في الدولة الديموقراطية العلمانية الواحدة
عمار ديوب
تأتي أهمية طرح الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين، ليس انطلاقاً من فشل مشروع الدولتين فقط، وليس من فشل تغير الوضع العربي نحو وضعية تقدمية، تساهم في تحرير الأرض والتخلص من الاستعمار وبناء الدولة الفلسطينية. بل من رؤية نقدية تحلّل مجمل الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدايته، وتفيد بأن كل ملابسات هذا الصراع أدت إلى وجود “شعب” يهودي إلى جانب الشعب الفلسطيني، وهو ما أصبح حقيقة دامغة تتطلب حلاً إنسانياً لها، نراه في الدولة الديموقراطية العلمانية. ولكن هل هذا الحل يتمّ بدون مقاومة- ولن نحدد هنا شكلها- تنبني ضد الرؤية الصهيونية ودولة إسرائيل العنصرية. أبداً، بل تقوم رؤيتنا على أساس التخلص من هذه الدولة ومرتكزاتها الصهيونية وبناء دولة تجمع كلا الشعبين، ولن أسميها دولة ثنائية القومية، فالعرب ينتمون لقومية عربية، أما اليهود فهم من شعوب متعددة، وربما يجمعهم مشروع سياسي صهيوني يرتكز إلى الدين لا إلى القومية. وبالتالي القول بالدولة الديموقراطية العلمانية، لا يساوي الموافقة على وجود واستمرار إسرائيل الحالية كما يشير اتجاه فكري قوموي وإسلاموي وحتى دولتي عربي، بل يقتضي ذلك بالضرورة حل مشكلة اللاجئين وضمان حق العودة وتفكيك كل المستوطنات واستعادة الأراضي وحل كل المشكلات العالقة. واعتراف إسرائيل أنها هي هي السبب في ما آل إليه الوضع الفلسطيني، أي بمعنى آخر ليس في الدولة العلمانية المفترضة توجهات عنصرية أو متطرفة وإنما هناك مساواة كاملة بين أفراد تلك الدولة. وهذا لن يتم إلا بعد إنصاف الفلسطينيين.
إذن، الدولة المفترضة، لا تتناقض مع المقاومة بل تفترضها ضمن مشروعها، ولكنها مقاومة تقف خلف مشروع ديموقراطي علماني، وتستوحي مقاومتها من الهدف المركزي المستند إلى الدولة العلمانية. أي أن جذوة المقاومة لا تموت إن لم تكن إسلامية وربما ستموت لأنها كذلك، فهي في الوقت الذي تكون فيه ضد الاحتلال تمايز بين الشعب على أساس الانتماء السياسي الديني و الطائفي، حيث أن ابن الطائفة ليس منها إن لم يكن مع المقاومة..! وإذ كان الأمر كذلك، فكيف بمن لا يمتّ لها دينياً بصلة..! عدا عن أن المقاومة حتى لو لم تبقى كذلك، فإنها ستتجدد ما دامت الحقوق الفلسطينية لم تنصف-هذا حال المقاومات الحالية وكذلك الانتفاضات التي إندلعت سابقاً تباعاً-. وأقصد: طالما لم تنشأ الدولة فلسطينية.
وبدوره مشروع حل الدولتين، فقد فشل كليّة بعد أن شهدنا تاريخ ولادته ونموه وتأزمه الذي يشي بقرب نهايته، وبالتالي لم يعد ممكناً الدفاع عنه إلا بالنسبة لأصحاب المصالح السلطوية. ويبدو أن حماس تدخل إلى هذه الرؤية بعد أن دخلتها فتح منذ زمن طويل؛ فحماس الآن توافق على مشروع دولة فلسطينية على أراضي ال عن 67 إن لم يكن على أراضي غزّة..!.
ولو افترضنا استمرار مشروع الدولتين كما يجري، فهل لهاتين الدولتين ولا سيما الفلسطينية منها مستقبل ما، وهنا أشير أن حل الدولتين لم يثبّت سوى دولة إسرائيل، كما حال فكرة من لم يعترف بإسرائيل وأراد رميها بالبحر. ولذلك أرى أن الطرح الممكن بعد تأزم الوضع الفلسطيني وحرب غزّة الأخيرة، يكمن في حل السلط الفلسطينية من ناحية والدعوة إلى دولة واحدة على أنقاض الدولة الصهيونية من ناحية أخرى.
العلمانية التي يُشنع بها لدى التيار المشار إليه أعلاه بكونها إلحاد، لا تُطرح ضمن ما تقدم بالضد من المعتقدات الدينية وهي ليست ضد الدين بالأصل بل ربما فقط ضد سلطة وتسلط رجالات الدين على السياسة أو تدخلهم في ما ليس شأناً دينياً. وكون الصراع الآن تتصدره قوى دينية طائفية، لا يعني أن الدين هو الحل لهذه المشكلة، والأصح أنّه يزيدها تعقيداً. حيث أن قضايا الصراع والسياسة والاقتصاد وغيرها أمور وضعية بامتياز وخاضعة للمصالح المادية ولقوة الفئات المتصارعة وللرؤية الفلسفية. وبالتالي تدخل الفئات التي تدعي التدين بالسياسة وحتى ولو كان من اجل قضايا وطنيّة، هو مظهر من مظاهر فشل القوى الوضعية.
ثم أن فشل هذا المشروع الديني السياسي أكثر من بادٍ وهو بأحسن الأحوال يزعج إسرائيل ولكنه يؤمن لها كذلك دعماً دولياً متجدداً ضد قوى الإرهاب كما يسمونها، وهو لا يمتلك مشروعا للدولة سوى مشروع التعصب الاجتماعي والمساعدات الخيرية الاقتصادية”بالشنت” وفي السياسة تغيب الرؤية الدولتية لصالح رؤية ملتبسة لا تفيد في المحصلة سوى بناء دولة إسلامية قمعية، كما حال التجارب الإسلامية والتي بزت التجارب الديكتاتورية في الوطن العربي، ولنا حتى في الدولة الصهيونية مثال نموذجي للفشل، عدا عن تجربة حماس قبل العدوان، ولن نتكلم عن سودان الترابي.
أما استمرارية المقاومة بوضعها الحالي، فمعناه أن تستمر المقاومة بإطلاق بعض الصواريخ إلى أن يشاء الله، فربما تتعدّل أحوال الأمة حينها، ولكن ماذا يعنى هذا؟ أليس يعني، إغلاق أي تفكير في تطوير عمل المقاومة وإبقائها ضمن حيز تلك الصواريخ..! فهل هكذا تكون مقاومة احتلال بشراسة إسرائيل وبارتباطاتها الدولية الامبريالية. أقول، هذا لا يفيد إلّا في تقتيل الفلسطينيين وليس في الإبقاء على جذوة المقاومة ولا في تطويرها، وقد يزيدها إنغلاقاً وإنعزلاً.
الاتجاه الفكري الذي ننتقده يقدم نقداً لرؤية اليسار للقضية الفلسطينية، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه منظمة التحرير ولا سيما لجهة تبنيها الدولة الواحدة ثم الدولتين، ويُسحب ذلك النقد إلى اليساريين الجدد الذي يقولون بالدولة الواحدة مجدداً، ويدعي أن تلك الدولة “مسخ وصهينة وتضييع للحقوق” وستوقف جذوة النضال. ولكن ورغم حدّة هذه الألفاظ، لن نقول له كيف توصل إليها، لأن رؤيته هذه لا تتجاوز دائرة الخيال والافتراض والانقطاع عن الواقع..!
ما لا ينتبه إليه هذا الفكر-إذا انطلقنا من حسن النية- هو تخوينه لليسار، قديمه وجديده، وهو ربما يصفي حسابات تاريخية ما، وقد تكون فكرته نتاج رؤية متسرعة. وفي كل الأحوال، اليسار الحالي كما القديم، كان دائماً ضد الصهيونية وضد الاحتلال- قبل المقاومة الإسلامية وبعدها ربما- ومع حل عقلاني لصالح الشعب الفلسطيني أولاً ولصالح حل إنساني لمشكلة اليهود الذين كانوا مشكلة أوروبية، فأصبحوا مشكلة عربية، رغبنا أو لم نرغب بذلك..!