الكلام السّهل
حازم صاغيّة
يقال «موسيقى سهلة» تدليلاً على أنغام وإيقاعات تقيم في ذاكرة جمعيّة ما، بحيث تسرع الآذان في تلقّفها تبعاً لاعتياد عليها مسبق. لهذا تكون ردّة الفعل على الموسيقى الجديدة، غير المألوفة وغير الصادرة عن ذاكرة معطاة، إلى الرفض والنفور أقرب. لا يغيّر في ذلك، إن لم يزِدْه، تعقيد هذه الموسيقى «الصعبة» ورهافتها أو حذلقتها.
ولنا، من هذا القبيل، أن نتحدّث عن كلام سهل لا يُعدم تطبيقاته اللبنانيّة (والعربيّة) الكثيرة، كلامٍ سريعاً ما تلوكه «الجماهير» لأنه أصلاً كلامها وقد رُدّ إليها على شيء من التصنيع الآيديولوجيّ.
وهذا لئن اندرج في الشعبويّة الغرّاء، وهي فعلاً غرّاء، وجد تعبيره اللبنانيّ في إدانة الفاسدين والمجرمين والقتلة، وصولاً الى التذكير بمَقاتل الحرب الأهليّة، وربّما بمقابرها الجماعيّة. فحين لا يوفّق صاحب الكلام السهل في العثور على مقبرة جماعيّة، يفتعل واحدة أو يخترعها، على ما حصل قبل أيّام.
ولا تنبع السهولة من الميل التلقائيّ والطبيعيّ عند البشر لرفض الجريمة والفساد فحسب، ولا من الاستعانة بالقانون على ذلك أيضاً. والقانون، حكماً، للجريمة والفساد بالمرصاد. بيد أن القانون، بالتعريف، جيء به من تجارب انتصر فيها العقل والتجريد على نحو يوازي انتصار وحدة الشعب والأمّة ويكمّله. فحين نبشّر بالقانون في مجتمع على شفير حرب أهليّة، القتَلة فيه والفاسدون يمثّلون فئات اجتماعيّة عريضة، هي طوائف أو عشائر أو مناطق، نكون نقع في سهولة المعادلات المدرسيّة. وهذا ناهيك عن أننا، بهذا، نهرب من مشكلة أعقد بكثير تطاول تكوين مجتمعنا وثقافتنا ومسؤوليّتهما، بدل الاقتصار على عدد من الأفراد الذين يجرّمهم القانون.
بلغة أخرى، ما ارتكبه «أمراء الحرب»، منذ 1975 حتى حروب «الالغاء» و «التحرير» أو مواجهات «حزب الله» و «أمل» في إقليم التفّاح وغيره، لا يقول إن قادتنا الحاليّين مجرمون، وهم قد يكونون ذلك، بقدر ما يقول إن مجتمعنا سيّئ وثقافتنا مريضة. وهو ما يستلزم، على المدى الأبعد، انكباب الوعي النقديّ على ذينك المجتمع والثقافة. أما على المدى المباشر فلا مهرب من تسوية بين هؤلاء «المجرمين» تؤدّي الى استبعاد العنف خارج جهاز الدولة، كما تؤسّس لمباشرة حياة مدنيّة يؤمل أن لا تتكرّر فيها سابقاتها الدمويّة. فإن رُفض مبدأ المساومة بين هؤلاء، وهم حجارة البيت، فمن الذي يساوم، ومع من؟
افتراض كهذا هو ما يفسّر العفو الذي حمله اتّفاق الطائف، فلا يعود بعده للتأسيس من صفر، أو للاندهاش المصنوع والموظّف، كلّما تناهى إلينا خبر مقتلة… حتّى لو كانت فعليّة.
يزيد بؤس الوضع الموصوف أن يترافق الكلام السهل الموجّه ضدّ طرف ما مع تواطؤ حيال طرف آخر لا يقلّ تورّطاً، أو صدور الكلام السهل عن بيئات سكتت، وتسكت، عن أنظمة لم تُعرف باحترام الإنسان لا في حياته ولا في حريّاته ولا في رفاهه.
إلا أن الخبث غالباً ما يختبئ خلف السهولة: فبموجب منطق كهذا يغدو الحلّ تتفيه السياسة كلّها وتتفيه البلد من ثمّ وتعقيمه بالمقاومة (التي وحدها لا ترتكب!). لكنْ إذا صدّقنا أنها لا تفعل (وهي، مثل الآخرين، تفعل)، نكون نعد النفس بمقبرة جماعيّة للوطن بأسره.
الحياة – 19/04/08