إستراتيجية أميركية لأفغانستان وباكستان
أنطوني كوردسمان
لم تكن الحرب في أفغانستان وباكستان “حرباً منسية”، إنما حرباً سمحت لها الولايات المتحدة بأن تنزلق من نصر واضح إلى أزمة خطيرة. فقد سُمِح للانتصارات العسكرية التي تحققت في البداية بأن تنزلق إلى حرب استنزاف سياسي وصلت إلى باكستان وحوّلت تنظيم “القاعدة” – ومركز ثقل الحرب – إلى بلد آخر. وقد جاءت الزيادة المطردة في مستويات العنف وأعداد الضحايا وتأثير “طالبان” وسيطرتها لتخفّف من وهج الانتصارات التكتيكية. في هذه المرحلة، لا تواجه الحكومتان الأفغانية والباكستانية، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)/قوة المساعدة الأمنية الدولية (إيساف)، والولايات المتحدة مأزقاً بل إنها تخسر الحرب.
يمكن تغيير هذا الوضع، فحركة “طالبان” والحركات الجهادية الأخرى وتنظيم “القاعدة” في باكستان لا تزال تيارات ضعيفة وغير شعبية نسبياً. إنها تفوز لأن الولايات المتحدة و”الناتو/إيساف” أخفقا في التحرك ونشر القوات الضرورية ومنح الأولوية اللازمة وتخصيص الموارد المناسبة لبناء القوات الأفغانية، وسمحا لإدارة المساعدات الخارجية بأن تتحوّل فوضى يستشري فيها الفساد وتعاني من سوء إدارة فظيع. إنها تفوز لأن أفغانستان تستطيع إجراء انتخابات لكنها لم تنتخب من يستطيعون أن يحكموا. إنها تفوز لأن باكستان لا تزال تعتبر بأنها غير معنية بهذه المعركة ولأنها ترزح تحت وطأة سلسلة من الحكومات الفاسدة والعديمة الكفاءة التي تركّز على مسائل أخرى.
في حرب أفغانستان وباكستان، أخفقت الولايات المتحدة أيضاً بصورة مستمرة في وضع تقويم صادق للوضع، كما أخفقت في طلب مستوى الدعم الذي تحتاج إليه من الكونغرس والشعب الأميركي، وفي التركيز على واقع أنها تخوض حرباً وليست في صدد إعادة الإعمار بعد النزاع. لقد قصّرت الولايات المتحدة باستمرار عن التعاطي كما يجب مع نمو التهديد عن طريق تأمين الجنود والموارد، ولم تتصرّف بحزم وتمارس ضغوطاً على الحكومتين الأفغانية والباكستانية. وسمحت أيضاً لوزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بارتكاب أخطاء في صوغ المساعدات وإدارتها أكبر من تلك التي ارتُكِبت في العراق، ولم تحرّك ساكناً لإصلاح الإخفاقات الكبيرة والفساد في مجهود المساعدات الدولي.
السؤال المطروح الآن هو، هل تستطيع الولايات المتحدة أن تتحرّك بحزم كافٍ لقلب هذا الوضع؟ أعد كرسي بورك مراجعة عن الاستراتيجيا الأميركية في حرب أفغانستان وباكستان بعنوان “النزاع في أفغانستان وباكستان: الخيارات الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان”.
تقترح الدراسة ست توصيات أساسية:
– الانتقال من تركيز فاشل على الفوز في الصدامات التكتيكية إلى تطبيق استراتيجيا قوامها “انتصر، احتفظ بموقعك، ابنِ”، وتوفّر أيضاً أمناً وتنمية وحكومة من النوع الذي يقضي على سيطرة “طالبان” والحركات الجهادية وتأثيرها في المناطق والمراكز السكنية الأكثر حساسية في أفغانستان. السؤال المطروح هو، هل تستطيع الولايات المتحدة إيجاد جنود وعمال إغاثة إضافيين يمكنهم العمل في بيئة عالية التهديد، وهل هي مستعدة لتخصيص الموارد الضرورية في خضم أزمة مالية عالمية؟ حتى الآن، الجواب هو كلا. ليس أكيداً على الإطلاق أن 17 ألف جندي سيؤمّنون العدد الكافي، وليس واضحاً من أين سيتم استقدام عمال الإغاثة الإضافيين أو كيف سيعملون، وليست هناك خطة أو موازنة متماسكة لتوفير الموارد المالية الضرورية، وليس واضحاً كيف ستتمكن الولايات المتحدة من تبرير المزيج الغريب من هيكليات القيادة العسكرية والمجهود الفاشل لإدارة مساعدات دولية فاعلة. يجب أن تضع الولايات المتحدة خطة علنية واضحة تبيّن فيها ما الذي تتوقّعه من الزيادة المزمعة في عديد قواتها، وهل هذا العدد مناسب للمهمة؟
– التركيز على تحسين الحاكمية الأفغانية بدلاً من الانتخابات. ليس واضحاً على الإطلاق أن الانتخابات الأفغانية، حتى لو كانت الأنجح، سوف تساهم في وصول قيادة وحكومة أفضل. وعلى الأرجح أن الانتخابات ستؤدّي إلى حكومة مركزية أفغانية فاسدة وعديمة الكفاءة تواجه باطراد مزيداً من الضغوط العسكرية وتصطدم بأزمة مالية عالمية ومشكلات متعاظمة في الحصول على المساعدات الدولية. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تنتظر حدوث تحسينات في الحاكمية على مستوى الإقليم والمحلة. ومن الواضح أنه لا يجدر بها فقط أن تسعى إلى بناء القدرة الأفغانية في المركز إنما أيضاً في المحافظات والأقاليم الأساسية، فتوسّع دور فرق إعادة الإعمار الإقليمية وتسعى للحصول على أي مساعدة ممكنة من الحلفاء. لا يعني هذا تقويض الحكومة المركزية بل مؤازرتها. ليس هناك وقت لانتظار الحكومة المركزية من أجل تطوير مستوى الكفاءة الذي تحتاج إليه. لا جدوى من انتظار كرزاي؛ إنها ممارسة عقيمة.
