جورج بوش يعتمد حيلة شهرزاد في صنع القصص
موريس أبو ناضر
شغلت شهرزاد راوية قصص ألف ليلة وليلة، العالم بطريقتها في رواية القصص لمليكها شهريار. فقد اشترت حياتها، وحياة بنات جنسها بسرد قصص جعلت فيها الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وبين الحقيقي والعجائبي، وبين المعقول واللامعقول حدوداً واهية. وبذلك استطاعت التخلص من الموت الذي كان يحاصرها عبر التفنن في سرد ما يحدث، وتأخير حدث عن حدث وزمن عن زمن، ومكان عن مكان في هدف التشويق الذي يقوده فن الحبكة وقد أتقنته شهرزاد عبر الأيام والشهور الى أن أنجبت. وكان الإنجاب الفعل الذي تمنته للفوز بالحياة.
تكمن استراتيجية شهرزاد في مبدأ بسيط جداً قوامه: عندما تحكم السياسة عليك بالموت إبدأ برواية القصص، القصص التي تشد القارئ أو السامع اليها وتجذبه بأحداثها، وتغريه بأبطالها، وتُنشيه بحوادثها وتسليه بأوصافها، وتقنعه بأهدافها. هكذا ينسى الملك، أو الرئيس أو الوزير الحكم عليك بالموت. وهذا ما فعلته شهرزاد وهذا ما فعله الرئيس الأميركي جورج بوش. فقد ذكرت إحدى أساتذة جامعة كولورادو في أميركا، إيراشرْيْس، ان مستشار الرئيس الأميركي كارل روف طبّق استراتيجية شهرزاد في رواية القصص في حملات جورج بوش الانتخابية، وذلك بتحويل انتباه الناخبين الأميركيين عن عدد القتلى الكبير للجنود الأميركيين، في العراق، بالحديث عن الأساطير العالقة في مخيالهم، حول تأسيس أميركا، أساطير تسحرهم وتخلب انتباههم تجنباً لقرار الناخبين بإدانة بوش وحزبه الذي قاد الأميركيين الى مجزرة في العراق لا فائدة منها.
من الطبيعي إذاً أن يلجأ بوش المحاط بأساتذة في «إخبار القصص» الى القصة بمنطوق شهرزاد منذ بداية تسلمه الحكم. فقد أوردت جريدة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية في عددها السادس والتسعين أن الرئيس بوش عندما قدّم أعضاء وزراته الى الصحافيين قال: «لكل واحد منهم قصة فريدة. وهذه القصص مجتمعة تروي ما تقدر عليه أميركا وما تريده».
ثم نظر الى وزير الخارجية آنذاك كولين باول وقال: «انه قصة أميركية كبيرة»، وتطلع الى وزير المواصلات وقال: «أحب قصته». ثم اختتم قائلاً: «لنا كلنا مكان في قصة طويلة. قصة نُكمل بعض فصولها، ولكننا لن نرى نهايتها».
إن ترداد كلمة قصة أكثر من مرة على لسان الرئيس الأميركي بوش ليس من باب الصدفة، بل هو يعكس أثر المستشارين في الادارة والدعاية الذين يحيطون به، والذين اتقنوا فن «إخبار القصص» (ستوري تلينغ) منذ أن انتشر في التسعينات من القرن الماضي في المعاهد والجامعات الأميركية التي ما كانت تعنى بهذا الفن إطلاقاً، وهي المعاهد العسكرية، والجامعات التي تدرس التجارة والمال والاقتصاد والإدارة.
إن «فن إخبار القصص» الذي غزا المعاهد والجامعات الأميركية، وغدا علماً قائماً بذاته، في التسعينات من القرن الماضي حمل رجال الإدارة الكبار، والعسكريين الكبار على تعلم فن إخبار القصص، في هدف التعليم، والتدريب في مجالي العسكر والأعمال المالية. والمعروف أن القصص في هذين المجالين تقوم على الواقع، ولا مجال فيهما للقصص القائمة على الوهم والتخيل.
إن «فن إخبار القصص» على ما تقول عالمة الاجتماع الأميركية فرنشيسكا بولتا اجتاح قطاعات كان من غير الممكن في السابق اجتياحها. فرجال الإدارة مضطرون على أن يرووا القصص للعمال لتحفيزهم على مزيد من العمل، ومزيد من الربح، والأطباء مطالبون أن يستمعوا الى قصص مرضاهم، وعلماء النفس مدعوون الى اتقان فن رواية القصص العلاجية لمرضاهم، أما المراسلون الصحافيون فقد أجبروا على تعلم أصول السرد القصصي لكتابة تقاريرهم.
إن تعلم فن رواية القصص غدا مع الوقت (وليفرح القصاصون بمهنتهم) وسيلة للإقناع، والإغراء والتثقيف، وغدا مجالاً يُتقن بغية التأثير في الجمهور، والناخبين والزبائن. وهذا يعني أن تجعل الناس يشاركونك آراءك، ويشاطرونك معلوماتك وخبراتك.
