صفحات سورية

الاستبعـاد الاجتمـاعـي بوصفــه حرمـانـاً مستمــراً

null


ماجد الشيخ

يؤكد «الاستبعاد الاجتماعي»(1) ان الاستقطاب الذي احدثته عولمة الاقتصاد على المستوى الطبقي، ادى عمليا الى اضعاف الطبقة الوسطى (أو حتى تدميرها احيانا) وخلّفت مجتمعات تعاني الاستقطاب الحاد بين طبقة عليا كثيرة القوة والنفوذ ولكنها قليلة العدد، وطبقة ادنى (هي غالبية الناس) كثيرة العدد، لكنها قليلة الحول والمال.

ولئن كان «الاستبعاد الاجتماعي» كمصطلح محل خلاف، الا انه بالإمكان تقصّي اثره بالرجوع الى (ماكس فيبر) الذي عرّف الاستبعاد بوصفه احد اشكال الانغلاق الاجتماعي، وهو الذي كان يرى ان «الانغلاق الاستبعادي» انما هو بمنزلة المحاولة التي تقوم بها جماعة لتؤمن لنفسها مركزا متميزا على حساب جماعة اخرى من خلال عملية اخضاعها. في حين يعود الاستعمال الحديث لمصطلح «الاستبعاد الاجتماعي» ونشوئه الى فرنسا، حيث جرت العادة على استعماله في الاشارة اساسا، الى الافراد الذين تخطّاهم النظام البسماركي للضمان الاجتماعي؛ وكان المستبعدون اجتماعيا هم هؤلاء الذين استبعدتهم الدولة بصورة رسمية.

اما في المملكة المتحدة، فقد بدأ استعمال المصطلح داخل مناخ سياسي لم يكن يعترف فيه السياسيون من حزب المحافظين بوجود الفقر، الا انه في تسعينيات القرن العشرين شاع استعمال هذا المصطلح على مستوى القارة الاوروبية، ما ادى عمليا الى ان يسهم اتساع نطاق الاستبعاد الاجتماعي في جعل الرؤى المتصلة بأسبابه الرئيسية تختلف اختلافا ملحوظا. وبرزت في هذا المجال ثلاث مدارس فكرية: (1) المدرسة التي تضع سلوك الافراد والقيم الخلقية في المقام الاول (كما هي الحال في قضية «الطبقة الدنيا»). (2) المدرسة التي تؤكد على اهمية دور المؤسسات والنظم ابتداء من دولة الرعاية الى الرأسمالية والعولمة. (3) المدرسة التي تؤكد على اهمية التمييز ونقص الحقوق المنفّذة فعلا.

فيما يميل الاميركيون الى استعمال مصطلحات اخرى غير مصطلح الاستبعاد الاجتماعي، ومنها مصطلح «التجويت» (اي الانعزال في احياء مغلقة او شبه مغلقة: الغيتو) و«التهميش» و«الطبقة الدنيا» على انها تتألف من اجيال عديدة من البشر الذين ينتمون الى اقليات اثنية، ويعيشون في احياء مقصورة عليهم، يتلقّون فيها خدمات الرعاية الاجتماعية، وقد حيل بينهم وبين الاتصال بأغلبية المجتمع، كما انهم يمثلون خطرا على هذا المجتمع.

وهذا الكتاب ينتمي الى مدرسة فكرية عملاقة ـ ازدهرت في بريطانيا المعاصرة، ورادها عالم الاجتماع الشهير «أنتوني غيدنز» ـ هدفها تجديد الديموقراطية الاجتماعية، ومعقلها الرئيسي مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم الاجتماعية، وهي مدرسة لا توافق على ان يسير علم الاجتماع في اثر نموذج العلوم الطبيعية. املا في اكتشاف قوانين عامة للسلوك الاجتماعي، لأن ذلك يعزل علم الاجتماع عن التاريخ، والتاريخ هو المعمل الحقيقي للمشتغل بدراسة المجتمع.

لهذا جهرت هذه المدرسة بنظرتها الى علم الاجتماع بوصفه نشاطا نقديّا، وهذا النقد لا يقوم على التأمل، او الشطح الفكري، او التوجهات الطوباوية (الخيالية او المثالية) ايا كان مصدر الهامها، بل يقوم على الرصد العلمي للواقع والتحليل العلمي الناقد.