– توفير القوات المناسبة لمهمة “انتصر، احتفظ بموقعك، ابنِ” عبر تعزيز قوات الأمن الوطنية الأفغانية. ويعني ذلك توفير الطاقم والتمويل الضروريين لإطلاق مجهود يهدف إلى تطوير الجيش الوطني الأفغاني بأسرع وقت ممكن ودعمه في الميدان بواسطة الأعداد المناسبة من مستشاري القتال الملحقين به. ويقتضي منح خوض الحروب الأولوية على وظائف الشرطة النظامية و”سيادة القانون”، وتعزيز الشرطة – إذا أمكن توفير الموارد الاستشارية – كي تتمكن من الحفاظ على الأمن المحلي ونشره في وجه “طالبان” والتهديدات الجهادية الأخرى. ويتطلب أيضاً ربط تطوير الأمن المحلي بالتطوير الإجمالي للحاكمية وقوات الأمن الوطنية الأفغانية كي تساعد الاثنتان على توفير الأمن المحلي ولا تتحولا خصمَين في السلطة أو أداة للاختراق من جانب “طالبان”. ثمة أمر واضح، لقد كانت جهودنا غير مناسبة في الماضي وسوف تبقى كذلك في المستقبل إذا استمررنا في تأمين 30 إلى 40 في المئة من المستشارين الضروريين وواصلنا التمويل المتقطّع من دون مثابرة وخطة طويلة الأمد تتمتع بالصدقية.
– إجراء إصلاح قوي وحازم لجهود المساعدات الاقتصادية الأميركية والدولية على السواء، حتى لو اقتضى ذلك إعادة تنظيم واسعة النطاق لجهود المساعدات الأميركية، والإحراج المتعمّد لجهود المساعدات الحليفة والتي تتولاها الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية عندما تفتقر إلى الكفاءة أو تكون فاسدة. يتعيّن على الولايات المتحدة تطبيق وسائل التقصي وإعداد التقارير التي يستعملها المفتّش العام المختص بإعادة إعمار العراق، على كل جوانب المساعدات الأميركية لأفغانستان وباكستان وجهود المساعدات التي يبذلها حلفاؤنا والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية. ويجب أن تطلب خططاً فاعلة مناسبة لزمن الحرب والحاجات الإنمائية في العالم الحقيقي على أن تخضع هذه الخطط لتدقيقات عامة شفافة وإجراءات تؤمن الفاعلية. وينبغي عليها أن تعتبر فاعلية المساعدات بأهمية خوض الحرب التكتيكي أو أهم منه. كما يجب أن تحدّد مهمة المفتش العام الجديد المتخصص بإعادة إعمار أفغانستان، بحيث لا يكون أي عنصر في المساعدات الأميركية أو الحليفة أو التي تقدّمها الأمم المتحدة أو المساعدات الخاصة، بمثابة “بقرة مقدّسة”، وبحيث تشمل مهمته باكستان ووضع تقويم مفصّل عن العمليات الفردية لكل عنصر أساسي في الحكومتين الأفغانية والباكستانية. ويجدر بها أن تسمّي الأشخاص بأسمائهم وتحدّد المسؤوليات بطريقة مباشرة. كما يجب أن تسلّط الضوء على النجاحات، إنما أيضاً على الفساد وعدم الكفاءة والإخفاق. يجب أن تخضع المساعدات لمعيار جديد وصارم ومتطلّب.
