الشيء في ذاته: أوباما في ذاته
وسام سعادة
ليس معقولاً أن يوجّه أي مرشّح لشغل أي منصب في أي انتخابات صغيرة كانت أم كبيرة تهمة «الاستلاب» لأولئك الذين من حقّهم التصويت له أو ضدّه، وليس معقولاً أن يدّعي أي مرشّح بأن الظروف السيئة اقتصادياً لناخبيه هي التي تدفع بهم الى خيارات سيئة لحظوظه هو كمرشّح، ويزداد الأمر استهجاناً عندما يعيد هذا المرشح سوء الظروف الاقتصادية لناخبيه إلى مسؤولية من ينافسونه في الانتخابات.
فأساس اللعبة الانتخابية الديموقراطية أن المرشّح الذي يخوض السباق، ليست وظيفته أن يحكم على ناخبيه، إن كانوا أذكياء أو سذّجا، وإن كانوا يعون مصالحهم بشكل سليم أم بشكل مشوّش، أو لا يعونها بالمرّة. هذا شأن الناخبين لا شأنه. لهذا الغرض قامت في الأساس العملية الانتخابية. هو من يتقدم للامتحان. ليس هو من يضع العلامات.
بيد أن باراك أوباما صرّح بما لا يحق، أدبياً، لمرشح التصريح به. ديموقراطياً، يمكن للمرشّح أن يشنّع ما طاب له التشنيع على المرشّح المنافس له، لكنه لا يحق له التعرّض للهيئة الناخبة. ليست هذه السنّة التي يتبعها المرشّح الذي يستمد قوته وضعفه من اللعب بورقة «الاختلافات الاثنية» معطوفة على مفردة «التغيير» التي لا يتوقف عن تردادها كما في حلقة الذكر الصوفية، حتى أخذته في لحظة انخطاف… «فوق الجميع».
فأوباما ينشد «التغيير في ذاته»، أي التغيير المستعصي على الفهم، والأكثر صعوبة على الإدراك من «الكسب» في ذاته عند الإمام الأشعري، ومن «الشيء في ذاته» عند عمانوئيل كانط. ولأنّ الطبقة العاملة وصغار الكسبة من سكان المدن الصغيرة لاقوا صعوبة في فهم «التغيير في ذاته»، و«أوباما في ذاته» فلم يجد السيناتور الديموقراطي الخلاسي حرجاً في التعالي على ناخبيه جهاراً، بالقول: «ليس من المفاجئ اذاً، أن يزدادوا قسوة، إنهم يتشبثّون بالأسلحة أو بالدين أو بكره من لا يشبههم، أو بالشعور المعادي للمهاجرين، أو المعادي للتجارة، كشكل للتعبير عن إحباطهم الاقتصادي». وصف كهذا استحق الشجب المناسب من جانب المرشحة الديموقراطية المؤيدة من طائفة العمّال، هيلاري كلينتون، اذ ندّدت بهذا الصلف النخبوي، الذي يفيد عملياً المعسكر اليميني الجمهوري. فمما يزيد من وجاهة التهمة الموجهة الى أوباما، أنه لم يأت بمثل هذا التقييم المسيء لناخبيه، في جلسة مصارحة مع البعض منهم. إنما صرّح بذلك، أمام كبار الأغنياء من المانحين الداعمين لحملته الترويجية.
حيثية كهذه من شأنها أن تقلّل من هامش التأويل اللغوي التخفيفي لوقع الكلمات الفجّة. فسواء وصف السيناتور أوباما الناخبين بأنهم «يزدادون قسوة» أو «يزدادون مرارة»، فإنه في الحالتين يوجّه لهم تهمة «الاستلاب»، أي تهمة أنّ الاحتقان والإحباط الاقتصاديين يدفعان بهم الى حيث عدم وعي مصالحهم، والانغماس بدلاً من ذلك في دائرة الانفعال.
في هذه، تنصهر التهمتان الموجهتان الى أوباما: النزعة النخبوية، والنزعة الشعبوية.
هو نخبوي، لأنه يقول بأن الشعب لا يعرف الحقيقة، وهو، أي أوباما المخلّص والمدعوم من كبار المانحين، يأتي ليضخّ الحقيقة اليه. الشعب هو من يستمد شرعيته من أوباما وليس العكس.
وهو شعبوي، لأنه يقول بأنّ الشعب مقدم على تغيير غير مسبوق، وبأنّ ثمّة طرفا يمثّل «الشعب» من حيث هو «شعب» ضد المرشّحين الآخرين.
لأجل ذلك فقد وفّق وليام كريستول، وهو عموما معلق سيئ ومتطرف، في «النيويورك تايمز» بوضعه تصريح أوباما في قبالة المقطع الشهير لكارل ماركس (المستل من «مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل): «البؤس الديني هو من جهة، تعبير عن البؤس الجاثم بالفعل، ومن جهة أخرى، تعبير عن الاحتجاج على البؤس الجاثم بالفعل. الدين هو أنّة المخلوق المثقل بالبؤس، نفس لعالم بلا قلب، كما أنه روح لحقبة يغيب عنها الروح. إنّه أفيون للشعب».
بيد أن الفارق هو أن وصف «الاستلاب» أو «الاغتراب» في نص فلسفي كما فعل ماركس الشاب شيء، والضغط على الناخبين أو الإساءة المعنوية لهم بتهمة «الاستلاب» شيء آخر. الفارق شاسع. هو الفارق بين ماركس والماركسية الشعبوية. ويبدو أن الفارق بين ماركس والماركسية اليوم هو كالفارق بين ماركس وأوباما. بطبيعة الحال، أوباما لا يدّعي انتساباً من أي نوع لماركس، لكن خطابه يكشف عن صلة ما بالماركسية الشعبوية.
مما أوضحه كريستول أن التهم التي وجهها أوباما للعمال وأهل صغار المدن إنما هي تهم مردودة عليه. فأوباما يعزو الشعور المعادي للتجارة عند هؤلاء الى الاحباط والاحتقان الاقتصاديين، «وكأنه ليس هناك جدال جدّي بشأن اتفاقات التجارة الحرّة. أليس أوباما من كان يثير هذا النوع من الجدال، مستثيراً هذا الشعور الذي يستنكره». وكذلك الأمر بالنسبة الى الغلو الديني، ألم يلعب أوباما هذه الورقة أكثر سواه، وفي خرق فاضح للتقاليد العلمانية المعمول بها في تراث الحزب الديموقراطي؟ وفي ما عنى الكراهية للمهاجرين، ألم يصادق السيناتور «التغييري» على «قانون السياج الآمن» عام ,2006 بقصد السيطرة على الحدود المكسيكية بوسائل عدّة، أبرزها مئات الأميال من الحواجز والأسلاك الشائكة؟ وبخصوص التعلّق بالأسلحة، ألا يكفل الدستور الأميركي ذلك؟ أليس أوباما من سوّق نفسه بوصفه الأكثر تسامحاً لجهة حيازة الأسلحة الفردية من أي مرشح ديموقراطي نمطي؟ لقد نجح وليام كريستول هذه المرة في التصويب على المفارقة ـ الفقاعة. فالمرشح الذي تجتمع فيه النزعتان «الشعبوية» و«النخبوية»، «متغطرس» و«متملّق» في آن (التعبيران لكريستول). «متغطرس» حيال «الطبقة العاملة الأميركية» وحيال «الرّيف الأميركي». و«متملّق» أمام داعميه من أصحاب الثروة في سان فرنسيسكو. والمشكلة ليست في أصحاب الثروة، كما أن المشكلة ليست في الطبقة العاملة أو في مدن الريف الصغيرة والبسيطة. إنما المشكلة في عارضي الغطرسة والتملّق اذ يحضران بمؤثرات عالم ـ ثالثية.
السفير