من هنا عمد غيدنز مبكرا الى لفت الانتباه الى قضية الاستبعاد الاجتماعي، حين اشار الى وجود شكلين للاستبعاد في المجتمعات المعاصرة، بلغا درجة فائقة من الوضوح والتبلور، الاول هو استبعاد اولئك القابعين في القاع، والمعزولين عن التيّار الرئيسي للفرص التي يتيحها المجتمع. اما الشكل الثاني ـ عند القمة ـ فهو الاستبعاد الارادي، او هو ما اسماه غيدنز «ثورة جماعات الصفوة» حيث تنسحب الجماعات الثرية من النظم العامة، وأحيانا من القسط الاكبر من ممارسات الحياة اليومية، اذ يختار اعضاؤها ان يعيشوا بمعزل عن بقية المجتمع. وبدأت الجماعات المحظوظة تعيش داخل مجتمعات محاطة بالأسوار، وتنسحب من نظم التعليم العام والصحة العامة.. الخ، الخاصة بالمجتمع الكبير.

وعلى عكس ما نعايشه في مجتمعات بلادنا، يلاحظ د. الجوهري ان الغرب لم يتقدّم بسبب هذا فقط ـ على الرغم من اهميته ـ وإنما تقدّم لأن علماءه ومفكريه وساسته ما فتئوا يتابعون مجتمعهم بأساليب العلــم الدقيقـة الموضوعية، ويرصدون صحته وعلله، لا تأخذهم العزّة بالإثم ولا يركبهم غرور التقدم، ولا يستصغرون مشكلة مهما كانت، فمعظم النار من مستصغر الشرر.

وجهد اولئك العلماء ليس جهدا تطوعيّا او عملا خيريّا ـ يؤخذ او يترك ـ لكنه جهد منظّم ومؤسّس ومتناسق كل التناسق مع صانعي السياسة الاجتماعية والقائمين على الحكم، نعم.. فوليّ الامر في المجتمع يؤمن بالمعرفة العلميّة، ويجل اصحابها، ويفسح لهم الى جواره حيث يلقون عليه مشورتهم التي هي ديْن العلم وحق المواطنة عليهم.

وإذ يتعارض الاستبعاد الاجتماعي مع مبدأ الفرص المتكافئة، فلا شك في ان الفقر يعدّ في حد ذاته حاجزا يحول دون تكافؤ الفرص التعليميّة والصحيّة، وحتى على الصعيد السياسي، فهل يمكن والحال هذه الوصول الى مبادئ لعدالة اجتماعية ممكنة في مجتمعات دول العالم الثالـث مثلا؛ وهي التي يبلغ الاستبعاد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مستويات عليا مقارنة بمجتمعات دول اخرى متطورة؟

في هذا الصدد، يقول بريان باري: ان من الواضح ان اي مجتمع معاصر لم يصل الى درجة قريبة جدا من اعمال مبدأ العدالة بوصفها الفرصة المتكافئة اعمالا تاما. وفي الوقت نفسه، يمكن القول انه على الرغم من وجود بعض مظاهر الاختلاف بين المجتمعات المعاصرة، فإن جميع الديموقراطيات الليبرالية المعاصرة تعمل مبدأ العدالة بصورة جيدة بالقياس للمعايير التاريخية والمعاصرة، ولا يمكن ان يكون هذا بالأمر العارض، لأن تاريخ العالم لم يشهد الا قلة ضئيلة من المجتمعات التي اعترفت بتكافؤ الفرص بوصفه مطمحا يتطلع له الناس. وما دامت فكرة العدالة بوصفها الفرصة المتكافئة تعد محكا للسياسة العامة، فإن امامنا احتمالا ما، على الاقل، لأن يكون لإعلان الاخفاق في تحقيق هذه الفكرة في مجال معين تأثير سياسي طويل الامد.

([) كاتب فلسطيني

1 الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم، تحرير جون هيلز، جوليان لوغران، دافيد بياشو، ترجمة وتقديم: ا. د. محمد الجوهري، اصدار عالم المعرفة: الكويت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى