ما هو مستقبل ثقافة تتصارع مع قنينات الخل؟
حميد زناز
يصيب الأصوليون كبد الحقيقة عندما يؤكدون أنّ الإسلام غير متوافق مع الحداثة، وأنّهم غير قادرين، بل ولا يرغبون حتى وإن قدروا، على التوفيق بين دينهم والحياة في المجتمع الحديث. أمّا ما عداهم فتراهم يصنّفون ما يناسبهم ضمن الشريعة الإسلامية وما لا يعجبهم كتعدّد الزوجات مثلا، والجهاد، وقطع يد السارق وارتداء الحجاب الخ.. فيعتبرونه تطرّفا وأصولية لا يمتّان إلى الإسلام بصلة..ومنهم من ذهب إلى أبعد حدود التناقض ضاربا المنطق والواقع والنصوص الواضحة عرض الحائط، متوهّما إسلاما لا يوجد إلا في خياله مثل المناضلة المثلية، الكندية جنسية، والمسلمة دينا وذات الأصول الهندية، إرشاد منجي، صاحبة كتاب ’مسلمة ولكن حرّة’، التي تفتخر فيه بسحاقيتها وإسلامها في نفس الوقت، متجاهلة حكم الإسلام في المثلية. فهي لا تعترف باستحالة التوفيق بين عقيدتها وميلها الجنسيّ، بل تتمادى في ترقيع ما لا يرقّع(1). أن تكون مثلية فهو من حقوقها المقدّسة، لكن أن تنفي تعارض ذلك مع دينها فهو التلفيق عينه. هل تدري أنّ الشيخ عبد المؤمن الورتلاني طالب أخيرا بإصدار قانون جديد يجرّم المثلية الجنسية ويدخلها آليا في سياق الزنا، مطالبا بمعاقبة المثليين في المغرب بسبعين جلدة أمام الملأ؟
تهاجم الحداثة المسلم أينما كان، فلا ينبغي أن نبحث عن تفسيرات عميقة لتعويم الموضوع كما يفعل أغلبية القوم، فإذا تمادينا في الذهاب إلى الأعماق، سيحدق بنا حتما خطر عدم الصعود إلى السطح ثانية كما تقول عبارة كوكتو. يكفي التأمل لحظة في الأسئلة التي توجّه إلى شيوخ الفضائيات عن طريق المايلات والهاتف من طرف المسلمين الذين يعيشون في الغرب لنقف على اغتراب المسلم وحيرته في عالم اليوم.
تسأل سيّدة فقيه برنامج ’فتاوى على الهواء’هل هو مفطر وضع قطرات من دواء سائل في عيني في رمضان؟ “هل القرض حلال أم حرام؟” يقول آخر. أنا سائق شاحنة، فيسأل: هل يجوز لي نقل الخمور؟ آلاف الأسئلة تطرح وفي كل ميادين الحياة. أما الأجوبة فهي تؤكّد، لمن لا يزال يحلم بإصلاح ما، أنّ الحداثة ليست في جدول أعمال المؤمنين في بلاد الله ولا في بلاد الكفار. ألم يتأمل المجلس الأوروبي للفتوى سنة 2005في مدى جواز استهلاك الخلّ المصنوع انطلاقا من الكحول؟ ما هو مستقبل ثقافة تتصارع مع قنّينات الخلّ؟
” في هذا الحضور اللامع للعلم والمعرفة والحضارة في كلّ مظاهرها أرفض أن أؤمن أن يكون هناك اليوم بشر بدائيون يبحثون عن سعادة روحية أو مادية في نصائح هذا الشيخ أو ذاك”، يلاحظ كمال أتاتورك سنة 1925، تمضي 83 سنة ولا زلنا نجد ذلك فعلا وربما أكثر. ألا يطلب شبان الأحياء الفرنسية من أصل عربي وإسلامي المشورة والنصح والفتوى عن طريق المحاضرات الهاتفية والفيديوية من شيوخ بداوة في السعودية؟
فهل بإمكان المسلمين أن يتصالحوا مع العصر تائقين إلى المستقبل ومتحررين من الأصول التي تعرقل ذلك أم سيبقون متمسكين بها ملتفتين إلى الماضي؟ لا أرى في الأفق أي مسعى جدّيّ سواء على مستوى الفكر أو العمل لإحداث قطيعة حاسمة مع الذي لم يعد ممكنا، فكأن مستقبل المسلم تاريخه. لا نجني شيئا من كتابات هؤلاء الذين يمضون وقتهم في محاولة البرهنة على أن الإسلام غير متناقض مع فلسفة العصر وسنخسر الكثير من الوقت مع أولائك الذين يتجرّؤون على القول بأنّ الإسلام هو أصل الحداثة الغربية ذاتها.
