المسألة الكردية في زمن الاعتدال
بكر صدقي
في الطائرة التي أقلته إلى بغداد، تحدث الرئيس التركي عبد الله غل إلى الوفد الإعلامي الذي رافقه فلفظ كلمة كردستان، في سياق حديثه عن حكومة الإقليم. كان وقع الكلمة صادماً إلى الحد الذي جعل بعض الصحافيين يقاطعونه للاستفسار: «هل قلتم إقليم كردستان أم أسأنا السمع؟». فرد غل بالقول: «وماذا أسميه؟ هذا هو اسم الإقليم في الدستور العراقي النافذ».
ويسرب مقربون من كل من غل ورئيس الحكومة أردوغان أجواء متفائلة في مقاربة المسألة الكردية في تركيا، كالحديث عن نطاق العفو العام الذي يمكن أن يشكل مدخلاً لحل سلمي لسلاح حزب العمال الكردستاني، أو عن إجراءات أخرى من شأنها تدعيم جو الثقة لدى أكراد البلاد، بعد إطلاق القناة التلفزيونية الحكومية الناطقة بالكردية والعمل الجاري لإنشاء كليتين جامعيتين لدراسة اللغة والأدب الكرديين، وإصدار ترجمة كردية للقرآن الكريم.
في كل ذلك تبدو حكومة حزب العدالة والتنمية ورئيس الجمهورية المتحدر منها، في توافق حذر مع قيادة الجيش. وبرغم الصورة المتجهمة لرئيس الأركان الجديد إلكر باشبوغ التي تقدمه للرأي العام كعلماني متشدد وحريص على الإرث الكمالي في الدولة – الأمة، يبدو أن الأبعاد الخطيرة التي بلغتها قضية شبكة أرغنكون الإرهابية، دفعت به إلى خط يحترم الدستور بعيداً عن التفكير الانقلابي الذي وضعت تطورات قضية الشبكة المذكورة نهايةً له. فقد انكشف تورط عدد من رؤساء الأركان السابقين كحلمي أوزكوك وإسماعيل حقي قرة داي، بشكل أو آخر في نشاطات الشبكة وفي التخطيط لانقلابات عسكرية، بين العامين 2002 و2004، لم يقيض لها النجاح، فضلاً عن عدد يتزايد باطراد (من المتورطين) من الضباط الكبار المتقاعدين والعاملين. من المرجح أن تغير البيئة الدولية كان العامل الحاسم في تراجع حظوظ الحالمين بالانقلابات العسكرية داخل الجيش وخارجه. فمن المعروف أن جميع الانقلابات العسكرية التي طبعت الحياة السياسية التركية منذ العام 1960، ما كان لها أن تنجح لولا الدعم الأميركي، وهذا ما لم يعد متوفراً في الألفية الجديدة، بعدما رفعت الولايات المتحدة غطاءها التقليدي عن أنظمة الاستبداد والدكتاتوريات العسكرية.
وتأتي الزيارة التاريخية للرئيس التركي إلى بغداد في سياق سياسي أوسع سمته الأبرز الاعتدال والحوار، في منطقة حافلة بالمشكلات المزمنة والتوتر. الزخم الذي وصل به الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وخطابه الذي يركز على الحوار مع الخصوم بحثاً عن حلول وسط لمشكلات المنطقة، أطلقا دينامية اعتدال لدى القوى الإقليمية الفاعلة كان من ثمراتها مثلاً فك العزلة الدولية والعربية عن النظام السوري وإعلان الحكومة البريطانية عن استعدادها للحوار مع حزب الله، وإطلاق الحوار الفلسطيني الداخلي بين حركة فتح وحماس، والانفراجات السياسية والأمنية في العراق بعد الانتخابات المحلية التي دعّمت حكومة المالكي، وتعليق الفرع السوري لحركة الإخوان المسلمين نشاطها المعارض للنظام السوري.
وكان الخبر الأبرز في زيارة غل لبغداد النداء الذي وجهه الرئيس العراقي جلال طالباني لحزب العمال الكردستاني، وطالبه فيه بالاختيار بين إلقاء السلاح ومغادرة الأراضي العراقية، الأمر الذي شكل هدية طالباني لضيفه التركي مقابل الود التركي الجديد نحو العراق وإقليمه الكردستاني. من المبكر التكهن حول مصير هذا النداء الذي جاء الرد عليه سلبياً من أحد قيادات حزب أوج آلان. فالموقف النهائي للحزب المذكور لن يعلن عبر وسائل الإعلام، بل ينبغي انتظاره من خلال مفاوضات سياسية يكون هو طرفاً فيها مباشرةً أو بالواسطة. بالمقابل لا يمكن افتراض أن طالباني أطلق نداءه لأن الفكرة خطرت له فجأة لدى استقباله لنظيره التركي. وفي المعلومات أن مسعود البارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، يحضر الآن لمؤتمر وطني كردي من المتوقع أن يدعو إليه قوى سياسية وشخصيات مستقلة تمثل الأكراد في العراق وتركيا وسوريا وإيران والمهاجر الأوروبية والأميركية، على أن يعقد في أربيل في أواخر نيسان أو أيار القادمين. وتتناقل الصحف التركية منذ شهرين معلومات مفادها أنه على جدول أعمال المؤتمر العتيد إصدار نداء إلى حزب العمال الكردستاني يطالبه بإلقاء السلاح والانخراط في الحياة السياسية والبرلمانية في تركيا، مضيفةً أن القيادات التركية تعلق آمالاً كبيرة على المؤتمر وسوف تغض النظر عن مشاركة قوى وشخصيات كردية من تركيا، وتنتظر النتائج لتقوم بما هو مطلوب منها في المقابل.
كل التحليلات المتفائلة هذه لا تعني أن كل شيء مضمون. فالنتائج تتوقف على مواقف الأطراف وسلوكهم. فلا يستبعد ألا تتجاوب قيادة حزب العمال الكردستاني مع النداء المفترض من المؤتمر الذي لم يعقد بعد، كما لم تفعل مع نداء طالباني، بل يتوقع المتشائمون أن يرفض الحزب المذكور المشاركة في المؤتمر إذا كان أحد أهدافه مطالبته بالتخلي عن السلاح. ذلك أن الحكومة التركية لم تلزم نفسها إلى اليوم بأي وعود ملموسة، وبقيت إشاراتها غائمة في ما خص احتمال إصدار العفو عن مقاتلي الحزب ومدى شموله.
تركيا التي تلعب دور الوسيط بين السوريين والإسرائيليين، بل بين الدول العربية التي كانت إلى وقت قريب على خصومات في ما بينها، هل تقبل بوساطة كردية عراقية بينها وقيادة حزب العمال الكردستاني؟ قد تكون هذه هي الطريقة الأمثل للاتفاق على من يخطو الخطوة الأولى، الحكومة التركية أم الحزب الكردي المسلح، ويكسر الحلقة المفرغة من دوامة العنف المزمنة.
* كاتب سوري.
الحياة