في الواقع إن فن رواية القصص، هو شكل من أشكال السرد أو كما يقول المفكر الفرنسي جيل دولوز «نظام» يجب تعلمه وتعليمه. ففي كل مرة يخاض النقاش حول توقيع اتفاق تجاري، أو اتفاق سلام بين فئات متقاتلة، وفي كل مرة تنزل الى السوق سلعة جديدة، وفي كل مرة تحاول أن تجري تحولاً في متطلبات العمل داخل مؤسستك أو مصنعك، وفي كل مرة تحاول أن تصنع لعبة فيديو، او كليب لمغنية، أنت في حاجة الى أن تروي بطريقة ما قصة مسلية ومقنعة آخذاً في الاعتبار التمويل والأشخاص والمتحادثين، المساعدين والمعادين، والهدف ومجال الربح. هذه الطريقة في رواية القصة غدت ألف باء الأيديولوجية التي تُعلم لرجال المال والأعمال ورجال السياسة لتدبر أمورهم، وأمور مؤسساتهم، سيطرت على كل العلوم الإنسانية.
كانت القصة قبل اقتحامها مجال العلوم العسكرية والمالية في التسعينات من القرن الماضي وسيلة لتعليم الصغار، وتسلية الكبار. كانت فناً لغوياً قائماً على شخصيات تلعب أدواراً على خشبة الحياة. أدوار أخذت بفعل السرد مكانها في القصة، وتسربلت بفعل زمانها الطالع من الماضي الى الحاضر، أو النازل الى أعماق التاريخ أو الى أعماق النفس الإنسانية. وقد فتح الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت بحثه المعنون «مدخل الى التحليل البنيوي للقصص» آفاقاً جديدة تلقفها الناقد البلغاري تزفتان تودوروف فأسس نظاماً في الكتابة عُرف «بالسردية»، وعَرَف في أميركا شهرة كبيرة في التسعينات من القرن الماضي. يكتب رولان بارت في هذا السياق: «القصة بأشكالها المتعددة موجودة في كل الأزمنة وكل الأماكن وكل المجتمعات. وهي تبدأ مع تاريخ الإنسانية. ذلك أنه لم يوجد في أي مكان شعب من دون قصة».
إن بارت الذي اعتبر القصة إحدى فئات المعرفة الكبرى التي يستعملها الإنسان لترتيب عالمه الواقعي والمتخيل، لم يكن يدرك العدوى التي ستصاب بها العلوم الإنسانية بعد العلوم العسكرية والمالية في تعلم أو تعليم فن إخبار القصص. من ذلك أن علم الاجتماع اهتدى بتقنيات رواية القصص في معالجته للأسئلة المتعلقة بالهويات الاجتماعية والمهنية، وهذا ما يؤكده ريشار سنيت أستاذ الاقتصاد الاجتماعي في جامعة لندن إذ يقول: «أتمنى أن يهتم علم الاجتماع عن قرب بالقصة… لأن الرهان في التأويل يقوم في قدرتنا على إعادة بناء قصة حياة العامل انطلاقاً من نُتف «تكوّن تجاربه وخبراته». وعلم الاقتصاد بدوره خضع لتأثير «فن إخبار القصص». فعالم الاقتصاد دريد مكلوسكي يدافع عن فكرة أن الاقتصاد هو كالقصة يخضع لنظام السرد. «ليس من باب الصدفة – كما يقول – ان تنشأ القصة في الوقت نفسه الذي نشأ فيه الاقتصاد». أما علم القانون فهو الآخر، وقع تحت تأثير «فن إخبار القصص» (ستوري تلينغ)، وهذا ما يؤكده عالم القانون أنطوني امستردام بقوله: «إن التقديم السردي للأحداث على طريقة القصة يساعد في تحرير الأحكام». أما علم النفس فهو أيضاً كان على تماس وما زال مع تقنيات القصص، في معالجة المرضى النفسيين سواء بالاستماع الى قصصهم، او بإسماع الطبيب المعالج لمرضاه قصصهم الحقيقية التي توارت في اللاوعي بفعل القهر والحرمان.
يذكر الباحث الفرنسي كريستيان سلمون في كتابه «ستوري تلينغ – ماكينة فبركة القصص وقولبة العقول» ان شركة «أي بي أم» استعانت بأبحاث عالم السميولجيا الروسي فلاديمر بروب حول القصة من أجل الوصول الى النماذج التي تقوم عليها قصص موظفيها. ومن أجل خلق قصص لمستهلكي إنتاجها تساعد في الترويج والبيع، وترفع من مستوى الربحية. هكذا تبدو القصة التي ملأت التاريخ من هومير حتى تولستوي، ومن شهرزاد حتى شكسبير تبدو اليوم في غير لباسها المعهود والمعروف، ففيما كانت تروي أساطير العالم، وتنقل أفكار الشعوب وحكمها، وتتندّر بتجارب تاريخ الأمم صارت اليوم وسيلة يستعملها رجال المال والسلاح، ورجال السياسة والدعاية، كل في مجاله، للعب بعواطف الناس وإقناعهم بشراء أفكارهم وسلعهم، واعتماد توجهاتهم السياسية، أو المالية أو العسكرية.
الحياة – 18/04/08