صفحات العالم

إهانة العقل العربي في السودان

بقلم محمد مشموشي
لا يلام النظام الرسمي العربي اذا وقف، ربما تنفيذا للدعوة التي تقول “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما”، الى جانب الرئيس السوداني عمر البشير وهو يدافع عن نفسه بطريقة “دراماتيكية” في وجه المحكمة الجنائية الدولية. ولا يلام بعض هذا النظام، بشكل خاص، لأنه لم يقل كلمة واحدة عن “براءة” البشير من التهمة الموجهة اليه (جريمة الابادة الجماعية في دارفور) بل اكتفى بالدعوة الى تأجيل المحاكمة لفترة محدودة. سنة على الأكثر، يمكن أن تتم فيها تسوية هذه القضية التي شهدت، ولا تزال، مجزرة ابادة ضد شريحة واسعة من الشعب السوداني!
لكن اللوم – اذا لم يكن أكثر منه – يجب أن يوجه الى “النظام الثقافي العربي”، اذا جاز هذا التعبير، بسبب صمته شبه الكامل، نخبا ومفكرين ومثقفين وشعراء ورجال اعلام، ليس على الجريمة فقط باعتبارها واحدة من كم هائل من الجرائم ترتكب يوميا هنا وهناك في البلدان العربية، وانما أيضا وبشكل خاص على “الاهانة للعقل” العربي التي يلجأ اليها نظام البشير في محاولته الرد على المحكمة الدولية وقرار المدعي العام فيها لويس رومانو أوكامبو اصدار مذكرة بالقاء القبض عليه.
وقد يجد البعض “عذرا” للبشير، في محاولته اللعب على المشاعر الشعبية السودانية، القبلية منها والدينية، وحتى التلويح بالعصا والرقص على المنبر وبين الناس، الا أن الذهاب أبعد من ذلك كما جرى في مناسبتين مفتعلتين بالكامل (وبقية المناسبات حتما على الطريق) ليست مما يجوز المرور عليه مرور الكرام، لا عربيا ولا قبل ذلك سودانيا.
فجأة، ومن دون أية مقدمات أو سابق انذار، ظهرت على أرض السودان منظمة أطلق عليها اسم “نسور البشير”، على طريقة المنظمة المماثلة المسماة “فدائيو صدام”، التي ذاع صيتها في العراق وغير العراق في مرحلة ما بعد حربيه مع ايران وفي الكويت، للدفاع عنه وعن نظامه “بالروح والدم”… كما هو الهتاف في معظم مساحة العالم العربي!.
وفجأة كذلك، وبالتزامن مع قرار البشير طرد أكثر من مائة منظمة انسانية دولية تقدم الغذاء والكساء والدواء والمسكن لمئات الآلاف من المشردين في اقليم دارفور، قامت منظمة “نسور البشير” هذه بخطف ثلاثة من العاملين الاجانب في احدى هذه المنظمات.. لتقوم بعد ذلك بأيام فقط باطلاق سراحهم “كرمى لعيون البشير”، ثم باعادتهم الى بلدانهم من دون دفع أية فدية مالية للافراج عنهم، كما قال المتحدث بلسان الرئاسة السودانية في تصريح خص به الاعلام الأجنبي في الخرطوم!.
و”حجة” البشير لطرد المنظمات الدولية هذه بسيطة. فقد تحولت، مباشرة بعد قرار المدعي العام للمحكمة اصدار مذكرة الاعتقال، وفقط بعده، الى أوكار للجواسيس والعملاء والمخربين واللصوص، مما يقتضي منعها من العمل في السودان وطردها خارجه. وحتى سفراء الدول التي تنتسب اليها هذه المنظمات، فهم بدورهم مهددون بالطرد في ما لو سألوا… أو لم يتبرأوا من أعمال الاغاثة التي قامت بها في دارفور أو في غيره من الأقاليم السودانية التي كانت وما تزال تحتاج الى كل أنواع المساعدة، من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب.
المناسبة الثانية، كانت اصدار “فتوى” شرعية من “هيئة العلماء المسلمين” في السودان بمنع البشير – حفاظا على حياته ودوره في قيادة البلاد – من السفر الى الدوحة للمشاركة في القمة العربية فيها نهاية شهر آذار الحالي. وفي الواقع، فليس اصدار “الفتوى” هذه، بعد أيام فقط من مطالبة المحكمة الجنائية كلا من حكومة قطر ومنظمة الانتربول الدولية باعتقال البشير أو باعتراض طائرته في الجو، سوى تأكيد آخر، وعن سابق تصور وتصميم كذلك، للعملية اياها… “اهانة العقل” العربي.
أكثر من ذلك، وربما لمزيد من “الاهانة”، أعلن المتحدث السوداني تعليقا على هذه “الفتوى” أن قضية سفر، أو عدم سفر، البشير الى الدوحة وحضوره القمة باتت موضع بحث رسمي – وحتى ديني، باعتبارها اسلامية وشرعية – من قبل الرئيس وجهاز الرئاسة، لسبب بسيط هو أن ما على الرئيس أن يقوم به في القمة يمكن أن يقوم به غيره من معاونيه من المسؤولين والوزراء.

• • •
لا بد من القول، في هذا السياق، أن الدعوة الى عدم التزام الصمت (عمليا، التنديد بقوة) على ممارسات نظام عمر البشير في هذه الحالة، ليست موجهة ضد نظام السودان ولا ضد البشير شخصيا، على الحاجة الماسة لذلك، وانما للدفاع أولا وقبل كل شيء عن العقل العربي الذي يتعرض على أيدي أنظمته، ومنذ عشرات السنين، لما لا يحصى من الاهانات، ثم للقول علنا لهذه الأنظمة أن اللعبة كلها – سودانية هذه المرة، وعربية عامة في كل مرة – باتت مكشوفة تماما ولم تعد تنطلي على أحد.
ذلك أنه، في كل بقعة من الأرض العربية الواسعة، وحول كل قضية من قضاياها العديدة، لا يعدم العقل العربي – بالرغم من اهانته التي تكاد تصبح تاريخية – أن يجد نماذج “بشيرية” فاقعة، وحتى نسخا مكررة وطبق الأصل، لادراجها في الخانة اياها: “اهانة العقل” العربي بصورة دائمة ومتعمدة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى