‘اصلاح راديكالي: الاخلاق الاسلامية والتحرير’ لطارق رمضان: دعوة لاعادة النظر في مفاهيم أصول الفقه ومغادرة التكيف
ابراهيم درويش
اتذكر ان المرحوم الدكتور زكي بدوي، العالم المشهور علق مرة على الثقافة الاسلامية في اوروبا بانها تفتقد الحراك والحيوية والباحثين المتميزين في فروع العلم الديني التي تجعلهم اي المسلمين قادرين على فهم العالم والتصدي لمشاكله وافكاره الجديدة. كان الشيخ بدوي ازهريا في تكوينه وكان مثيرا في مواقفه وفتاويه للجدل من طوائف من المسلمين في بريطانيا وليس المجال هنا للدفاع او تحليل افكاره لكن الناظر الى العلم الاسلامي في اوروبا يجده موزعا بين علماء وأئمة مستوردين من الخارج، وفي العادة يفتقرون الى ادق تفاصيل العلم الديني والمعرفة بالعالم علاوة على اللغة التي تجعلهم قادرين على التواصل مع ابناء مجتمعهم ورواد مساجدهم. وهناك طائفة الخبراء بالاسلام والصحافيين والباحثين الاجتماعيين والانثروبولوجيين من الغربيين الذين لديهم وسائلهم واهدافهم من معرفة الاسلام ودراسته اما في الاكاديميات الغربية التي مضى على بعضها قرون وهي ترصد حركة الاسلام وتدرسه. ومنهم الصحافيون الذي يغطون الاسلام وقضاياه بناء على اجندة السياسة ومواقف السياسيين واهتمامات قضايا الساعة. وفي الساحة حركات ومثقفون اسلاميون يتسابقون في عرض افكارهم وتأكيد وجودهم على حساب الاخرين وبعضهم من اتباع الحركات الاسلامية الاحيائية الداعية لتغيير المجتمع واسلمته ولكنهم يعملون داخل مجتمعات قطعت مراحل الحداثة وما بعدها والعلمنة وما الى ذلك ولهذا يحاولون او كما يفهمون اسلمة الحداثة لا تحديث الدين ذلك ان محاولة اصلاح الدين مر عليها اكثر من قرن واثمرت ثمارها الكثيرة في فتح العقل الاسلامي الحديث. والعالم الاسلامي لا يزال تحت غبار المعارك التي خاضها الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا واتباعهم من الاجيال اللاحقة التي حملت الافكار وثورتها او حاولت عقلنتها. ومن هنا اضحت كلمات مثل الاصلاح والتحديث والنهضة والاحياء جزءا من القاموس الاسلامي الحديث. وادى الباحثون في القرن الماضي الكثير من الخدمات لخدمة العقل الاسلامي على اختلاف تنوعاتهم ومواقفهم الفكرية، اي بعيدا عن الفرز والقولبة المرتبطة بهذا التيار او ذاك. ما قيل ما هو الا محاولة فرش من اجل الاطلاع سريعا على مجمل الافكار التي يقدمها لنا الباحث والمفكر الاسلامي المعروف (في الغرب) طارق رمضان. ولمن لا يعرف الباحث فهو نجل الداعية المعروف سعيد رمضان، مؤسس المركز الاسلامي في جنيف وناشر مجلة ‘المسلمون’ الفكرية قبل اربعة عقود بعد ان اضطر للهرب من اضطهاد ناصر للاخوان المسلمين. ولا بد من الاشارة الى ما ذكره الروائي العربي عبدالرحمن منيف عن خطب رمضان، فقد كان خطيبا مفوها وناريا، في مدينة عمان فقد كان يمسك بزمام الحاضرين لساعات عندما كانوا يستأجرون قاعة سينما للمناسبة كما جاء في كتابه المعروف عن مدينة عمان، عاصمة الاردن. وطارق هو حفيد الامام الشهيد حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين، عام 1928. وكاتبنا معروف في اوساط الشباب المسلم في بريطانيا ويقدم برنامجا على قناة ‘برس تي في’ الجديدة التي تبث من لندن، ولكن اهم ما يعبر عن اهتمامات رمضان صدوره عن فكرة ‘الاسلام الاوروبي’ حيث يربط بين مشاكل المجتمعات المسلمة وبين ما يصدر اليها من افكار ورزم من مجتمعاتها الاصلية. وقد كتب عددا من الكتب اهمها ‘ان تكون مسلما اوروبيا’ وآخر ‘المسلمون في الغرب ومستقبل الاسلام’ وكباحث في فلسفة الاديان يهتم رمضان ببناء النظريات ولا تهمه احيانا مظاهر الازمة واشكالها بقدر ما يهمه البحث في اصولها وابعادها النظرية. ومن هنا يحاول تقديم رؤى حول ما يهم المسلمين في الغرب باعتبارهم وحدة مستقلة عن المسلمين في العالم لهم ما يميزهم. وتهمهم قضايا المواطنة والولاء وفي كتابه ‘المسلمون الغربيون’ دعا الى استقلالية فكرية عن المسلمين في العالم العربي وشبه القارة الهندية، في دعوة لتشكيل رؤيتهم الخاصة ذات العلاقة مع الواقع المعاش. والاستقلالية التي عناها ترتبط بالتوقف عن حالة ‘التبعية’ التي تجعل من مؤسسات المسلمين مرآة لمؤسسات اخرى في مواطنهم الاصلية.
الثابت والمتغير
في كتابه الجديد الصادر عن دار نشر جامعة اوكسفورد يوسع رمضان اهتماماته بفكرة الاصلاح في الاسلام دون ان يحدد جغرافيا او مجتمعا خاصا يحدوه في هذا ما قدمه المفكر الاسلامي والشاعر محمد اقبال عن ثنائية السكون والتحول في الاسلام اي الثابت والمتحرك. ففي الثبوت وهي امور الاعتقاد لا مجال للحديث عن اجتهاد.اما المتحرك فمحله الاجتهاد الذي هو آلته التي اعطت الاسلام حضوره الزمني والمكاني، اي قدمت له الوسيلة لمواجهة الواقع والرد على التحديات الزمنية والتاريخية. كتابه الجديد يحمل عنوان ‘اصلاح راديكالي’ وفيه يقدم منظورا جديدا لماهية الاصلاح المنشود في مجال الفكر الاسلامي وهو ان لم يرفض فكرة الاصلاح واخواتها من التجديد والنهضة الا انه يدعو الى اعادة النظر فيما يراه مؤهلات المجتهد المعاصر وقراءة فاحصة لتنزيلات النص على الواقع. اي اعادة تعريف مفهومنا عن ‘الفقيه’ الذي ارتبط تاريخيا بقارئ النصوص حسب معايير معينة اسس لها الفقه الاسلامي. ويفهم من كلام رمضان ان هناك فهما زمنيا للنص وتاريخيا. ومن هنا يحيلنا الكاتب الى فكرة مهمة لها علاقة بآليات فهم النص وتفسيره وخطأ فهمنا، اي ان ما يراه محللون ان النزعة الحرفية والظاهراتية الدوغمائية هي فرع عن النص ذاته مما يجعله مفتوحا للفهم التاريخي واصله البشري. ويرى رمضان ان الفهم يعني ان النص يحدد طريقة النظر التي يتعامل فيها القارئ معه اضافة الى الادوات التي يفرضها عليه. وهذا الفهم يعني قصورا من جانبين يرى انهما يؤثران على فهمنا للنص الاسلامي وينبعان من الفهم الدوغمائي الواضح في الطريقة التي يتعامل فيها القراء مع نصوص بشرية اخرى والفهم الكاثوليكي للنص الديني. هذا النظر ان اعمل في مجال النص الديني الاسلامي لن يعطي التراث الفقهي والتفسيري للاسلام حقه، ذلك ان عملية تنزيل النص على الواقع واضحة من خلال عمليات التسييق التي اعتمدها المفسرون عبر آليات اسباب النزول في تفسير القرآن وفهمه من خلال التجربة النبوية. والسنة وان تعرضت لهجمة من باحثين حول صحتها الا انها تظل المجال الاهم والتفسيري للنص المقدس وهي المصدر المهم لمعرفة الطرق والممارسات الاسلامية، فبدون السنة لم نكن لنعرف كيفية الصلاة وطقوسها وما الى ذلك. في اطار ما يمكن فهمه بين معادلة الثابت والمتغير يمكن لنا ان نفهم موضع النص في الحياة والتاريخ الاسلاميين. فالثابت يشير الى الوحي غير المتغير والمتغير، هو ما يتعلق بالمعاملات والتحديات الاجتماعية والاخلاقية.
بين فقه النص والواقع
والكاتب هنا يرى ان الوحي هو بالضرورة وحي يشير الى الكون وعلاماته ويظل محل التجربة والتفكير والوحي المكتوب اي النص وهو محل الفهم والتفسير وعبر الكتابين كتاب الكون والقرآن يمكننا ان نفهم دور الفقيه المعاصر وجهده في التفسير واصدار الفتاوى. لم يزعم فقهاء الماضي انهم كانوا منزوعين عن الواقع وكانوا بعيدين عن السياق التاريخي والاجتماعي والزمني للنص وتنزيله لكن الزمن تغير فلم يعد ما يشير اليه الكاتب ‘فقيه النص’ قادرا على التصدي لامكانيات العالم وحيدا مسلحا بأدواته التقليدية، فقد قطع العالم اشواطا في المعرفة واختراق الآفاق وحجم المعرفة المتوفرة لدينا يجعل من الفقيه او المجتهد غير قادر على الالمام وحده بكتاب الكون والمعرفة المنتجة عنه. وفهم العالم المسلم وان لم يكن منزوعا عن تصوره للواقع وهو ما يفرق عالم النص عن عالم الواقع الا ان هناك حاجة لتقديم فهم جديد عن دور الفقيه في العالم. لم يعد ما يشير اليه الكاتب هنا بـ ‘فقه التكييف’ قادرا على فهم العالم. في الماضي كان العالم يقوم بتكييف النص وفهمه بناء على متغيرات الزمن، ونشأ في الفقه الاسلامي عند الحنفية الفقه الافتراضي او جماعة ‘أرأيت’ وعند المدارس الاخرى خاصة المالكية فقه ‘النوازل’. على العموم البرنامج الذي يطرحه رمضان راديكالي في معناه من ناحية اعادة النظر في اصول النظر الفقهي واعادة توازنها وان احتاجت الضرورة نقل مركز السلطة الدينية من علماء النصوص وعلماء الواقع الى مزج بينهما واضافات لمؤهلات عالم العصر الحديث. ينزع رمضان للتكرار في حديثه عن مركزية اصول الفقه في النظر الديني. ويبدو انه وان حاول المزج بين كتاب الوحي وكتاب الكون للتوصل لاتزان بين الواقع والمقدس وتقديم وصفات تلائم الروح والعقل ولا تخرج عن الثوابت الدينية معنيا بالتأكيد على اهمية فكرة ان الاصلاح الذي تم في القرون الماضية كان ضروريا باعتبار تغيرات الواقع الا انه اي الاصلاح الديني وصل حدوده العليا او سقفه الزجاجي ولا بد من مخرج. هنا لا بد من اعادة النظر في آليات علم الاصول واصلاح النظر في المصادر وكتابة قوانين جديدة تعين على فهم الفقيه للواقع والنص. ويعترف رمضان ان فقهاء المسلمين في العصر الحديث قفزوا قفزات عالية في التعامل مع الواقع وتقديم وصفات للتحديات الجديدة.
من المعروف ان الفقه المعاصر ظل يتخذ من عدد من المفاهيم دليلا له لحل معضلات العصر وهي المصلحة والحاجة والضرورة ومن هنا كان الاهتمام لدى فقهاء العصر الحالي وما قبله بفقه المقاصد الشرعية واحياء الكتابة المقاصدية التي قدمها فقهاء الاسلام مثل حجة الاسلام ابو حامد الغزالي وصاحب الموافقات الامام الشاطبي.
مفاصل في تطور اصول الفقه
ورمضان وان قدم صورة عن الفقه المقاصدي في الاسلام وفلسفة الفقه واخلاقيته الا انه يعود لقراءة تطور اصول الدين وفقه الاجتهاد من حديث الصحابي معاذ بن جبل (رضي الله عنه) الذي اخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) انه ان لم يجد في كتاب وسنة رسوله نصا حول مسألة جديدة فـ ‘اجتهد برأيي’، ويقدم رمضان تقييما لتجربة الامام الشافعي مؤسس علم اصول الفقه ‘الرسالة’ وابو حنيفة النعمان، رئيس مدرسة الرأي والقياس ويعرج على منجز الغزالي والشاطبي والطوفي صاحب الرسالة المعروفة التي رأى فيها ان المصلحة تقدم على النص. يؤكد رمضان على اهمية التفريق بين الشريعة باعتبارها مجالا للمقدس والفقه باعتباره تعبيرا عن حركية الدين في الزمن والجغرافيا والتاريخ. وان كان فقه التكيف لم يعد قادرا على الاستجابة لتطورات المعرفة. فهناك اذن حاجة ماسة لفقه او اصول فقه جديدة ذات مدى تحويلي وتوليدي. فما دمنا قد تجاوزنا مفهوم الاصلاح فلا بد لنا ان نبحث عن اليات جديدة كفيلة بالتحويل. وعليه يرى ان فقيه العصر لم يعد قادرا على استيعاب المعرفة وحيدا ولا بد له من معرفة مساعدة فبالاضافة لتخصصه بالعلم الديني في شروطه الكلاسيكية المعروفة لا بد له من تخصص مرافق جديد اضافة لتخصصه الديني، اي ان الفقيه يجب ان يكون فقيها في المعنى الديني وطبيبا بمعنى اخر. وعليه ومن خلال هذا الفهم يتم التحرك من التصنيف القديم والغاء الحدود بين ما عرف بالعلوم الدينية والاصلية والعلوم الفرعية والدنيوية والغاء الحدود بينها.
جوانب عملية
يدفع رمضان عن نفسه التهم التي ساقها مفكرون ومثقفون اوروبيون عنه من انه يحاول اسلمة الحداثة ويشير الى مواقف الكاتب الفرنسي منه دومنيك افرون الذي اتهم رمضان بانه ليس اصلاحيا. قراءة الكاتب هنا ودعوته لاعادة النظر في مجمل آليات علوم اصول الفقه تعمل على دمج او الدعوة للدمج بين علم الواقع وعلم النص وهي في اطارها دعوة للفقيه المسلم لقراءة العلم المعاصر وفهمه مشيرا الى ان الفقيه المسلم عجز حتى الان عن دراسة واستيعاب المنجزات الدقيقة في علوم الاجتماع وما الى ذلك. لاختبار هذا الفهم يخصص الكاتب الجزء من الكتاب لفحص هذا الفهم عبر تحليله لقضايا مهمة عن علاقة الفقه بالطب وقضايا مثيرة للجدل مثل ‘القتل الرحيم’ والاسلام والفن والثقافة والبيئة وموقع المرأة، وعلاقات القوة والسياسة. والاخلاق والقيم العامة وفي كل قضية يحاول رمضان تقديم ما هو معروف عنها وبعدها ما هو ضروري للوقت المعاصر ويدعو بعد ذلك الى الفهم النقدي والحوار اخذا على العالم المسلم فشله في الاسهام في الحوار الداخلي، والخارجي لعدم تسامحه مع النقاش والخلاف ولانه لم يقم بالحوار الا بناء على ما يراه لا بناء على المشترك بين الامم والشعوب وان نجاح الحوار خاصة بين الحضارات لا ينجح عبر النوايا ولكن الامتحان الرئيسي له هو عندما يوضع امام الواقع.
التنويه والاشارة
ليس مهما في هذا السياق ما يراه رمضان في تأملاته في الجانب العملي من الكتاب وان كانت افكاره مثيره للجدل ولكن ما يقدمه من تأصيل نظري وعملي وما يهم في هذا السياق بالنسبة لنا التنويه بهذه المحاولة وتقديمها والاشارة الى هذا المنجز. ورمضان يعترف ان هناك من سيعترض على مدخله الداعي لاعادة النظر في فكرة اصول الفقه والتحول من الفقه التكييفي الى النظري. ويقول انه تعرض لنقد من متحدثين اثناء مشاركاته في المحاضرات واللقاءات من مشاركين قالوا ان لا جدة في اقتراحاته. وعلى العموم فالكتاب هو حصيلة تأملات ودراسات في الاسلام ومصادره منذ عشرين عاما. يقول الكتاب ان دراسته مرنة يمكن قراءتها من الخلف للامام اي البدء بالجانب العملي ثم النظري والعكس. وبالنسبة لنا ركزنا على الجانب النظري على الاقل معظمه ومررنا على الجانب العملي. وما اردناه من هذه المقاربة التركيز على الفكرة الاساسية فيه وهذا العرض يظل قاصرا ومتعجلا بالدرجة الاولى وما يهمنا هو ان تصل الفكرة لمن يريد الاهتمام بهذه الدراسة المختلفة في آفاقها وجغرافيتها وحقلها المعرفي. وفي النهاية فان عنوان الكتاب مخادع لأنه يشي بالقيم والتحرير.
Radical Reform:
Islamic Ethics and Liberation
By Tariq Ramadan
Oxford University Pre
Oxford/ 2009
القدس العربي