فيه، وبدماء أهله، وعلى تراب أرضه. اذ لعل معضلة لبنان الآن، لا تكمن في هذه الانتخابات، ولا في ما بعدها، وانما هي في أماكن أخرى وحول قضايا أخرى.
ولعل ارتباك قواه وأحزابه وتياراته السياسية، وحتى طوائفه، يعود الى أنه نقل قسرا وبالقوة في العقود الثلاثة الماضية من حال الى حال… من حال المتأثر بقضايا أمته ومنطقته، وهذا طبيعي، الى حال الغارق تماما في وحول منطقته.
ولعل ما يحيط بهذه الانتخابات، وبما بعدها بشكل خاص، هو جزء من الحملة الانتخابية من جهة وجزء من بدل «الوقت الضائع» بانتظار انجلاء الوضع في المنطقة، وارتداداته على الوضع في لبنان، من جهة ثانية.
ولعل… ولعل… (من الحروف المشبهة بالفعل) ما يتحدث به اللبنانيون الآن، وما يفكرون فيه حول المستقبل، ليس سوى كلام بكلام.. لأنه، بكل بساطة، غير منطقي وغير معقول ولا يمكن أن يحدث في لبنان!.
* كاتب لبناني.
الحياة