الخارج والداخل في فوضى الشرق الأوسط
خالد الحروب
ثمة جدل لا ينقطع في أوساط منظري العلاقات الدولية وفلسفتها حول دور “الخارج” ودور “الداخل” في تحديد وجهة وطبيعة ومضمون السياسة المتبعة لهذا البلد أو ذاك. هناك من يُعطي “الخارج”، خاصة عندما يكون متعولم السيطرة وذا نزعة إمبريالية، الدور المركزي الأهم في صوغ وبناء “البنية” الإجمالية الصلدة التي تتحكم في هوامش تحرك “الداخل”، كما في صوغ اتجاه البوصلة الذي “يُسمح” لـ “الداخل” بأن يتحرك نحوه.
وهناك في المقابل من يقلل من دور “الخارج” مانحاً “الداخل”، خاصة عندما يحقق إستقلالاً حقيقياً وينفك من انماط السيطرات الإمبريالية، الدور المركزي الأكبر إزاء “بنية” التحرك وبوصلته. حَمَلة الطرح الأول يرون القوى الكبرى، وهي ما يُجسد “الخارج” لها مصالح كبرى وحساسة في مختلف رقاع المعمورة، تنظر بعماء إنساني إلى العالم وكأنه قطعة بيداء واسعة مجردة من الآخرين، وبرسم التقسيم والتوزيع فيما بينها. وخلال عملية تقاسم النفوذ تتعرض شعوب وبلدان وثقافات وحضارات “صدف” وإن تواجدت “هنا وهناك” إلى الدوس، عملياً وبالمعنى الحرفي، أو مصلحياً وبأكثر من معنى. وهذا حدث في الماضي كما في الحاضر، وعبر الحضارات والقوى المختلفة. وحملة الطرح الثاني يرون أن ما هو مُتاح من مساحات وهوامش تحرك لـ “الداخل” هو أكثر بكثير مما يتم الاعتراف به، أو إدراكه، من قبل هذا “الداخل” الذي يستسهل الاندراج في نزعة الشكوى والتذمر الدائم. وأن العلاقة مع “الخارج” هي أكثر تعقيداً وتركيباً من تبسيطها ووضعها في السياق الإمبريالي التوسعي أو الأحادي التفسير.
أحد العناوين النظرية لإجمال ما سبق هو منظور “البنيوية” (structuralism) والقائم على أن ثمة “بنية” تقوم وتحيط بالوضع القائم وتتحكم بمجريات الأمور فيه بشكل مباشر أو غير مباشر (و”البنيوية” هنا هي ليست ذاتها النظرية المشتهرة في النقد الأدبي، على ما فيهما من بعض تشابه في التقعيد الأبستمولوجي الأولي). والوحدات (units ) المتعددة المنضوية في داخل البنية المحددة، وربما أو غالبا ما تكون وحدات مختلفة فيما بينها (حكومات ومعارضات مثلاً) تخضع جميعها لاشتراطات وإكراهات تلك “البنية”. وهكذا، وعلى غير ما تتمنى وتتوقع أحزاب معارضة كثيرة، فإن الوضع القائم لن يتغير جذرياً حتى لو أنها أمسكت بالحكم وحاولت إعادة تأسيسه على قواعد مغايرة لتلك التي قامت عليها الأنظمة التي عارضتها. ففي نهاية المطاف تظل “البنية” (الدولية والإقليمية) هي التي تتحكم عن بعد أو قرب بهوامش التحرك واتجاهاته. وهذا الوضع “البنيوي” المثير لليأس والإحباط خاصة في أوقات الشلل العام وسيطرة “الخارج” لا يمكن تغييره إلا عن طريق “الثورة الجذرية” في “الداخل”، أو تغيير موازين القوى العالمية في “الخارج”، وبالتالي انقلاب “البنية” العامة أو تغيرها. لكن المحبط، وبشكل يكاد يكون رتيباً، هو أن “الثورة” والتغير الجذري في موازين القوى العالمية سرعان ما يخلقان “بنية” جديدة للعلاقات الداخلية والإقليمية والدولية تمتاز بالصلابة وعدم المرونة والإكراهية، تماماً كما كانت سابقتها، وأحياناً ليست بالقليلة. يُضاف إليها بعد انعدام الخبرة. وهذا يقود إلى مراوحة إجمالية ليس أكثر: “الثورة” تقلب “الوضع القائم”، وسرعان ما تتحول هي نفسها بعد وقت قصير إلى “وضع قائم” جديد يتطلب “ثورة جديدة” عليه، وهكذا دواليك.
