صفحات العالم

اوباما واسطنبول ونحن

جهاد الزين
يسأل كاتب تركي أمس: “هل هناك في العالم من يصف بلجيكا او بريطانيا على أنها “بلد مسيحي معتدل”؟
الجواب طبعا: لا أحد. لكن هدف السؤال – الجواب هو الاعتراض الذي تعبر عنه فئة واسعة من المثقفين العلمانيين الأتراك والرافض للاستمرار في وصف تركيا بأنها مجرد “بلد مسلم معتدل”.
هذا التعبير الذي اشتهر في عهد الرئيس جورج دبليو بوش لا يحمل المضمون نفسه لتعبير آخر تحول الى أحد أبرز توصيفات الصراع في الشرق الاوسط وإن كان جرى تجديده على يد الجهة نفسها وهي ادارة بوش عندما قسمت المنطقة بين “العرب المعتدلين” و”العرب المتطرفين”. في نظر العديد من المثقفين الاتراك شوّه الرئيس بوش فكرة “الاعتدال” حين حصرها فقط بالانظمة والدول المؤيدة للسياسة الاميركية والغربية عموما، مع أن “الاسلام التركي” يتمتع بميزة بنيوية لا يتمتع بها معظم محيطه العربي: الديموقراطية المبنية على حداثة اقتصادية.
صحيح أن المسؤولين الاتراك الحاليين لا يمكن أن يعلنوا أن تشبيه تركيا بالعديد من الانظمة العربية هو “إهانة” للتجربة التركية الديموقراطية التحديثية العلمانية لكن من الارجح على ما يبدو ان ثمة من نصح وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون ان لا تستخدم تعبير “الاسلام المعتدل” خلال زيارتها التي جرت الشهر المنصرم الى تركيا، مهدت للزيارة التي قام بها الرئيس الاميركي الجديد امس وأمس الاول الى أنقرة واسطنبول. نصيحة على ما يبدو التزم بها ايضا الرئيس باراك أوباما ولم تؤثر على ضخامة “رسالته” التي حملها الى تركيا كجسر أول وأساسي بين الولايات المتحدة والعالم المسلم برمته.
بالعكس، أعمق ما في تفهم الادارة الاميركية الجديدة للدور بل للنموذج التركي، أنه يعيد الاعتبار الى أهمية البنية الديموقراطية التحديثية لبلد اختلف مع السياسة الاميركية في أهم مغامرة خارجية قامت بها وهي العراق. فالديموقراطيات يمكن ان تختلف دون أن يلغي بعضها الاعتراف بالبعض الآخر فلا يرتبط الاعتدال بالتبعية، كما ان مقياس التطرف ليس فقط الموقف من السياسة الاميركية بل طبيعة النظام السياسي – الايديولوجي نفسه. إذ أن ايران، متفقة او مختلفة مع أوروبا وأميركا، هي نظام ديني ذو تكوين متطرف. وفي العالم العربي أنظمة ذات تكوين متطرف حتى لو كانت صديقة للولايات المتحدة، كما يعتبر أصحاب وجهة النظر هذه.
صحح باراك أوباما، صمتا تارة، وكلاما تارة أخرى في اتجاه الخطاب الذي يعتبر الاتراك أنه يليق بتجربتهم، فتحدث عن مسائل شائكة بدقة عالية مثل موضوع العلاقات مع الارمن والعلاقات الاميركية التركية كـ”نموذج شراكة” مع العالم المسلم كله. إذن تركيا المسلمة. غير ان البعد النقدي للتجربة التركية لم يغب عن ثنايا خطاب هذا الرئيس المثقف والممثل الفعلي لجيل أميركي جديد. فقد تحدث باراك أوباما في خطابه امام البرلمان عن المزيد من تعزيز “الاصلاحات السياسية” المتواصلة في تركيا وبلغة ديبلوماسية تجمع بين الاعتراف بالانجازات والدعوة الى استكمالها.
ومن قضية قبرص الى الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي الى أفغانستان فالعراق لم يترك الرئيس أوباما دائرة من دوائر الدور التركي في السياسة الخارجية إلا وأكد عليها. لقد بدا حريصا ليس فقط على رؤية التوجهات التركية الحالية بل ايضا على تأكيد القابليات والامكانات المتاحة. الى حد ان معلقا تركيا آخر دعا بسخرية سوداء الى “عدم تصديق أوباما في كل ما يقوله”!
•••
وصل أوباما اصلا الى تركيا حاملا معه الموقف الذي كان سيزيد من وهج الحماسة لزيارته. فصحيح ان تأييده لعضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي هو امتداد لموقف أميركي تقليدي سبقه اليه كل الرؤساء الاميركيين منذ طرح الموضوع، غير ان “التلاسن” الذي حصل مع الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي الرافض لاندماج تركيا الاوروبي ركز الانظار أكثر على معنى الزيارة خصوصا في لقائه مع الطلاب.
إنها لمفارقة كبيرة دفعنا هذا “التلاسن” الى تذكرها مرة أخرى. فالبلد الذي استوحى منه مصطفى كمال أتاتورك نموذجه العلماني لتركيا، أي فرنسا، هو الآن يعارض اندماج تركيا الأوروبي. أما البلد الذي بات الكثير من السياسيين والمثقفين الأتراك يعتقدون أنه يحتضن النموذج المطلوب لعلمانية أكثر تقدما، أي أميركا، لأنها أكثر ارتكازا على واستيعابا لـِ الحريات الدينية، فهو البلد الذي يؤيد عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الاوروبي. مع ذلك، الصراع متواصل داخل تركيا بين “الكماليين” التقليديين الرافضين لتغيير النموذج الفرنسي، وبين جيل جديد من “الكماليين” واليساريين والليبراليين والاسلاميين الساعين الى النموذج العلماني الأميركي!
إنما هناك مفارقة داخل المفارقة تجعل الموقف معقدا فعلا:
فالرئيس ساركوزي هو أول رئيس للجمهورية في فرنسا حاول التحريض الفكري لصالح ما أسماه “علمانية ايجابية” أكثر تصالحا مع القيم الدينية، أعلن ذلك في مناسبتين كبيرتين لكنه ووجه بموجة عارمة من الرفض السياسي والثقافي في فرنسا… جعلته يطوي الموضوع حتى الآن…
فالذي يريد ان يغير في النموذج العلماني الفرنسي، عاجز عن رؤية أهمية تركيا المسلمة الديموقراطية داخل التعددية الأوروبية…
المفترض أن تلتقي الدعوتان… لا أن تتناقضا.

جهاد الزين
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى