مجلس إعلان دمشق: ليبرالية أم واقعية؟
انعقاد المجلس الوطني لائتلاف إعلان دمشق خطوة على الطريق الطويل للمعارضة للانتقال بسوريا من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي، اكدت قدرات المثقفين الديمقراطيين على تطوير ائتلافهم رغم استمرار إجراءات النظام القمعية، فقد جرى الانعقاد في موعد فاجئ السلطة، وهو السبب الذي جعل البعض يدعي بان السلطة بعد أنابولس غضت النظر عن انعقاد المجلس، كما ظن آخرون أنها انفتحت على المعارضة، فيما إن نظافة صفوف ناشطي المعارضة وإتقانهم العملية تجاوز السلطة فجاءت حملة اعتقالاتها بعد أن سبق السيف العذل.
أكد المجلس في بيانه الختامي على توجهاته الديمقراطية وعدم احتكاره العمل المعارض السلمي، وكان لافتاً الحضور النسائي وانتخاب إمراة لرئاسة المجلس، واعتماد الانتخاب الديمقراطي في صفوف الإعلان ورفض التوافق المبني على المحاصصة بين “الكبار!”.
ضم المجلس جميع التيارات السياسية، ولم يكتف كما في معارضة القرن الماضي بالاتجاهات العلمانية في جهة، والإسلامية في جهة أخرى، فقد ضم المجلس تياراً إسلامياً ديمقراطياً مستقلاً بالإضافة لتمثيل التيار الليبرالي من خلال مستقلين، بعد انهيار تحريمه وسقوط التهم التي كانت تلصق به من فرسان الجملة الثورية القومية واليسارية. وقد وصف المفكر برهان غليون ذلك “بولادة نخبة ليبرالية سورية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية على الصعيد الدولي”.
إن إطلاق صفة “ليبرالي” على جميع المثقفين المستقلين المخالفين لتوجهات القوميين واليساريين هي نتيجة للهواجس المرافقة للإصرار على رفض وقائع العصر والتمسك بنصوص الأيديولوجيا، وتجاهل لدور المثقفين في إطلاق “ربيع دمشق” بشتى فعالياته، وتضحياتهم إلى جانب الأحزاب المعارضة “التاريخية”. وقد رد شيخ المعارضين المخضرم رياض الترك على تشويه الحقائق بطريقته الواقعية: “هذا ليس توجهاً ليبرالياً، هذا موقف عقلاني”.
كان من الطبيعي لإجراءات المجلس أن لا تتم بإجماع الآراء وهي سمة لمؤسسة شمولية، فلا بد أن تبرز خلافات حولها. وكان لافتاً اعتراضات “حزب الاتحاد الاشتراكي” على انتخابات أمانة المجلس لعدم نجاح مرشحيه، ولكن ما لم يكن طبيعياً التفسيرات التي أعطيت من قبله، بأن هناك “عملية تعبئة لإقصاء القوميين بعد أن.. اخترقت الإعلان ظواهر غير مطمئنة”، من “تيار ليبيرالي ويساريون تحولوا إلى الليبرالية .. سيطروا على الائتلاف”، “لا يعترفون بالمؤامرات الخارجية .. لا يدينون السياسات الاميركية .. يعتمدون على الهجمة الاميركية لتحقيق التغيير..”.
وغير ذلك من التفسيرات التي تجافي الواقع، التي ادت وبسرعة لافتة لإعلان “الاتحاد” عن تجميد نشاطه في إعلان دمشق، وهي خطوة تصعيدية غير ضرورية، سبقت بدء حملة الاعتقالات ضد أعضاء المجلس، وتكاد تذكر بانشقاق الحزب الشيوعي -المكتب السياسي- عشية الاعتقالات في صفوفه أوائل الثمانينات عقب مؤتمره الذي أقر بدايات توجهه الديمقراطي المخالف للماركسية.
لا نقصد التلميح بما يمكن أن يتبادر للبعض حول المقاربة التاريخية، ولا نوافق على ما لمح له البعض من أن قياديي “الاتحاد” على علاقة بمسؤولين كبار في قمة النظام، ولكننا استغربنا الحجج التي اعطيت للخطوة المتسرعة، إذ لا يمكن لحزب “ديمقراطي” أن يعترض على انتخابات أدت لعدم نجاحه، وإلا ظننا أن الديمقراطية لديه مقبولة فقط عندما تكون نتائجها لصالحه. والتمثيل في “الائتلاف” لم يؤد لإقصاء القوميين، فباعتراف القيادي في “الاتحاد” هناك ممثلة له في الامانة العامة، وهناك قوميين آخرين من خارج “الاتحاد”، بالإضافة لرئيسة المجلس التي يعترف بأنها ذات اتجاه قومي وليبرالي، لم يقص نصفها الليبرالي نصفها القومي!!
وبعكس ما قيل فالبيان الختامي أكد أن التغيير الديمقراطي هو أيضاً “لتحصين البلاد من التدخل العسكري الخارجي وخطر العدوان الصهيوني المدعوم أميركياً” وأن “الاخطار الداخلية والخارجية تهدد البلاد أكثر من أي وقت مضى”، ورفض الاستقواء بالقوى الخارجية “لتجنيب البلاد المرور بما مرت به بلدان مجاورة”…
وإذا كان صحيحاً أن “ليبراليي” المجلس مع شعار “سوريا أولاً” كما قال قيادي من “الاتحاد” فالحقيقة أن المجلس لم يعترض على إيراد البيان أن “سوريا جزء من الوطن العربي ارتبط به في الماضي والحاضر وسيرتبط مستقبلاً..” كنص تتوافق حوله التيارات المؤتلفة على أن يحتفظ كل طرف بحقه خارج الإعلان للدعوة لسوريا أولاً أو لقومية سورية أو لقومية كردية أو لوحدة قومية عربية فورية أو اتحادية.. فلا يمكن “للاتحاد” أن يفرض رأيه الخاص “القومي العربي” على القوى المؤتلفة التي يجمعها الهدف الرئيسي: انتقال سوريا من الاستبداد للديمقراطية ولا يجمعها “إعادة الوحدة بين مصر وسوريا” أو غيرها…
“الاتحاد” يريد توافقاً حول ثوابته الخاصة، ليس فقط ضد الاستبداد، ولكن أيضاً لمقاومة المشروع الاميركي-الصهيوني ولدعم حركات المقاومة على جميع الجبهات: العراق ولبنان وفلسطين والصومال وافغانستان..وحماية لبنان من التدخلات الخارجية بتشكيل حكومة “يرضى عنها جميع اللبنانيين”، أي مشروع حزب الله لإنهاء سلطة الاكثرية المنتخبة بفيتو الثلث الضامن .. واعتبار لقاء أنابوليس تطبيع وتنازلات مجانية وهرولة.. مما يشير بأصبع الاتهام للرئيس عباس كما تفعل قيادة حماس في غزة..
هل هذا معقول؟ هل يمكن أن يقوم ائتلاف حول برنامج “الاتحاد”؟ فإذا لم يحصل ذلك ينسحب؟ الائتلاف الذي يجمع غالبية التيارات هو فقط للتغيير الديمقراطي، أما الثوابت الاخرى “للاتحاد” فيمكن الائتلاف حولها في المؤتمر القومي العربي أو ربما الجبهة الوطنية التقدمية. “الاتحاد” حسب قناعتنا متمسك بالعمل لنظام ديمقراطي، وهي مهمة صعبة وطويلة تحتاج لجهود الجميع ولا يمكن تأجيلها أو إعطاء الأولوية لأهداف أخرى غيرها، ولا يمكن جمعها مع مهمات اخرى كفتح جبهات مقاومة ودحر المؤامرات، أو توحيد البلدان العربية، وغير ذلك من “ثوابت الامة”…
“الاتحاد” ليس مضطراً للتخلي عن “ثوابته” إذا شاء ذلك، لكنه من المفضل أن يتخلى عن محاولة فرضها على ائتلاف المعارضة السورية، إذ لا يمكنه التعامل مع الائتلاف كما يتعامل مع “التجمع” القومي اليساري الثوري، فالائتلاف المعارض الواسع لا يمكن أن يكون نسخة أخرى عن “التجمع”، و”الاتحاد” يكفيه دوره القيادي في “التجمع” وليس بحاجة لقيادة تجمعان “ثوريان”.
هذا أقل ما يمكن توقعه من “الاتحاد” بعد أن افتقد مؤسسه البارز الدكتور جمال الاتاسي، الذي لا نعتقد أنه كان سيقبل بالسياسات الحالية لقيادة “الاتحاد”، والذي لعب دوراً أساسياً في تبني “الاتحاد” للديمقراطية رغم تعارضها مع النهج الناصري، أي نظام الحزب الواحد و”الديمقراطية الشعبية؟”، التي ورثها البعثيون بعد تخليهم عن ديمقراطيتهم لسنوات الخمسينات.
ويخشى إذا استمر تجاهل الوقائع المعاصرة والتمسك بالأيديولوجيات القديمة أن تؤجل الناصرية السورية الديمقراطية، من أجل التهويل بالأخطار الخارجية، وهو ما قد تنزلق إليه قيادة “الاتحاد” في رفضها المبطن لنتائج انتخابات المجلس، ونأمل ألا يتخذ اجتماعها القادم قراراً بالخروج من الائتلاف، فدور “الاتحاد” داخله أهم من “الجبهات” المتخيلة لدعم “المقاومات”..
أية مراجعة يحتاجها “الاتحاد” في مفترق الطرق الراهن؟ العودة “لقواعده” لأيام الستينات، أم أخذ الاوضاع الراهنة للقرن الواحد والعشرين بعين الاعتبار؟ هذا هو السؤال الأهم المطروح وليس: هل نبقى أم نخرج من الائتلاف؟
إن اهتمامنا بمناقشة مواقف “الاتحاد” تنبع من تقديرنا لأهمية دوره، من غير أن نهمل مواقف أخرى مثل تصريحات حزب العمل الشيوعي عن تعارض “تكتيكي” مع الائتلاف “التحريفي” الذي “لم تترك الليبرالية لنا مكاناً داخله”…أو مواقف أخرى أقل أهمية مثل دعوة الكاتب سيد رصاص لانشقاق قوى الإعلان الذي انحرف عن “الخط الوطني القومي للمعارضة بجناحيها الماركسي والقومي” و”اقترب من أبو مازن و14 آذار..”!!. أو كما رأى البعض خروج الإعلان عن خط التغيير إلى الإصلاح تحت سقف النظام.. حسب زعمهم..
وهي مواضيع يمكن مناقشتها لاحقاً لكي لا نثقل على القارئ.. على أن يسمح لنا باضافة بضعة ملاحظات حول البيان الختامي من موقع التأييد للإعلان الذي لا يحتاج للمزيد من المديح ولكن للنقد، فانعقاد المجلس خطوة للأمام لكنها لا يجب أن تدير الرؤوس لتنسى أن معيار النجاح امتلاك القدرة مستقبلاً على تحريك تعاطف شعبي وتأييد معنوي ومشاركة متصاعدة لقطاعات من الناس المهمشين، آخذين بالاعتبار الظروف الراهنة حيث يسود القمع، ومقدرين لجهود خيرة المثقفين السوريين الملتفين حول الإعلان إذ بين أيديهم مستقبل البلاد. كما أنه كان من المفضل لو أن البيان أشار للمعارضين السوريين في الخارج تقديراً لدورهم في الظروف الراهنة.
– كانون أول 2007