نجوم الثقافة… الزائفون
عثمان أشقرا
إن المفكرين (والمثقفين عامة) هم أولا منتجو أفكار.وواقعة الإنتاج تقود إلى مقولة السوق.والسوق-أي سوق- هي ساحة إن لم تكن للحرب والعراك الدمويين بالطبع فهي للمنافسة والتصارع الشرسين.وهنا يمكن أن يحدث الانحراف فتتداخل وضعية Homo sapiens مع وضعية Homo œconomicus والحصيلة ليست هي المثقف الملتزم (جان بول سارتر) أو المثقف الخصوصي (ميشيل فوكو) أو المثقف الجماعي (بيير بورديو أو المثقف النقدي (إدوارد سعيد) ولكن ما يمكن أن ندعوه بالمثقف الإيكونوميكوس الخالص الذي تتحكم في وضعيته شروط ثلاثة:
– التموقع داخل السوق “الثقافي” الذي هو بلغة السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو حقل من العلاقات المادية والدلالات الرمزية.
– تبرير و تسويغ المنتوج الثقافي الخاص مقابل تحطيم وتسفيه المنتوج المنافس.
– امتلاك رأسمال رمزي ممثلا أساسا في شبكة واسعة من العلاقات [الاجتماعية] العامة.
وهنا تحدث التقابلات التي ليس منها بد: الهجوم مقابل الدفاع- السلع النافقة مقابل السلع الرائجة-التسويق والترويج مقابل الانحسار والتقوقع. والأمثلة على هذه الحالة الثقافية الشاذة معروضة بتفصيل-لمن يهمه الأمر- في الملف المنشور مؤخرا ضمن سلسلة Manière de voir/le Monde diplomatiqueتحت عنوان: حرب الأفكار… إلى حد أن بعض هذه الأمثلة يصل حد الإثارة و الكاريكاتير: حالة “الفيلسوف” الفرنسي برنار هنري-ليفي –مثلا- حيث نقرأ بصدده ما يلي: من الصعب تصور انقلاب أكثر راديكالية بالنسبة للقيم الوطنية فيما يخص الذوق والذكاء كالاهتمام المبذول من طرف العموم في فرنسا لهذا الأبله الكبير le grand nigaudبالرغم من البراهين التي لا يحصيها عد حول عدم قدرته على الإدراك الصحيح لواقعة أو فكرة بعينها.فهل كان من الممكن لشخصية كاريكاتورية مثل هذه أن توجد في ثقافة أوروبية رفيعة غير ثقافة اليوم؟”
بالطبع، يطرح السؤال: وكيف وصل le grand nigaud هذا إلى ما وصل إليه من بروز ثقافي غطى على مفكرين فرنسيين حقيقيين؟ الجواب جاهز: إنها آلة الإعلام الرهيبة التي تصنع “نجوم” الفكر والثقافة مثلما تصنع “نجوما” غيرهم.وهنا يحضر أمامنا استنتاج رهيب: إن “الفيلسوف” برنار هنري-ليفي ليس “غبيا” و”بليدا” إلا بمقاييس اعتبار المثقفين الفرنسيين الكبار الذين توفوا جميعا وتركوا الساحة فارغة (رولان بارث،جاك لاكان،رايمون أرون،ميشيل فوكو،فرناند بروديل،جيل دولوز،بيير بورديو…)،أما باعتبار “المثقفين” الذين يصنعهم الإعلام “الرسمي” و”الجماهيري” ويسوقهم تسويقا (برنار هنري-ليفي،أندري كلوكسمان،آلان مينك…)ففيلسوفنا le grand nigaud هذا هو “شاطر” و”معلم” تتوفر في حالته حد الكمال الشروط الثلاثة أعلاه:
– الاستعداد للركوب على موجات “الفكر” التي –بلغة الماركتنغ- تسوق نفسها بنفسها (نقد “البربرية الشيوعية” في السبعينات والثمانينات ومعاداة “الفاشية الإسلامية” بعد حادث 11سبتمبر الرهيب).
– نشر وتعميم ما يمكن دعوته ب”فوضى المفاهيم” حيث يختلط اليمين باليسار والمجتمع بالسوق والعامل البروليتاري بمدير المشروع والسياسة العامة بالتدبير التكنوقراطي،وتكرس شعارات قاطعة من قبيل “نهاية الإيديولوجيا” و”نهاية التاريخ”…
– توفر شبكة هائلة من العلاقات العامة تحرك عناصرها وأطرافها في الوقت المناسب لتسويق “منتوج” بعينه (يقدم الملف المذكور معطيات وتفاصيل دقيقة حول ما سمي بle système BHL). هذا من جهة. ومن جهة أخرى، وفي السياق نفسه-بروز “نجوم” الثقافة التافهين والزائفين – ثمة واقعة إسلامية عربية جديرة بالتأمل وردت في ملف لوموند ديبلوماتيك المذكور: فلقد نشرت المجلة الأمريكية Foreign Policy لائحة مائة مثقف عالمي هم الذين حسب استطلاع للرأي “عالمي” أجرته المجلة المذكورة ” يمنحون معنى لعصرنا”، والمفاجأة أن العشر الأوائل هم جميعهم مسلمون يحتل بينهم الشيخ يوسف القرضاوي المرتبة الثالثة والداعية عمرو خالد المرتبة السادسة و”المنظّر” طارق رمضان المرتبة الثامنة!
وبالطبع، فلقد طعن الكثيرون في مصداقية قياس الرأي هذا في أمريكا وأوروبا حيث بالكاد هم يسمعون بهذه الأسماء “الكبيرة” أو لم يسمعوا عنها قط- لكن “نحن أهل مكة” وبالتالي نحن الذين ندرك جيدا “الشعاب” ما خفي منها وما بطن،لا نتعجب ولا نستنكر لأننا ببساطة مرة ندرك أن هذه هي الحقيقة المرة: الشيخ القرضاوي والداعية عمرو خالد و”المنظر” طارق رمضان (ويلزم أن نضيف العالم الدكتور زغلول النجار صاحب الفتوحات العظيمة في ميدان الإعجاز العلمي في القرآن حتى لا نغمط الرجل حقه) هم حقا “نجوم” الثقافة والفكر والعلم في هذا الزمن العربي الإسلامي الردئ.وهذه النجومية لم يصنعها “فكر” ولا “علم” ولكن صنعتها سوق “ثقافية” تتحكم فيها شروط ثلاثة خاصة (في هذا الميدان لنا أيضا خصوصيتنا العربية الإسلامية):
– موجة فكر إسلامي متخلف تهدهد مخيال جمهور من الأميين وأنصاف الأميين.
– اختلاط الدين بالسياسة بالشعوذة بنوبات الاستيهام الفردي والجماعي.
– تسخير آخر الوسائل التكنولوجية في مجال الاتصال والعلاقات العامة من أجل “تصغير” (حتى لا نقول “تكفير”) الثقافة العلمية والعلمانية المنافسة وفرض بضاعة “الدين” و”الإعجاز العلمي” الزائفة و المغشوشة. فهنيئا لنا معشر العرب المسلمين ب “نجوم” ثقافتنا الكبار هؤلاء!
موقع الآوان