القمة العربية بين السياسة والدعاية
برهان غليون
بالرغم من الأهمية الكبرى التي ينبغي أن تولى لمؤتمر العشرين الذي عقد في لندن في مطلع هذا الشهر، وصدرت عنه قرارات أساسية اعتبرها أغلب المراقبين والمحللين بداية إعادة تعريف وصياغة للنظام العالمي، فإنني أشعر أن من الضروري والواجب أن أتحدث عن مؤتمر القمة العربي الأخير الذي عقد في الدوحة ونال عن حق اسم مؤتمر المصالحة العربية.
من جهة لأنني أعتقد أنه من دون تقدم حقيقي في العمل العربي المشترك، صيغه وقواعد عمله وآليات اتخاذ قراراته وتنفيذها، لن يكون لأي مجتمع من المجتمعات العربية أمل في مواجهة تحديات الحاضر ولا الوصول إلى أي هدف من أهدافه الأساسية الوطنية، ومن جهة ثانية لأنني أعتقد أيضا، أنه حتى إشعار آخر، لا يبدو أن هناك أملا في نشوء إطار بديل للجامعة العربية التي كرستها العقود الماضية، شئنا أم أبينا، إطارا لهذا العمل وميدانا للاستثمار فيه، بعد انحسار نظرية الثورة العربية القومية الشعبية.
وقد تضاربت الآراء في تقييم نتائج مؤتمر الدوحة. فبينما ظهر الزعماء العرب راضين عن ما حققوه، غلب على تعليقات المحللين السياسيين والصحفيين الشك، إن لم نقل خيبة الأمل الكاملة.
وليس من الصعب فهم أسباب هذا التباين الكبير في المواقف، لأن رضا الزعماء عن ما أنجزوا نابع من شعورهم بأنهم حققوا بالفعل جزءا مهما من الأهداف التي تبدو ذات أولوية في نظرهم، وهي وضع حد لحالة النزاع العنيف والانقسام الدائم التي تكاد تقضي على صدقيتهم كقيادات سياسية صالحة وتحرمهم من أي أمل في التنسيق في ما بينهم في مرحلة معقدة ومحفوفة بمخاطر كبيرة لتأمين الحد الأدنى من مصالحهم المشتركة، الأمنية والسياسية والإستراتيجية، في مواجهة خصومهم ونقادهم في الداخل الوطني والخارج الإقليمي والدولي معا.
وفي المقابل، تعكس خيبة أمل المحللين والمراقبين السياسيين حقيقة أنه في ما يتجاوز موضوع المصالحة الذي يعني الحكومات والنظم العربية وحدها، وربما يعبر عن تضامنها في وجه مطالب شعوبها المؤجلة أو المنتظرة، لم يخرج عن مؤتمر القمة أي قرار مؤثر في كل ما يتعلق بالمسائل الحارقة التي تهم الشعوب والمجتمعات.
فلا قرار واضحا في شأن التنمية ومواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للأزمة المالية، من بطالة وفقر وركود اقتصادي، ولا في شأن القضية الإستراتيجية الرئيسية التي تعنى بالأمن الوطني والإقليمي، أعني مواجهة تحدي الغطرسة الإسرائيلية واستمرار الاحتلال وحركة الاستيطان التي تعمق شك المجتمعات العربية بنفسها وقدراتها وتدمر ثقتها بمستقبلها، ولا في شأن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري الذي وعدت به الشعوب العربية، وأصبح الموضوع الرئيسي لوسائل الإعلام المحلية والدولية تحت ضغط إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في بداية القرن.
لا ينبغي التقليل من أهمية المصالحة العربية، تلك التي حدثت في مؤتمر الدوحة والتي ستحدث بعده، ولا يقلل الرأي العام العربي من أهيمتها، فهي تحمل بالنسبة له الأمل في احتمال أن ينجح العرب في وقف مسار التدهور القائم.