على عكس ما يدعي الإصلاحويون، أعتقد أنه كي يعيش المسلم في تصالح مع دينه، يجب أن تتوفّر له دولة إسلامية. لماذا؟ لأنّ ما يمكن أن يكون مقبولا قانونيا قد يكون حراما في الشريعة وما قد يكون حلالا شريعة قد يكون ممنوعا قانونا. فماذا يتبع أخونا المسلم إذن؟ القانون أم الشريعة؟ هي ورطة مستدامة يتخبط فيها المسلم في الغرب. لنستمع إلى رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا وهو يدعو بشكل غير مباشر إلى وجوب قيام دولة إسلامية لمسلمي فرنسا: “ينبغي أن تحل مسألة الحجاب من طرف ’سلطات إسلامية’، فدولة القانون لا ينبغي أن تنطبق على أطفال يكون أولياؤهم ذوي عقيدة إسلامية”. وهو ما يذهب إليه عضو المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ورئيس الرابطة الإسلامية في شمال فرنسا، في قضية المواطن الفرنسي من أصل مغربي الذي أوصى بحرق جثته، ألا يدفن على الطريقة الكلاسيكية، حيث صرّح عمار لصفر بالحرف الواحد:” وحدها سلطة قضائية إسلامية في بلد مسلم مؤهّلة للتأكّد من ردّة شخص من الأشخاص”.
يبحث مؤمنو الديانات الأخرى عن السكينة، بينما يبحث المسلمون عن الحقيقة أكثر من أيّ شيء آخر، وهذا يتصادم مع الحداثة التي هي في جوهرها حاملة للشكّ والتعدد، ربما ينبغي البحث هنا عن مكمن عطل التجمعات الإسلامية وجذر خللها.
يبدو الإسلام كإيديولوجية جماهيرية أكثر مما هو روحانية فردية، وبما أن الحداثة السياسية هي عقد بين الفرد والدولة وليس بين الدولة ومجموعات، فهذا يطرح مشكلا عويصا، لأن مجموعات الإسلام تعتبر دينها سياسة وأخلاقا وقانونا وهوية وهو ما يلخصه شعار اللاهوتيين في دالاته الثلاثة الشهيرة: دين، دنيا، دولة.
“يحتوي القرآن من الآيات المتعلقة بالحياة الاجتماعية 100 مرة أكثر من التي تتعلق بموضوع الورع.” يقول الإمام الخميني محقّا. وهذا ما يضع خطا فاصلا بين المسلمين والحداثة يكاد أن يكون مثل خط ماجينو. لا شيء جديدا يأتي اليوم من الإسلام، كلّ شيء يأتي من خارج دياره ومنظومته الفكرية، وهو الأمر الذي يوهن إرادة أغلبية المسلمين ويجعلهم في موقف هشّ، يشعرون فيه أنهم ضحايا، معتدى عليهم، مهانون…
ما دام الحال على هذا الوضع لن يجد لا الفرد المسلم ولا دولته الطريق المؤدي إلى الحضور الفاعل في العالم، وهو الشعور المطمئن الوحيد. عندما لا نملك حداثتنا العقلانية فنحن حتما مساقون إلى الانقياد لفلكلورنا الغيبي اللاعقلاني. فالمسلمون اليوم مثل ذلك الحوت الأحمر الذي يتعذر عليه الخروج من القمقم كما تقول عبارة ميشال فوكو.
من هم المسلمون في عالم اليوم؟ هل يستطيعون الاستفاقة من هذه الغيبوبة الحضارية العميقة التي هم فيها منذ قرون؟ هل يفصلون دينهم عن دنياهم يوما؟ “دون جعل الدين قضية شخصية وتشييد دولة القانون، يقول لنا المفكّر الفارسي داريوش شايغان، فلن يكون لنا لا ديمقراطية حقيقية ولا دين خلاص وإنما يكون الحاصل تجميعا لمساوئ الاثنين”.
إنّ السؤال الذي ينبغي طرحه اليوم وربّما هو آخر الأسئلة التي لها معنى هو: ما هي الطريقة التي يمكن استعمالها لتجاوز عقدة المسلمين أمام هزيمتهم الحضارية ومواساتهم ليتعافوا من مخلفات تلك الهزيمة؟
لا معنى للإصلاح، بل من السذاجة الحديث عن إصلاح ما في بلدان الإسلام، ولا عن قرب موعد مواطنة حقيقية لمسلمي الغرب ما دام يهيمن على الأذهان سؤالان مكبّلان هما: هل يسمح القرآن بهذا الأمر أو ذاك أم لا؟ هل هذا متطابق مع الشريعة أم لا؟
1-Manji Irshad, Musulmane mais libre, Grasset &Fasquelle,2004