الثابت والمتغير في السياسة الأميركية الجديدة
خالد غزال
تسمح الفترة الزمنية التي انقضت على تولي الرئيس الأميركي باراك أوباما السلطة برؤية التوجهات العامة لسياسته الداخلية والخارجية، وتعيين الاتجاهات الرئيسية التي تسير فيها، سواء على المستوى الدولي أم على صعيد الشرق الأوسط. أولى الملاحظات تتصل باستخدام لهجة جديدة في التعاطي قياسا بسلفه الرئيس بوش يتجلى في استخدام لغة منفتحة تسعى إلى تكريس ألوان من الانفتاح في التعامل مع المعضلات السائدة، وتسعى الى مقاربات عملية للقضايا الساخنة.
بعيداً عن التضخيم في رؤية التحولات الجارية في مقاربة الحلول، وبعيداً أيضاً عن الرؤية العدمية التي تذهب الى اعتبار الثوابت الأميركية متواصلة، يمكن رؤية حدود التحولات وحجمها ودلالاتها، كما يمكن تعيين الثوابت الأميركية والقيود التي تمنع تغييرات جذرية في الانقلاب عليها.
في المتغيرات السائرة في التبلور، لا يمكن إنكار كون الرئيس الأميركي وإدارته يسعيان الى سياسة احتواء الأضرار الفادحة التي تسببت فيها سياسة سلفه بوش الابن، واتباع استراتيجية الخروج من العقد التي وضعت نفسها فيها والتعاطي معها بعيدا عن التهديد والوعيد، واتخاذ القرارات غير المدروسة أو المتجاهلة لحقائق الواقع السياسية والتاريخية في الشرق الأوسط. ليس أمراً بسيطاً استخدام لغة تحاول أن تتقدم الى شعوب المنطقة بتواصل ومناقشات لمقاربة الحلول لمعضلات التدخل الاميركي في المنطقة، أو للقضايا التي تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة في ضرورة الوصول الى حلول لها. على هذا الصعيد، تأتي المقاربات تجاه العراق وتعيين فترة زمنية للخروج منه وإعادة السيادة الى أهله، مقروناً باعتراف بأخطاء ارتكبتها السياسة الاميركية السابقة، وهو أمر يسمح للأميركيين والعراقيين على السواء بتحديد علاقات سياسية تراعي مصالح الطرفين في المنطقة.
تفعيل حل الدولتين
على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، اتسمت التوجهات الأولى للسياسة الأميركية بوجهة تحاول من خلالها تجاوز التأييد الكلامي للسياسة السابقة في شأن الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية الذي أطلق شعارا، ومارست سياسة بوش ما يناقضها بالكامل في علاقتها بالشعب الفلسطيني وسلطته القائمة، وفي الانحياز الكامل للسياسة الإسرائيلية، وتغطية وتأييد حروبها ضد الشعب الفلسطيني ومعه سائر الشعوب العربية، وخصوصا الحرب الاسرائيلية في لبنان. ليس أمراً شكليا، حتى الآن، ما تسعى الإدارة الاميركية من خلاله الى مقاربة فعلية وحقيقة للصراع العربي الفلسطيني، وتعيين المبعوثين القادرين على تقديم رؤية ترى مجمل مصالح سائر الأطراف المتصارعة، على الأخص القول بضرورة تحقيق الدولتين الفلسطينية واليهودية.
أما فيما يتعلق بإيران ومشروعها النووي، فإن مبادرات الرئيس أوباما في تقديم لغة حوارية ومعتدلة ومنفتحة في الآن نفسه على النقاش مع إيران، بعيدا عن التهديد الكلامي الذي دأب الرئيس بوش على استخدامه، بما فيها التوجه برسالة لإقامة «علاقة صداقة معهم تقوم على الاحترام المتبادل»، فهي سياسة أقل ما يقال فيها إنها بدأت تقارب الحقيقي والشكلي في المعضلات الإيرانية عبر قراءة واقعية للقدرات الأميركية على الفعل، من دون تكرار المشهد العراقي قبل ست سنوات، ومن دون تورط أميركي قد يكون أشد إيلاما على الولايات المتحدة إذا ما سعت اليه من خلال التدخل العسكري لمنع إيران من امتلاك القدرات النووية.
ثوابت وقيود
لكن السياسة الأميركية تحمل من الثوابت الاستراتيجية، في المقابل، ما يجعل التحولات والتغيرات محكومة بسلسلة من القيود الثقيلة التي يصعب تجاوزها.
