دولة إسلامية أم علمانية؟
عبد الله السيد ولد أباه
لا مندوحة من الإقرار أن السؤال مهم، ويطرح إشكالات فكرية وسياسية متشعبة، ليس هذا مجال بسط القول فيها. وسأكتفي في هذا الحيز بمعالجة سؤالين أساسيين يتفرعان من الإشكالية التي طرحها الصديق، يتعلق أولهما بطبيعة الدولة الوطنية الحديثة في علاقتها بالدين، ويتعلق ثانيهما بالمرجعية السياسية للحركات الإسلامية.
فبخصوص الموضوع الأول، نلاحظ أن الدول العربية في مجموعها (باستثناء لبنان ذي الخصوصيات المعروفة) نصّت في دساتيرها على ان الإسلام هو دين الدولة ومصدر التشريع الوحيد أو الأساسي. وحتى الأنظمة التي انتهجت مسلكا تحديثيا يوسم بالتغريب استنكفت عن الخط العلماني وتبرّأت منه. لذا لا يمكن الحديث عن أنظمة علمانية في العالم العربي، بالمعنى الدقيق للعبارة.
ومع ذلك لا يمكن الحديث عن الدولة الدينية في المنطقة العربية، لا لثغرة في الشرعية الدينية، وإنما باعتبار كون الأنموذج السياسي الذي اعتمدته البلدان العربية، أي الدولة الوطنية الحديثة بعقلها السياسي وبنيتها البيروقراطية، هو أنموذج قام في تشكّله ومنطقه الغائي على انفصال المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، تجسيدا لمبدأ الفصل بين الدائرة الفردية الخاصة والحقل العام الذي هو أحد محددات الحداثة.
صحيح أن دور الدين في البلدان العربية في المجال العمومي حاضر ومعلن، على عكس أغلب البلدان الغربية المعلمنة، و إن كان لا يزال بعضها (كاليونان مثلا) يعتمد دينا رسميا للدولة، إلا ان ما يجري هو استتباع المؤسسة الدينية للدولة، بحيث تصبح إحدى أدواتها التعبوية وأطر حراكها، لا العكس كما يُتوهَّم غالبا.
فمن المعروف ان هذه المؤسسة الدينية التي كانت في العصور الوسيطة مستقلة عن السلطة السياسية وذات فاعلية كبيرة في الحقل الأهلي، أضحت اليوم حتى في البلدان التي كانت صلبة الحضور فيها هشة، لا تقوم الا بدعم وحماية الدولة. وذلك ما يفسر عجزها عن تأمين الحاجة الدينية في حقل مشتت تتقاسمه معها المكونات الإسلامية الأخرى بألوانها الجديدة المعلومة بالضرورة.
ومن الواضح ان الحركات الإسلامية نفسها (المعتدل منها على الأقل) تشعر بمأزق واضح في تقويمها للدولة الوطنية الحديثة من حيث المشروعية الإسلامية، فتميل أحيانا الى مطالبتها بالتقيد بمرجعيتها الإسلامية المعلنة، وتسمها أحيانا خرى بالعلمانية الخارجة عن أحكام الدين والملة من منظور تعطيلها لقوانين الشرع وحدوده.
والواقع ان العائق التشريعي يبرز لدى الجانب الأكبر من الإسلاميين الثغرة المحورية في الشرعية الإسلامية للدولة، بالرجوع للنصوص القرآنية القطعية المشددة على الحكم بالتنزيل. وقد بدأ نمط من الوعي الضمني بعدم عملية تطبيق الحدود الجنائية في البروز لدى تيار واسع من الاتجاه الإسلامي، تأرجح بين الاحتماء بالموقف الفقهي التقليدي الذي يجيز للحاكم تأجيل تنفيذ الحد خوفا من الفتنة أو حفظا للمصلحة العامة وإعادة النظر في دلالتها التشريعية كعقوبات رادعة وليست قوانين تطبق ميكانيكيا.
ولقد اقترح مؤخرا المفكر الإسلامي السويسري المصري طارق رمضان (حفيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين) تنظيم مناظرة علمية كبرى حول الأحكام الجنائية الإسلامية، مطالبا بتعليقها لفسح المجال أمام اجتهادات جديدة حولها تضمن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والمدونة القانونية الدولية التي صادقت عليها البلدان الإسلامية.
كما ان التيار العلماني العربي الذي ناهض بقوة توظيف الدولة للدين واستنادها الى مرجعيته وشرعيته، أضحى اقرب الى الاعتراف بخصوصية الدولة في الفضاء الإسلامي الذي لا يمكن ان يقوم فيه إقصاء الدين من الشأن العام، كما كان الحال في أوروبا. وقد عبّر عن هذا التصور المفكر التونسي والوزير السابق محمد الشرفي في كتابه “الإسلام و الحرية” الذي طرح فيه فكرة العلمانية المتصالحة مع الدين من خلال تعهد الدولة بالإشراف على المؤسسة الدينية وحمايتها من ضمن منظور ديمقراطي حر.
واذا استخدمنا مصطلحات عبد الوهاب المسيري المنتشرة هذه الأيام، أمكننا القول إن العلمانية الشاملة التي كانت تتخذ صبغة مناوئة للشرعية الإسلامية للدولة تراجعت حاليا وحلت محلها العلمانية الجزئية التي تدافع عن مثل المواطنة التعددية من دون قطيعة مع الدين، في الوقت الذي أصبحت التيارات الإسلامية المعتدلة على استعداد للانفتاح على هذه التصورات العلمانية الجزئية من منطلق الانتماءات الوطنية وأشكال النضالات المشتركة الجامعة، كما سنبين