بيد أن المصالحة ليست غاية في ذاتها، وإنما هي بالنسبة للرأي العام وسيلة لتحقيق غايات أخرى. وهو يحاكمها أو يحكم عليها، سلبا أو إيجابا، انطلاقا مما حققته أو يمكن أن تحققه من أهداف.
فليست نتائج القمة واحدة إذا عنت المصالحة مثلا تفاهم الحكومات والنظم لدفن الإصلاح وتنظيم عملية التهميش والتحييد الكامل للشعوب وتكريس القطيعة معها، أو إذا كانت بالعكس من ذلك تعبيرا عن تفاهم الحكومات من أجل وضع خطة مشتركة وواضحة لمواجهة آثار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على البلاد العربية، وليست واحدة أيضا إذا جاءت المصالحة لتكريس السياسات الفاشلة أو لبلورة سياسات جديدة أكثر فعالية في مواجهة إسرائيل وسياسة الاستيطان.
والحال أنه يكفي لمعرفة قيمة ما حصل في مؤتمر القمة العربية الأخير التمعن في البيان الذي صدر عنها ومقارنته بما يصدر عن المؤتمرات الدولية الأخرى، وفي مقدمها مؤتمر الدول العشرين الذي عقد بعد يومين منه. فهو يكاد يخلو من أي لغة قرار ويتلخص في بنود متتالية لا هدف لها سوى الإعلان عن الرأي أو التذكير بالحيثيات والمبادئ الكبيرة والتأكيد على الانتماءات القومية والدينية.
وهذه أمثلة من العبارات التي تبدأ بها كل القرارات المتخذة: الإعلان عن: “التزامنا بالتضامن العربي”، “نشدد على تسوية الخلافات بالحوار”، “ندعو إلى مواصلة الجهود لتطوير منظومة العمل المشترك”، “نتوجه بتحية إكبار للشعب الفلسطيني”، “نعرب عن دعمنا الكامل للجهود العربية لإنهاء الانقسام الفلسطيني”، “نؤكد على عدم قبول التعطيل والمماطلة من قبل إسرائيل في تنفيذ استحقاقات السلام”.
“نؤكد على ضرورة التوصل إلى حل عادل للصراع في إطار الشرعية الدولية”، “نؤكد على تضامننا مع السودان، ورفضنا لقرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بشأن فخامة الرئيس عمر حسن أحمد البشير”، “نجدد التزامنا باحترام وحدة العراق وسيادته واستقلاله، وهويته العربية والإسلامية”.
“نعرب عن ترحيبنا بالاتفاق الذي تم بين الأخوة في الصومال”، “نعرب عن الأمل في أن تتجاوب الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع مبادرة دولة الإمارات العربية المتحدة والمساعي العربية لإيجاد حل لقضية الجزر الإماراتية الثلاث”، “نؤكد مجدداً على إدانتنا للإرهاب بجميع أشكاله”، “نطالب المجتمع الدولي العمل على إخلاء منطقة الشرق الأوسط من جميع أسلحة الدمار الشامل، وخاصة الأسلحة النووية”.
“نؤكد على الحق المشروع للدول العربية في السعي للحصول على التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية”، “نشيد بالجهود المتواصلة التي تبذلها الدول العربية من أجل تعميق ممارسات الإدارة الرشيدة، وتطبيق مبدأ الشفافية والمسؤولية، والمساءلة والمشاركة الشعبية”، “ندعو إلى تكثيف الحوار بين الثقافات والشعوب وإرساء ثقافة الانفتاح وقبول الآخر ودعم مبادئ التآخي والتسامح واحترام القيم الإنسانية”.
“نرحب بنتائج قرارات القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية التي عقدت في الكويت خلال الفترة من 19 ـ 20 يناير 2009م، ونؤكد عزمنا على متابعة وتنفيذ نتائجها بما يخدم العمل العربي الاقتصادي المشترك، ويسهم في تنمية المجتمعات العربية”، “نؤكد سعينا المتواصل لإنجاز منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى”.
“نطالب المجتمع الدولي العمل على تضافر الجهود وتعزيز التعاون الوثيق بين دوله والمشاركة الفاعلة في الجهود العالمية الرامية إلى تنفيذ الأهداف التنموية للألفية واستئصال الجوع والفقر”، “نؤكد على أهمية التنشئة الاجتماعية القويمة للطفل العربي”، “ندعو إلى إتاحة الفرص أمام الشباب لتمكينهم من المشاركة الفاعلة في حياة المجتمع”، “نشدد على إيلاء اللغة العربية اهتماما خاصا باعتبارها وعاء الفكر والثقافة العربيين ولكونها الحاضنة للتراث والثقافة والهوية”.
واضح أن بيان القمة العربية ينطوي على خطاب هو أقرب إلى خطاب مثقفين مهمومين بقضايا شعوبهم، ويقتصر واجبهم، في إطار مهمتهم الفكرية والعلمية، على التعبير عن آرائهم ومناشدة الرأي العام للضغط على السلطة وحث المسؤولين السياسيين على العمل في هذا الاتجاه أو ذاك، أي حسب المبادئ التي يتمسكون بها ويدافعون عنها. فهم يفتقرون للسلطة السياسية وللموارد المادية وللوسائل التي يحتاج إليه العمل الجمعي والسياسي.
لكن، لا يمكن لمثل هذا الخطاب أن يكون خطاب قادة سياسيين تقع في أيديهم كل الصلاحيات والموارد والوسائل اللازمة لاتخاذ قرارات عملية وتحديد آليات تنفيذها ومتابعتها.
فلا يدعو رجل السلطة -على سبيل المثال- إلى الحد من الفقر أو البطالة، وإنما عليه أن يقدم مشروعا عمليا في دائرة صلاحيته وسلطته، وهنا العالم العربي، للحد من الفقر، ويؤمن المبالغ الضرورية لذلك، ويحدد المؤسسات المسؤولة عن صرفها ومعايير هذا الصرف.
وفي هذا المجال كان القرار يفترض أن يخصص مؤتمر القمة مبلغا من المال لمواجهة مشكلة تفاقم الفقر وإفلاس الشركات الصغيرة وتعاظم البطالة في البلدان العربية، كما فعلت الدول الكبرى.
وبالمثل لا يدعو رجل السلطة إلى متابعة الإصلاح ولكنه يطبق برنامج إصلاح ملموس ويعلن ذلك للرأي العام. كما لا يدعو رجل السلطة أعداءه إلى عدم المماطلة والتسويف في تحقيق السلام ولكنه يتخذ الإجراءات التي تمنع إسرائيل من التعطيل والمماطلة.
فكان المطلوب مثلا في مثل هذه الحالة قرارات ذات مغزى إستراتيجي من نوع تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، أو تكوين هيئة للتنسيق العسكري على المستوى العربي، أو خطة لتحديث الجيوش العربية وتجديد سلاحها، حتى تدرك إسرائيل بالفعل أن المبادرة العربية المغدورة ليست الكلمة الأخيرة للعرب.
وكان من شأن هذه القرارات، حتى من دون التراجع عن اعتبار السلام خيارا إستراتيجيا، إشعار العالم الصناعي الحساس لاستقرار الشرق الأوسط، وإسرائيل على الخصوص، بأن شيئا جديدا يحصل، في المعسكر العربي، ويحتاج إلى إعادة التفكير.
ولا يقبل رجل السلطة أن يوقع على وثيقة اسمها وثيقة المصالحة، فالثقة لا تبنى بين الأطراف، ووحدة الصف لا يمكن ضمانها بالتوقيع على وثائق لا قيمة لها ولا مستقبل، ولكن من خلال الانخراط الفعلي في مشاريع تعاون مشتركة، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، تضع الشعوب في مسار تعاون حقيقي في ما بينها، وتؤكد للعالم أجمع مقدرة العرب على تجاوز الخلافات وبناء إرادة موحدة.
