المصالحة العربية: المسكوت عنه
طيب تيزيني
تكوّن المؤتمرات العربية ظاهرة ملفتة في حياة الدول العربية، ولأنها تنعقد بوتائر كثيرة كثرة الأحداث في تلك الدول، تحولت إلى تقليد رسمي شبه دوري فيها. ففي الماضي القريب، نسبياً، انعقدت ثلاثة مؤتمرات، اثنان في الدوحة وواحد في دمشق، وفي هذه جميعاً، كانت تبرز مسألة تبدو كأنها معضلة بسبب “إعضالها”، أي لكثرة ما بُذلت جهود لتجاوزها، ولقلة ما أثمرت من نتائج إيجابية، نعني معضلة المصالحة بين العرب، وكي لا ينشأ التباس فيما نقول، نضيف أن المصالحة المذكورة هي المطلوب أن تتم، كم يُراد لها، بين النظم السياسية العربية، وليس بين الشعوب العربية، وبين هذه وتلك فرق شاسع.
لم يستطع المسؤولون العرب أن يقاربوا مشكلات ذات شأن في العالم العربي، حتى بعد نشأة النظام العالمي الجديد، فالاستحقاقات الكبرى التي تواجه العرب نُظُماً سياسية وشعوباً منذ هزيمة الـ67 المُذلة، لم يُجبْ عن واحد منها، ناهيك عن أن بعضها تراجع وتحول إلى عنصر ثابت في تصدع النظام العربي. إذ ما الذي طرأ على الموقف العربي الرسمي من الاستحقاقات التالية: التكامل الاقتصادي، والدفاع المشترك، والتنسيق على صُعد التعليم والقضاء والثقافة والإعلام والبحث العلمي الاستراتيجي…إلخ؟ ناهيك عن الحفاظ على الاستقلالات الوطنية والسيادات الدولتية. بل ما الذي أنجزه النظام العربي الرسمي حيال حروب عسكرية عدوانية، في لبنان والعراق خصوصاً، إضافة إلى فلسطين؟
ولعل عذراً يكمن وراء ذلك وعبر جامعة الدول العربية، وهو ذاك الذي يقدمه رهط من الحكام العرب ومجموعات من السياسيين والمنظِّرين السياسيين، وذلك بذريعة عدم التدخل في شؤون الدول العربية الداخلية. وفي هذا وذاك، يتضح أن الفضيلة التي تتمثل في كون العرب يجسدون قوة ديموغرافية كبرى في العالم يداً بيد مع ثرواتهم الطبيعية العظمى وأهميتهم الاستراتيجية الملحوظة، ربما تتحول إلى رذيلة، طالما هي خارج الفعل التاريخي. فالعرب بوصفهم كتلة بشرية حائزة على ما ذكرناه، يتحولون إلى عبء على بلدانهم، إذا لم يتقنوا كيفية الفعل التاريخي، وفق منظومة الممكنات، التي تنطلق مما أتينا على ذكره سابقاً تحت حدّ “الاستنفاد التاريخي”. أما هذا الأخير فيقوم على التأسيس لمشروع عربي يأتي امتداداً للمشاريع الوطنية في كل بلد عربي، وتقوية لها وضابطاً وحامياً. بيد أن الحد المذكور يتجسد في ثلاثية إنجاز أمر ما ضمن ثلاثة شروط حاسمة: النوعية المثلى، والتكلفة الأقل، والوقت الأكثر تكثيفاً.
ولن يكون هنالك ما يخشاه البعض في إطار تدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد العربي أو ذاك، بل -بالعكس- سيكون هنالك ما يدعم هذه الشؤون ويعمقها ويوطدها أولا، وما يجعلها عنصراً فعالا في بناء التضامن العربي وحمايته وتطويره إلي مؤسسة ما فوق وطنية ثانياً. ها هنا، تكمن تكاملية الوطني مع القومي ولمصلحة كليهما، ودرءاً لالتباس قد يبرز في هذا السياق، ويقوم على أن مثل هذا المشروع المركّب سيصطدم بصعوبة العلاقات الثنائية بين البلد العربي الواحد وبين بلدان من خارج المنظومة العربية.
ولكن ما نلاحظ أنه مسكوت عنه وعليه في المؤتمرات العربية، وخصوصاً منها ما يتصل بهدف المصالحة العربية، هو ذلك الذي يمس المصالح الحيوية للشعوب العربية، بدءاً بالحريات، حرية الرأي وحرية النشاط الاجتماعي والسياسي، وانطلاقاً من لائحة شرف ترتكز إليها أطراف “العقد الاجتماعي” في البلد العربي الواحد، وعلى مستوى كل البلدان العربية، إذ ها هنا تبرز شروط العيش المشترك، لتوصل إلى ما يمكن ضبطه بمصطلح “مرجعية الوطن”. أما هذه الأخيرة فتتمثل في ما يلتزم المواطنون جميعاً به وبتطبيقه واحترامه وتطويره. وفي هذا السياق، تبرز أهمية الإقرار بالتعددية بأنساقها واحتمالاتها المختلفة: الاقتصادي والسياسي والثقافي والقضائي والتعليمي والتربوي… إلخ، وذلك على نحو تتحقق فيه استحقاقات المشاركة في الإنتاج وتطوير القطاعات الاجتماعية جميعاً. ذلك كله وأشياء أخرى، هو المسكوت عنه وعليه في مؤتمرات المصالحة العربية، وكي تكون هذه المصالحة ذات جدوى، ضروري أن تستند إلى مصالحة النظام السياسي مع شعبه العربي، الذي يحكمه.
الاتحاد