الحق في القتل: في الديموقراطية
وسام سعادة
في الديموقراطية أيضاً، ثمّة آليات للوقاية والرّدع والقمع والمنع والإقصاء.
يعتبر البعض أن ورود هذه الآليات في ديموقراطية ما، إنما يظهر هشاشتها أو قصورها أو نقصانها.
يعتبر البعض الآخر أن ورود هذه الآليات إنما يدلّ على استحالة الديموقراطية بحدّ ذاتها.
ويحتار عندها أصدق المدافعين عن الفكرة الديموقراطية ممّن تعوزهم الحجّة، فيسلّمون بأنّ الديموقراطية هي نظام تقلّ فيه آليات الوقاية والرّدع والقمع والمنع والإقصاء بما لا يقاس، إذا ما قورنت بالأنظمة السياسية الممكنة الأخرى.
بيد أنّ الديموقراطية لا يمكن أن تثبت فقط جدارتها لا من كون مثالها المنشود أفضل من واقعها المحقّق بالفعل، ولا من كونها أفضل مما سبقها ومما يحيط بها من أنظمة.
الديموقراطية الحديثة ومن حيث هي ديموقراطية تمثيلية، لا تعيش «أزمة الهوة» بينها وبين ديموقراطية خالصة خيالية. من الضرورة أن تعمل كل ديموقراطية حديثة على الارتقاء ببنيانها، لكن هذا الارتقاء لا يبحث عن جنّة دنيوية خالية تماماً من كل قمع ومنع.
فالتمثيل، من حيث هو التلخيص العملي للحداثة السياسية، إنما يعني الجمع بين مثالين لم يتخيّل أحد من فلاسفة الإغريق امكان الجمع بينهما. «القرعة»، أو إمكان اختيار أي محكوم لشغل أيّ منصب كان، وهو المثال الذي عرف به خيار «الديموقراطية» في اليونان القديمة، و«الانتخاب» من حيث هو دلالة أريستوقراطية صرف، يفترض بموجبها أن يبادر الأنبل ولادة لأن يختاروا من يعتبرونه الأكثر تدبّراً في ما بينهم.
طالما أن المعمل التمثيلي قادر في ديموقراطية ما على التأليف بين ما للقرعة (امكانية أن يتحول كل محكوم الى حاكم) وما للانتخاب (استحسان أن يجري اختيار الأفضل) بأشكال يمكن أن تعيد انتاج نفسها، وأن تحسّن نفسها، على صعيدي التعاقد والخبرة، فإنّ هذه الديموقراطية تعيش حداً معقولاً من الحياة السياسية السليمة. لا يقتضي ذلك اذاً، أن تستغنى عن آليات للوقاية والرّدع والقمع والمنع والإقصاء، لا نظرياً ولا عملياً، وقد يكون من الممكن عملياً التدليل على أن القمع في ظل الديموقراطية هو أقلّ بكثير من القمع في ظل غيرها من النظم، لكن هذا المعيار الكمّي ليس بمقياس. المهم أن تكون آليات الوقاية والرّدع والقمع والمنع والإقصاء تخضع لموجبات التأليف واستمرار التأليف بين دعامتي الديموقراطية التمثيلية المشار اليهما: القرعة والانتخاب.
ليس معنى ذلك أنه على الديموقراطية أن تقمع وتمنع كل المحتجين جزئياً أو كلياً عليها، كنموذج، أو على ما هو محصّل منها في تجربة بعينها. إنّما على العملية الديموقراطية، كما على الثقافة الديموقراطية، واجب تأمين احتكار الدولة ليس فقط لمنظومة العنف الشرعي، كما ذهب ماكس فيبر، وليس فقط لحال الاستثناء، كما ذهب كارل شميت، وانما احتكار الدولة قبل كل شيء، للحقّ في القتل. الديموقراطية الحديثة هي التي تحصر دستورياً وقانونياً الحقّ في القتل في نطاق الدولة وحدها، من حيث هي دولة لها شخصية عامة متعالية، ولها سلطة تشريع وسلطة تنفيذ، مع استقلال الواحدة عن الأخرى. هذا هو الاختلاف بين الديموقراطية وبين الديكتاتورية. في الأخيرة الحق في القتل لا يمكن أن يحصر في الدولة من حيث هي دولة، وإنمــا هـو إما من نصيب سلطة التنفيذ، ان كانت هي من يمارس الديكتاتورية، وإما من نصــيب سلطة التشريع، ان كانت ديكتــاتورية مجلسـية، وإما من نصيــب سلطــة القضــاء، ان كانت ديكتاتورية قضــاة. كذلك فهذا هو الاختلاف بين الديموقراطية والفاشية. الديموقراطية تحصر حق القتل في الدولة وحدها من حيث هي دولة. الفاشية تحصر الحق في الدولة، لا من حيث هي دولة، انما من حيث هي «المجتمع»، أو «المجتمع الفعّال». وهذا وجه الاختلاف أيضاً عن الشيوعية، من حيث هي تحصر الحق في القتل في الدولة لا من حيث هي دولة، وانما من حيث هي أداة لطبقة اجتماعية بعينها.
فالديموقراطية شيء والتسامح شيء آخر. التسامح بموجب الديموقراطية يختلف عن التسامح بموجب غيرها من الأنظمة، وكذلك القمع والمنع والاقصاء. لأجل ذلك، فإنّ أي مساهمة لإيضاح أن الحق في القتل لا يملكه، في الديموقراطية، لا الأفراد ولا الجماعات ولا الطبقات ولا أجهزة بعينها ولا سلطات بعينها، وانما الدولة من حيث هي دولة، يكون مساهمة ليس يمكن، ديموقراطياً، أن تعاب على ديموقراطيتها.
الديموقراطية ليست نعتاً نغدقه كيفما كان، ونحجبه لمجرّد انطباع أو وهم.
السفير