يكفي لإدراك ذلك، ومعرفة الفرق بين بيان رجال السياسة وبيان رجال الدعاية والإعلام والاستعراض، أن نقارن هذا الخطاب مع ما صدر عن مؤتمر قمة العشرين الذي عقد في الأسبوع نفسه في لندن. فلن نجد في بيان هذا المؤتمر ولا وثائقه أي تأكيد أو تنديد أو تشديد وتهديد، وإنما إجابات والتزامات بخطط ووسائل عمل تتجسد في مخصصات مالية محددة لإنجاز الأهداف المنشودة.
فأكثر ما يعبر عن مؤتمر العشرين ويعطي لانعقاده معنى هو تخصيصه خمسة آلاف مليار دولار لحفز الاقتصاد العالمي خلال سنتين، ورفع طاقة صندوق النقد الدولي إلى 1.1 تريليون دولار لمواجهة حاجات الدول الفقيرة، وزيادة حق السحب إلى 250 مليارا، والاتفاق على خطة بقيمة 250 مليار دولار على مدى عامين لدعم تدفقات التجارة العالمية، ونشر قوائم سوداء عن الملاذات الضريبية والبلدان التي لا تحترم معايير مكافحة تبييض الأموال، وتلك التي لا تتعاون في مسائل الجرائم المالية.
الإشراف على وكالات التصنيف: وهي التي اتهمت بأنها أخطأت في الحكم على المخاطر المرتبطة بالمنتوجات المضمونة ووضع حد لتضارب المصالح، إنشاء مجلس الرقابة المالية، وتحديد سقف مكافآت رؤساء الشركات المالية وربطه بالأداء.
هكذا على كل مسألة من مسائل الأجندة المطروحة للبحث بهدف مواجهة خطر الكساد العام، كان هناك جواب وتأمين موارد وتحديد جهة الاختصاص في العمل. والغاية أن تؤدي الإجراءات المنسقة إلى زيادة الإنتاج العالمي بنسبة 4% بحلول نهاية 2010″.
لماذا يغيب رجل السياسة في القمم العربية ولا يحضر إلا المعلم والموجه والمرشد الأخلاقي القومي أو الإنساني؟ وكيف يمكن لقادة لا تكاد توجد على سلطاتهم قيود أو حدود، أن يتصرفوا كرجال دعاية ودعوة وإيمان، وينسوا مسؤولياتهم الأساسية، وما يعطي لسلطتهم نفسها معناها وقيمتها، أعني الفعل المؤثر في المجتمع والتاريخ؟
وفي هذه الحالة ألا يفسر هذا الفهم الخاص للسياسة بوصفها وجاهة وحق احتكار الصدارة والدعاية والكلام هو السبب في العداوة المرة التي يظهرها الحكام العرب للمثقفين. إذ بالفعل، ماذا يبقى لهؤلاء من عمل إذا أصر المثقفون على إصدار البيانات نفسها التي يعتقد الزعماء السياسيون أن إصدارها يشكل جوهر مهمتهم، ومرتكز وجاهتهم، ومصدر شرعيتهم كرجال سلطة وحكم؟
لكن، بالمثل، ماذا يبقى للمثقفين من موقع إذا تحولت مؤتمرات القمم العربية إلى منابر أو منتديات للدعوة والتوجيه والتأديب والتعليم؟ للمثقف الكلمة، وللسياسي الفعل. وإذا لم يحترم كل منهما ميدان عمل الآخر وشروطه، أي حرية الكلمة وأسبقية الفعل، لن تكون هناك ثقافة ولا سياسة، وإنما فوضى شاملة، وتنازع على سلطة لم تعد تعي ذاتها ومسؤولياتها بين الجميع.
الجزيرة نت