– اتخاذ خيارات صعبة في التعاطي مع باكستان، وقبول واقع أن المعركة الأكثر حساسية ليست في أفغانستان إنما ضد “القاعدة” ومصادر أخرى للإرهاب الدولي في باكستان والتهديدات للاستقرار الداخلي الباكستاني. ربما تخوض الولايات المتحدة قتالاً في أفغانستان، لكن المعركة الأساسية هي في بلد آخر. من شأن انتصار “طالبان” في أفغانستان أن يوفّر في شكل شبه محتوم ملاذاً جديداً أساسياً لتنظيم “القاعدة” كما أنه يؤدّي إلى تمكين كل الحركات الجهادية العنيفة والمتطرّفة في العالم. لكن ليس واضحاً على الإطلاق أن بإمكان أي مزيج من الجهود من جانب الولايات المتحدة وأفغانستان و”الناتو/إيساف” أن يفوز في حرب طويلة من الاستنزاف السياسي في أفغانستان إذا كان لحركة “طالبان” وتنظيم “القاعدة” وشبكة الحقاني وحركة حكمتيار وتهديدات أخرى ملاذ بحكم الأمر الواقع في باكستان. ومن الواضح أيضاً أن باكستان المسلّحة نووياً هي جائزة استراتيجية أكبر بكثير من أفغانستان، وأنه من شأن تحوّل باكستان دولة فاشلة أو جهادية أن يشكّل تهديداً استراتيجياً للولايات المتحدة أكثر خطورة من التهديد الذي تشكّله خسارة أفغانستان. وقد لا تتمكّن الولايات المتحدة أبداً من نشر أكثر من مجرد أعداد محدودة من المستشارين والقوات الخاصة والمنظومات على غرار الطائرات من دون طيار، في باكستان. وقد تُضطر إلى الاعتماد على جزرة المساعدات وعصا الضغوط السياسية. غير أن الحقيقة تبقى أن ما بدأ حرباً أفغانية قد انتشر إلى الحدود الشمالية الغربية والمناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيديرالية ومناطق البالوشستان في باكستان، وأن هذه المناطق باتت الآن مركز الثقل الأكثر حساسية في حرب معقّدة ومتعددة البعد.
– إضفاء صدق وشفافية على خوض الحرب. لقد كانت الأعوام الثمانية الماضية درساً قاسياً في ما يحصل عندما لا تؤمّن الحكومة الأميركية تقارير عامة صادقة عن الحرب؛ وعن طبيعة التهديد وتعاظمه؛ وعن مدى ملاءمة قواتها وجهود المساعدات التي تبذلها وفاعليتها؛ وأداء حلفائها الحقيقي. وكانت النتيجة “تضليلاً” وأكاذيب بفعل السهو، والانتصار المستمر للمصلحة السياسية والبيروقراطية على ما تقتضيه الضرورة. يجب أن تضع الولايات المتحدة خطط حملات مشتركة عامة ومتماسكة، وتقويمات مفصّلة للتهديد وتطوير قوات الأمن الوطنية الأفغانية، وتحاليل واضحة عن نجاح جهود المساعدات وإخفاقها، وموازنات متماسكة وطويلة الأمد. يجب ألا يثق أحد بالليبراليين أكثر من المحافظين. ويجب الحكم على إدارة أوباما انطلاقاً مما تعلنه على الملأ؛ لا يمكن الوثوق بها لوضع معادلة منطقية انطلاقاً من السلطة التي تملكها.
هل تستطيع الولايات المتحدة القيام بهذا؟ ربما. إنه يحمل بوضوح خطر إخفاق كبيراً أو نوعاً من الانتصار القصير إلى المتوسط الأمد الذي لا يحقّق استقراراً دائماً، فما بالكم بأهداف أكثر طموحاً بكثير مثل التنمية والديموقراطية الحقيقية؟ احتمالات “النصر” في كل من أفغانستان وباكستان متعادلة في أفضل الأحوال، حتى لو عُرِّف النصر إلى حد كبير بأنه تدمير قدرة “طالبان” و”القاعدة” والحركات الجهادية على العمل في أي من البلدين.
فرص تحقيق أهداف أكثر طموحاً مثل إعادة الإعمار بعد النزاع والتنمية المتقدّمة في غضون العقد المقبل في أفغانستان أو باكستان، سلبية إلى حد كبير – مع أنها ليست عقيمة إذا ظهرت حكومة في هذا البلد أو ذاك قادرة على الحكم وخدمة المصلحة الوطنية بكل معنى الكلمة. لكن واقع أن أياً من البلدين لم يحظَ بحكومة مماثلة منذ أكثر من ثلاثة عقود هو غير مشجّع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القوى التي تقف وراء الإخفاقات الحالية لكل من البلدين في السياسة والتنمية والأمن. إلا أنه يمكن التغلّب على هذه القوى مع الوقت، ومن خلال التحلي بالصبر وبذل الجهود المستمرة.
ترجمة نسرين ناضر
أنطوني كوردسمان
( محلل استراتيجي في مركز الدراسات الاستراتيجيةوالدولية في واشنطن الذي صدر عنه هذا التقرير)
النهار