{الثابت الأول يتعلق بجماعات الضغط ، من الخطأ افتراض أن السياسة الاميركية تتحدد وفق رغبات الرئيس وميوله، بل إنّ هذه السياسة محكومة بجملة مصالح داخلية أولا، تتصل بالتكتلات والكارتلات ومصالح المجمعات العسكرية والاقتصادية المترابطة داخليا وخارجيا. في طليعة هذه المصالح يأتي النفط وضرورة تأمين حماية المصالح الاميركية في الوصول الى منابعه، والحفاظ على استمرار الهيمنة على موارده، إنتاجاً وتصنيعاً وتصديراً. تمثل استراتيجية الهيمنة على الثروات النفطية أهم العوامل التي تحدد سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بوجودها العسكري في المنطقة، وحدود الانسحاب أو التواجد، وهو أمر سيتحكم في طبيعة التواجد العسكري في العراق، بصرف النظر عن المعاهدة التي تنص على الانسحاب.
{الثابت الثاني يتصل بالموقف من الدولة الاسرائيلية والصراع العربي الاسرائيلي. من الوهم تصور الوصول الى تناقضات مع السياسة الاسرائيلية، أيا كان شكل الحكم السائد فيها، يمكن من خلالها حصول تحول جذري لصالح الضغط الاميركي الكبير لفرض حلول تتجاوب والمصالح الفلسطينية والعربية. في أي حال، تواجه الادارة الاميركية اليوم تحديات حقيقية في مقاربة معضلات الصراع العربي الاسرائيلي، من خلال وجود أكثر الحكومات تطرفاً في إسرائيل منذ قيامها قبل ستة عقود. فهل ستتمكن الادارة الاميركية من فرض ضغوط على إسرائيل وإجبارها على الدخول في مفاوضات وفق توجه إقامة الدولتين، على ما تقول به الادارة الاميركية الجديدة، وهل ستتمكن على الاقل من منع إسرائيل من إكمال سياسة الاستيطان المنفلتة من عقالها؟ ستكشف الفترة الزمنية المقبلة حدود التغير الاميركي في هذا المجال، وطبيعة الثوابت المستمرة من السياسات السابقة.
الانتشار النووي والإرهاب
على صعيد البرنامج النووي الإيراني، بعيداً عن اللغة الدبلوماسية التي كانت ضرورية لإطلالة الرئيس الجديد، ووجوب تقديم خطاب «غيرمنفّر» يتقدم به الى الشعب الإيراني، فإن المصالح الاميركية الثابتة لاتزال تقوم على منع إيران من احتلال موقع إقليمي يتجاوز ما هو مسموح به لدول الشرق الاوسط، وبما لا يمس بالمصالح الاميركية والاسرائيلية على السواء. في هذا المجال، لاتزال الولايات المتحدة ترفض حصول إيران على السلاح النووي، لكنها ابتعدت في الآن نفسه عن التهديد بضربة عسكرية، من دون أن تلغي هذا الاحتمال بالكامل. فهل تتبع الادارة الجديدة سياسة «العصا والجزرة» في التعامل مع المسألة الإيرانية؟ من الصعب التكهن حتى الآن بالوجهة الحاسمة لكيفية التعاطي مع إيران ومشروعها النووي.
{الثابت الثالث يتعلق بمحاربة الإرهاب متعدد الاشكال الذي يهدد أمن الولايات المتحدة. سبق للرئيس أوباما أن أعلن بوضوح نيته في محاربة الإرهاب بشدة، من دون تحديد أشكال المواجهة. استظلت سياسة الرئيس بوش منذ عقد من الزمن بحجة محاربة الإرهاب ذريعة للتدخل الاميركي العسكري في أكثر من مكان في العالم، وخصوصا في أفغانستان والعراق. وتحول شعار محاربة الإرهاب الى الممر الذي يتيح للسياسة الاميركية الوصول الى أي مكان في العالم، وتبرير أعمال عسكرية استباقية قبل وصولها الى قلب الولايات المتحدة. فهل ستكون الادارة الجديدة أمام مراجعة فعلية لما سمي مكافحة الإرهاب في عهد السياسة السابقة؟ لا تبدو ملامح هذه المراجعة واضحة حتى اليوم.
تحتاج السياسة الاميركية الى سياسة عربية موازية تقوم على استنهاض مقومات القوة عند العرب، وتوظيفها في «إرغام» الولايات المتحدة على تعديل سياستها السابقة. إنه التحدي العربي المطلوب والضاغط المطلوب تحققه على مستوى الدول العربية، وعلى مستوى استعادة الوحدة الفلسطينية. فالتحولات في الوضع العربي لصالح التضامن وتوحيد القوى والجهود يشكل أحد العوامل الضرورية والحاسمة في إمكان إدخال تغيرات حقيقة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
كاتب من لبنان