طغيان الأقليات، الشرق الأوسط نموذجاً
لاحظَت مجلّة “ماريان” اليسارية الأسبوعية الفرنسية في عددها المؤرخ 511 نيسان 2008، أنّ أوجه الحياة والسياسة والاقتصاد والدين لا ترضخ لمبدأ ديمقراطي ثابت، وهو حقّ الأكثرية في تولّي تدبير شؤون الناس. وهذا مبدأ لا صلة له بما كان يُشاع عن طغيان الأكثريّة، وحرص الديمقراطيات على سن القوانين لاتقائه.
ملف أفردته “ماريان” لكي تخلص إلى أن الحد من طغيان الأكثرية ممكن في النظم الديمقراطية، غير أنّ طغيان الأقليّات المستقوية بالديمقراطية قد لا يقف عند حدودٍ بعينها. وقد اتخذت أمثلة على هذا الطغيان قد لا تخطر في بال أحد، منها: الأثرياء، قبضايات الحواري، الخبراء الاقتصاديون، آيات الله، المتشددون من الأديان كافّة… وأغفلت إعلاميي الساعة الأخيرة، وصحفهم ومحطات تلفزتهم الإباحية لا في الجنس بل في السياسة.
فلا يخفى على أحد أن للأقلية على الدوام قضايا تشرع الدفاع عنها (في مواجهة الأكثرية) مهما كانت السبل والوسائل، حتّى لو كانت مناقضة للديمقراطية، ودائماً وطبعاً، باسم الديمقراطية.
وإذا أشكل الأمر على بعض القراء، من بلادنا، فليصغِ بإمعان، إلى خطب (مع حفظ الألقاب) محمد رعد أو نعيم قاسم أو ميشال عون أو ناصر قنديل أو وئام وهاب أو زاهر الخطيب أو سواهم من المكانة نفسها. وليفهم جيداً ما تقول الديمقراطية. ديمقراطية الأقلية التي ترى نفسها على الدوام، أكبر من الأكثرية. لماذا؟ لسبب بسيط وهي أنها دائماً ترى أنها على حق. أي حق؟ لا أحد يدري.
مارتين غوزلان كتبت في ” ماريان” تحت عنوان “هذه الأقليات التي أضرمت النار”، ما يلي:
“لقد جَلَبَت الأقليات المنتصرة الشقاءَ للشرق الأوسط. وهذه حقيقة ليست وليدة البارحة! فصدّام (حسين) لم يبتكر طغيان عشيرته السنية على الشيعة. وكذلك الأمر لم يبتكر حافظ الأسد طغيان شيعته الشيعية العلوية على سنّة سوريا. فالحقيقة أن الأمور أعدّ لها قبل استقلال البلدين. لقد بدأ انتشار هذا السمّ منذ فوضى انهيار الإمبراطورية العثمانية. إذ كانت القوى الأوروبية تهرع وراء أطماعها في نزاعها على السيطرة على الشرقِ المغوي. تنافس جواسيس من الصف الأول على جس نبض موازين القوى الديموغرافية والقبلية على الأرض. من ناحية البريطانيين سوف يكتب لامرأة أن تقرر مصير ما سيصبح العراق فيما بعد. إذ تبرق جرترود بيل الحسناء، ماتا هاري العراق المعينة من قبل وزارة الخارجية، ذات يوم من سنة 1919، إلى أرباب عملها في لندن، تقريراً على قدر كبير من الأهمية. تقول فيه: لا أشكّ لحظة واحدة في أنّ السلطة ينبغي أن تعود مجدداً إلى السنة برغم قلتهم عددياً وإلاّ أصبح لديكم دولة تيوقراطية شيعية بالغة الخطورة…”سنة 1923 أصبح العراق مملكة تحت الانتداب البريطاني: ويتلقّى الملك فيصل من حماته البريطانيين الأمر بـ “بتنظيف المدن المقدّسة الشيعية“.
المؤرّخ بيار جان لويزار يلخص ما جرى بالعبارات التالية: “لقد كانت الدولة الناشئة، الحديثة المظهر، وذات المؤسسات المستلهمة من التجارب الأوروبية، تخفي منذ نشأتها غلبة طائفية وإتنية فعلية“
الظاهرة نفسها نجدها في سوريا. وهنا لا يخلو الأمر من مسؤولية فرنسية مؤكّدة. فعندما دخل الجنرال غورو دمشق عام 1920 (استجابة لضغوط لوبي تجّار الحرير في ليون) يُثير حفيظة السنة بخطوته التي تنمّ عن ازدراء والمتمثلة بالذهاب إلى ضريح صلاح الدين وقوله هناك: “ها نحن ذا مجدداً! لقد انتصر الصليب على الهلال!” غير أن الأقليات، المسيحية والعلوية على نحو خاص، ترتمي في أحضان الأسياد الجدد. فما كان من فرنسا إلاّ أن اختارت ضباطها وعمالها الإداريين من صفوف العلويين ـ وهم يمثلون 13 في المئة من مجمل السوريين ـ سكان الجبال المحرومين المتعطّشين إلى الحصول على مكان تحت الشمس.
عند نيل سوريا الاستقلال كانت الطريق ممهّدة سلفاً. إذ لبث السنّة، الذين يمثلون الأغلبية، مستبعدين عن دائرة القرار في دمشق، شأنهم في ذلك شأن الشيعة، الذين يمثلون الأغلبية في العراق، والذين استبعدوا عن مراكز القرار في بغداد.
في بلاد ما بين النهرين فتح الغزو الأميركي عام 2003 علبة باندورا الحرمانات المتفجّرة. وغداً في سوريا من شأن التمرد الإسلامي السني وهو الوحيد الممتلك لشرعيّة ما أن يُسقط آخر العلويين.