بعض مما هو مفيد من جوانب هذا السجال حول دور “البنية” مقارنة بدور “الوحدات” المنضوية تحتها، أو دور “الخارج” مقابل “الداخل” هو بعض التأمل في “فوضى الشرق الأوسط” الراهنة والسؤال حول إمكانية وكيفية الخروج من عدد كبير من المآزق في ظل بقاء نسق علاقة “البنية” و”الوحدات” كما هو الآن. وبقدر أكثر وضوحاً وأبعد عن التجريد، فنحن الآن نرى شرق أوسط مُتحكماً فيه من خلال “بنية” أو بنيات شاملة، على مستوى الدول، أو مستوى الإقليم، عاجزة عن تقديم حلول للانسدادات التي أنتجتها، لكنها تلجأ وتضغط على “الوحدات” الأقل قدرة وقوة والمُسيطر عليها كي تجد مخارجاً للمآزق التي يتوالى استحداثها. أهم الأمثلة أمامنا هي فلسطين والعراق ولبنان. في كل من هذه الحالات هناك “بنية” فوقية تم إنتاجها وفق علاقات وصيغ وإكراهات من قبل الأطراف الأقوى في الصراع المعني، ثم أحيل كما هو متبدٍ راهنا إلى الأطراف الأضعف لضرورة اجتراح حلول لأوضاع مستحيلة. “الخارج” يخلق “بنية” مولدة لوضع يستحيل على الحل في المدى المنظور، ثم يتوجه بالضغط والإجبار باتجاه “الداخل” لإيجاد معالجة للوضع المستحيل. في فلسطين، مثلاً، تشير معالم “البنية” الصارمة والخارجية أولاً إلى المظهر التقليدي حيث يتواصل تحكم الولايات المتحدة وإسرائيل بكل مفاتيح السيطرة والحل للوضع القائم، سلماً أم حرباً. لكن تلك “البنية”، ثانيا، في حقبة ما بعد 11 سبتمبر (وفي قلبها شظايا ومخلفات اتفاقيات أوسلو) تريد من الفلسطينيين أن يصبحوا ديموقراطيين، ومعتدلين، ومنخرطين في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن في نفس الوقت قابلين للاحتلال الإسرائيلي وخاضعين لشروطه المستحيلة لتغيير أحوالهم (تفاقم الاستيطان، تهويد القدس، لا للاجئين، الخ…). وعندما تنفجر هذه المطالبات المتناقضة في وجه بعضها البعض يُصبح المُلام هو الوحدات أو النواتج الطبيبعية لما أفرزته “البنية” أصلاً، فيما تُعفى تلك “البنية” من المسؤولية المركزية. وعلى هوامش الاشتراطات شبه المستحيلة وتجسيداً لها في الملف الفلسطيني تتبدى مفاوضات ما بعد أنابوليس غاية في العبثية. فهي تتم في إطار كلاني وفي سياق شكل صارم تقوم بنيته على انقسام رأسي غير مسبوق للفلسطينين. وتفترض أن الوصول إلى حل مع طرف من الفلسطينيين قمين بأن يتم قبوله من الطرف أو الأطراف الأخرى، هذا إن حدثت المعجزة وتم الوصول فعلاً إلى مثل ذلك الحل. وفي نفس الوقت فإن تلك “البنية” تشترط الآن عدم توحد الفلسطينيين وتهدد – إن فُتح باب الحوار بين رام الله وغزة – بأن التفاوض مع واشنطن وتل أبيب سوف يُغلق. ويُطلب من رام الله ان تشارك في مفاوضات شكلية وأحياناً رغما عنها في أوقات يتم فيها حرق غزة بما يقود إلى إضعاف شعبية وشرعية من يفاوض. ومن يفاوض هنا تفترض فيه “البنية” المذكورة أنه الأكثر شعبية والأرسخ شرعية، لكن كل ما تفعله هو تذريته وتدميره. ويُطلب من غزة أن تقبل بشروط تهدئة لا تشارك فيها جميع الأطراف، وبحيث يُتاح لإسرائيل أن تضرب زيداً وتستثني عمراً متى تشاء، لتعود فتسكت مؤقتاً عن الأول لتضرب الثاني. ثم في الحالات الأكثر، تريد تهدئة تتيح لها ضرب زيد وعمرو متى تريد، مقابل أن يكفا كلاهما عن ضرب إسرائيل. وفوق ذلك كله تُحاصر وتجوع بما لا يدع مجالاً لأي رد فعل سوى العنف والغضب، ثم يُطلب منها أن تتبنى “سياسة إسكندنافية” للتعامل مع محيطها. مرة أخرى تتمثل المفارقة السخيفة الكبرى في فوضى الشرق الأوسط الجديد في خلق مستحيلات وشبه مستحيلات متنوعة الأحجام والمستويات وفرضها على الأطراف الأضعف ومطالبتهم بتحقيقها، وهي مستحيلات أنتجتها “البنية” القاسية والباطشة التي خلقت وقائع عجزت هي عن حلها، فرأت أن أفضل الطرق للتخفف من المسؤولية تكمن في مداومة تحميل المسؤولية للذين داستهم جيئة وذهاباً خلال مسارات فشلها في تحمل تلك المسؤولية أصلاً وإيجاد حلول للمعضلات التي خلقته
الشرق القطرية