الغيب والعدم
وسام سعادة
ثمّة من لا يرى مسوّغاً للاجتهاد العربي في عالم الفكر إلا في اطار استهداف راهنية التنوير بحيل شتى، وبما أوتي من ذرائع، خصوصاً إذا كان من شأن هذه الذرائع المواءمة بين مركبات الذهان عند عباقرة آخر الزمان وبين مناخات التبلّد في أوساط الدهماء.
راهنية التنوير هي راهنية استخدام العاقل لعقله من حيث هو عقل فرد لعاقل فرد. وقد برزت مؤشرات عديدة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين توحي بأن ثمّة عقولا مفردة وجريئة تسند راهنية التنوير عربياً، الا أنّ هذه المؤشرات لم تتمكّن من تأمين مناخات مؤاتية للتخصيب المتبادل والمتراكم، وسرعان ما سهل حصارها وفرط عقدها مع استمرار التشنيع عليها. فمنذ العشرينيات من القرن الماضي، بدت ارهاصات التنوير العربي غير قادرة على تأمين المستلزمات الدنيا للمعركة. فمع أفول الزمن العثماني، لم تتمكّن هذه الإرهاصات من تجذير نفسها، وإقامة حجيتها في ظروف أفضل، كما كان متوقّعاً. جاء زمن ما بين الحربين العالميتين ليستلب أو يسحق هذه الإرهاصات، إما من خلال الأيديولوجيات الشمولية الوافدة (الفاشية والنازية والشيوعية) وإما من خلال الحركات الشعبوية الوطنية الضيقة الصدر ثم الضيقة الأفق، وإما من خلال «الإسلام الحركي» الذي أراد أن يُدفّع «الأمة» ثمن ضياع الخلافة.
أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد جاء زمن الانحسار «غير المدروس» للاستعمار، وهو انحسار تنوعت مفارقاته بين قيام «دولة اسرائيل» في فلسطين واستئصال الديموغرافيا الكولونيالية في الجزائر، وقد جمعت بين كل هذه المفارقات عملية الانقضاض على الإشراق الكوزموبوليتي لمدن حيوية وصاخبة فقدت اليوم الكثير من سحرها، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى الجزائر العاصمة إلى وهران إلى طنجة. مع هذا الانحسار «غير المدروس» للحقبة الكولونيالية، التي كانت عموماً، واذا ما استثنينا الجزائر، حقبة جزئية ووجيزة في أغلب الأمصار العربية، تعرّضت اشكالية التنوير لضربات جديدة باسم «القضية المركزية» و«الثورة» و«التنمية» و«الإصلاح الزراعي» و«التأميمات».
وبالإضافة إلى هذه الضربات التي وجهّت من قبل عسكر الريف المتسيّد على المدن، كانت ضربات أخرى تحرّر وتحضّر لمواجهة احتمال التنوير، ومن داخل المعتقلات وأقبيات التعذيب، وتحت مسمّى «الحاكمية» في مواجهة «الجاهلية».
بعد الهزيمة الحضارية عام ,1967 لاحت من جديد احتمالات «التنوير»، من «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و«نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم، إلى «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة» لياسين الحافظ، الا أن العدمية المستقوية «بالثورة الثقافية» الصينية من جهة، و«بالثورة الجنسية الشبابية» الأوروبية من جهة أخرى، سهّلت الالتفاف على هذه الاحتمالات، وهمّشتها، ليأتي عقد السبعينيات بمنظومة أيديولوجية كاملة معادية للتنوير: الأيديولوجيات الانقلابية الحاكمة وقد بلغت «سن الرشد»، أي سن الركود، البترودولار وقد اكتشف لنفسه رسالة ثقافية، الأيديولوجيا الفلسطينية التي استعارت ثنائية «الشتات والعودة» من أشعار بياليك وأغنون، «اسلام الجماعات» من انفتاح السادات عليها الى اغتيالها له، ومن تأثيرات الثورة الإيرانية إلى فريضة الجهاد في أفغانستان.
ما تبلور من يومها قضى بنوع من التحالف بين «العدم والغيب» في مواجهة احتمالات التنوير وراهنيته. «الغيب» يقصف «مواقع التنوير» المفترضة باسم «الوحي» وباسم «الأصالة»، و«العدم» يقصفها باسم «ما بعد الحداثة» وافتضاح أمر «مركزية العقل»، وانقضاض الهوامش على المتون.
قام هذا التحالف على أساس اجتماع رحلتين:
ـ الرحلة الأولى كانت من «الغيب الى العدم». هي الرحلة المتكئة على «فقه الحاكمية الالهية»، الجامع بين تكفير معظم المسلمين وطرح الاسلام كبديل للعالمين. يمكن اعتبار «صدمة أميركا» التي تعرّض لها سيد قطب بمثابة البداية الرمزية لهذه الرحلة.
ـ الرحلة الثانية كانت من «العدم الى الغيب»، وقد جعلت من «فضح الاستشراق» عنواناً لها. فلئن تعامل «فقه الحاكمية» مع «العالم» ومع «العصر» على أنهما من عناصر «مؤامرة واعية» تستهدف «الذات» وأصالتها، فإن «سبّ الاستشراق» قد تعامل مع «التاريخ» على أنه مسكون بـ«ثقافة امبريالية» لاواعية، وبأنّه لا مخرج من هذه «الثقافة» الا بتنحية «التاريخ» جانباً، بحجة نسف «المركزية الأوروبية»، واجبار «الانسان الأبيض» على التواضع. لقد قلب «سبّ الاستشراق» النكتة. في «العصر الكولونيالي» كانت النكتة تقول بأنّ زنجياً في مجتمع كولونيالي يحتقر زنجياً آخر بتهمة أنه أكثر سواداً منه. مع «سب الاستشراق» صار معتنق هذا النوع من السب، والخارج من مجتمعه الكولونيالي، يحتقر حق المعرفة، وحق التفكير، في معشر أبناء جلده، على أنهم خدّم تعساء للـ«انسان الأبيض».
بعد الحرب الباردة، وجد «حلف الغيب والعدم» أن نظم الأهاجي ضد «صدام الحضارات» و«نهاية التاريخ» يغني عن كل أمر آخر في عالم الفكر. أهاج ظلّت تُنظم حتى بدون الاطلاع على نصوص أصحاب الأطروحات التي جرت مهاجمتها. ثم جاءت «تقليعة مناهضة العولمة»، واجتمعت الشعبويات كلّها في مؤتمر دوربان، ليصير «حلف الغيب والعدم» متاحاً أكثر فأكثر، بالضد من التنوير، وعلى أساس محاصرة احتمال الحداثة من الجهتين: من طرف ما قبلها، ومن طرف ما بعدها. عدو الحداثة باسم ما قبلها، يهدر دمها باسم «الأصالة». عدو الحداثة باسم ما بعدها ينبري للدفاع عنه: دعوه يسفك دماَ، دعوه يخلط السحر الأبيض بالسحر الأسود، فالأصولي العاشق للموت فنّان لاواع، وأنا «الكائن الطيفي ما بعد الحديث» أعرف ذلك.
لا عجب بعد ذلك أن يكون صدام حسين التكريتي قد تكفل شخصياً بترجمة البعض من أمهات كتب ما بعد الحداثة الى اللغة العربية.