الطائفية والمسألة الوطنية
برهان غليون
وجهت الأدبيات السياسية العربية الحديثة، والقومية منها بشكل خاص، عناية خاصة للمشكلة الطائفية التي اعتبرتها أحد الأمراض الخطيرة الموروثة التي تحول دون تطور الفكرة الوطنية أو القومية أو كليهما في المجتمعات العربية.
ونظرت إلى الطائفيين، أي أولئك الذين يقدمون الولاءات للجماعة الدينية التي ينتمون إليها على الولاء للرابطة الوطنية أو القومية، على أنهم عقبة رئيسية أمام انتصار الشعوب العربية على الاستعمار، وحلفاء رئيسيون للسيطرة الأجنبية.
وهكذا ارتبط الموقف النظري في أدبياتنا السياسية من هذه القضية منذ ذلك الوقت بإشكالية التحرر من السيطرة الاستعمارية، وأصبحنا ننظر جميعا إلى أي تظاهر للطائفية في مجتمعاتنا على أنه ثمرة تدخلات أجنبية أو تعبير عن استمرار النفوذ الأجنبي.
فهذه السيطرة هي وحدها التي تستفيد، كما كنا نعتقد، من التأكيد على الانتماءات الطائفية التي هي انتماءات جزئية تضر الانتماء الوطني، ومن يمارسها يلعب، بوعي أو من دون وعي، لعبة الاستعمار الذي يريد أن يقسم الشعوب ليتمكن من حكمها.
وقد نجمت عن هذا الموقف النظري نزعتان عمليتان حكمتا ولا تزالان تحكمان سلوكنا تجاه الظواهر الطائفية التي تعرفها مجتمعاتنا.
النزعة الأولى احتقار الطائفية واعتبارها خطيئة ورفض التفكير فيها من حيث هي ظاهرة اجتماعية موجودة في مجتمعاتنا تستحق النظر وتستدعي المعالجة كجزء من المسألة الوطنية، وبصرف النظر عن تلاعب الاستعمار أو عدم تلاعبه بها.
وهو ما تجلى بشكل واضح في تفسير الحرب الأهلية اللبنانية لعام 1975، وما يتجلى اليوم في تفسير الحرب الأهلية العراقية.
فقد اعتبر أنصار الفكرة الوطنية والقومية اللبنانية، ومثلهم أنصار الفكرة الوطنية والقومية العربية العراقية، أن انفجار النزاع الطائفي هو ثمرة تلاعب خارجي بالطوائف المتآخية والموحدة حول المثل الوطنية (ومنه الحديث عن حرب الآخرين على الأراضي اللبنانية)، أو هو أداة من أدوات الإستراتيجية الاستعمارية الأميركية الرامية إلى نزع الهوية العربية عن العراق، وتقسيمه في الحالة العراقية.
والنزعة الثانية هي الحساسية المفرطة تجاه أي مظهر من مظاهر تضامن ما تحت القومي أو الوطني، والتشكيك فيه وإدانته، وفي مقدمه التضامنات الدينية التي أصبحت توصم بالطائفية في أي شكل ظهرت، وشجب من يمارسها.
وفي النتيجة أصبحت دراسة الطائفية جزءا من دراسة الظاهرة الاستعمارية أكثر مما هي جزء من دراسة مسألة بناء الدولة الوطنية، وصار من الصعب إثارتها في أي سياق آخر غير سياق العلاقة مع الاستعمار من دون المخاطرة بالاتهام بإثارة النعرات الطائفية والعمل إلى جانب إستراتيجية القوى الأجنبية الطامعة في السيطرة على البلاد العربية.
وبقدر ما ساهم هذا الموقف في طمس التعددية المذهبية والإثنية التي تميز المجتمعات العربية، مثلها مثل جميع مجتمعات العالم من دون استثناء، وربما في تعزيز الشعور بهشاشة اللحمة الوطنية، دفع العرب، على مستوى القيادات السياسية والإنسان العادي معا، إلى القبول بحياة مزدوجة.
في هذه الحياة يعلن الفرد تبرؤه اليومي من هذه الولاءات في الوقت الذي لا يتورع فيه عن ممارستها، أو لا يجد، مع غياب آليات التضامن الاجتماعي المدني الحقيقي، بديلا عنها في تأمين مطالب التضامن الطبيعي والضروري عادة لتأمين شروط الحياة أو تحسينها.
وما كان من الممكن أن ينتج عن ذلك إلا وطنيات مغشوشة تعاني من انشقاق عميق في وعيها لذاتها ومن حساسية مفرطة ومرضية في كل ما يتعلق بمظاهر وجودها الخارجية، تتساهل إلى درجة الخيانة على مستوى الممارسة العملية، وتغالي إلى حد التكفير على مستوى الخطاب والتمسك اللفظي بالمبادئ النظرية.
بل إن النزوع إلى التكفير والاتهام بالخيانة والخروج على الإجماع يزدادان مع تراجع حقيقة الوطنية، وابتعاد الممارسة العملية بشكل أكبر عن المبادئ والاعتقادات والشعارات.
والنتيجة الخوف المتفاقم من تعريض هذه الممارسات والمبادئ معا لأي فحص أو نقد، والنظر إلى ما يشبه ذلك على أنه تشكيك مرفوض بوجود الوطنية نفسها أو تهديد لها لا نقد لسلوكات قادة أو مجموعات تضر صدقيتها.
وهكذا بدل التفكير في الواقع ومعالجة فساده، طغت على سلوكنا آليات الكبت والتغطية على الواقع وتزيينه وصبغه بصبغة وطنية مصطنعة من جهة، وتصنيم المبادئ الوطنية وتحويلها إلى تمائم وأحراز بدل أن تكون قيما توجه الأفراد في سلوكهم العمومي أو معايير يقاس عليها سلوك الأفراد ووفاؤهم أو عدم وفائهم بالتزاماتهم الجماعية من جهة ثانية.
لم تغير التوترات والنزاعات بل والحروب الداخلية العديدة، المرتبطة بشكل أو آخر بالانقسامات الطائفية أو المذهبية، التي شهدتها العديد من الأقطار العربية في العقود الطويلة بعد الاستقلال، من هذا الموقف كثيرا وربما زادت في ترسيخه.
فأصبحنا نقبل من دون تردد ولا تساؤل التعايش مع مفهوم رث للوطنية نكتفي فيه بلفظ الشهادة (الوطنية والقومية) حتى نبرر لأنفسنا، بعد ذلك، عمل ما نشاء، من دون رادع ولا مبدأ ولا التزام.
هكذا تحولت “مواثيقنا” الوطنية، و “مواثيقنا” القومية المتوجة لها، إلى أقنعة يخفي وراءها كل فرد أو فريق ركضه وراء مصالحه الخاصة من دون أي اعتبار لمصالح الآخرين، وتهربه من أي التزام جماعي أو مسؤولية مدنية أو سياسية.
وأصبحنا نقبل، في الوقت نفسه، ومن دون أي إحساس بالتناقض، أن نكون وطنيين وطائفيين، قوميين وقطريين، مقاومين وباحثين عن صفقات على حساب المصالح الجماعية، مع هذه الدولة أو تلك.
والنتيجة فوضى شاملة في الفكرة الوطنية والقومية، وغياب أي مساءلة أخلاقية، ليس عند النخب القائدة فحسب ولكن عند الرأي العام أيضا.
باختصار لم يساهم شجب الطائفية وإدانتها والتشهير بها، باعتبارها أحد أدوات الإستراتيجية الاستعمارية، كما درجنا علي القول منذ عقود، في استئصال الطائفية، بل ولا في وقف النزاعات المرتبطة بها أو المستمدة منها.
كل ما حصل هو أن الآفة، التي نظرنا إليها كإستراتيجية استعمارية تهدف إلى تمزيق المجتمعات العربية، استمرت تتطور وتختمر بعد خروج الاستعمار، وتحولت إلى دمل نجهل أسبابه ونرفض الاعتراف بوجوده في الوقت نفسه، يعمل من تحت غطاء الوطنية، ويحولها إلى قواقع فارغة لا روح فيها ولا حياة.
ومع تفكك الحركات الوطنية نفسها وانهيار البرنامج الوطني لصالح سياسات فئوية تخدم مصالح النخب الحاكمة فحسب، سوف يتأكد، يوما بعد يوم، انحسار الروح الوطنية، وانهيار الإستراتيجية المرتبطة بها، وبالتالي عودة الطائفية لتشكل الظاهرة الأبرز في حياة المجتمعات السياسية.
وفي الكثير من الأقطار العربية وغير العربية، كما كان عليه الحال في البلقان والعديد من بلدان أفريقيا وآسيا، تكاد الطائفية أن تكون الإطار الأول المستخدم للتعبير عن مصالح جماعية، ومنبع الإستراتيجيات الرئيسية التي تصوغها القوى الطامحة إلى السيطرة أو لرسم أجندات الدول التي تسيطر عليها والتي تحولت إلى دول معدومة الهوية.
وقد انعكس هذا الصعود في الظاهرة الطائفية على النظرية الاجتماعية التي تنزع اليوم إلى إيلاء وزن أكبر لمفهوم العصبية والتمايزات الثقافية والإثنية، وتركز على مسائل الهوية أكثر بكثير مما تؤكد على القوانين العمومية والمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالرأسمالية والعلمانية والتنوير والقوى التحديثية.
من هنا يشكل انتزاع الطائفية من إشكالية الهيمنة الاستعمارية وإعادة فهمها في إطار إشكالية بناء الوطنية المحلية، أي الدولة الحديثة التي تستمد السلطة فيها شرعيتها من الجماعة السياسية بأكملها ومن كل فرد فيها، مدخلا رئيسيا لفهم أولويات عمل الطائفية في مجتمعاتنا، ومن وراء ذلك مأزق الوطنيات العربية التي تجد نفسها اليوم في طريق مسدودة.
بينما دخل بعضها في مرحلة التفكك والانفجار عبر الحروب الطائفية التي برهنت عليها تجربة الأعوام الماضية إلى أي حد يصعب ترميم آثارها التخريبية.
وربما شكل هذا مدخلا رئيسيا للكشف عن الأمراض التي تعاني منها الوطنيات التي ولدت من رحم الاستعمار وفي حضن الحركات الوطنية.
فمن حيث هي تقديم ولاءات زعماء الطوائف والإثنيات على الولاء للدولة، تشكل الطائفية الخطر الأول على وجود الوطنية، أي على وجود رابطة سياسية جامعة تتجاوز الانتماءات الفرعية، الدينية والأقوامية، وتؤسس لتضامن شامل يوحد بين جميع الأفراد المنتسبين للدولة، ويجعل منهم كتلة متفاعلة ومتكافلة، قادرة على أن تشكل ذاتا سياسية واحدة، وأن تصبح، عبر الدولة السيدة، فاعلا مستقلا في الفضاء الجيوسياسي العالمي.
وليس من الممكن للدولة السيدة أن تقوم من دون إرادة عامة، ولا لمثل هذه الإرادة أن تستمر من دون مفهوم المصلحة أو المصالح العامة بوصفها الإطار الذي يرسم حدود المصالح الخاصة ويضمن استمرارها وتفتحها على قاعدة الحفاظ على وحدة المجموع واتساق حركته واستقراره.
وعلى رأس هذه المصالح العامة وفي مقدمها، التي لا تتأسس مصالح خاصة اجتماعية من دون تعيينها واحترامها، يقف ضمان الحقوق واحترامها، ومن ضمن ذلك الاعتراف بأولوية منطق الحق ومعرفة مفهومه الذي تستند إليه وتستمد منه القوانين التي تؤسس النظام الاجتماعي وتضبط حركته.
فالحق مصلحة عامة كبرى، ومن دون الاعتراف بحقوق أساسية، أي طبيعية، مقدسة، وثابتة يشكل احترامها وضمانها مصدر شرعية أي سلطة، لا يمكن قيام أي نظام اجتماعي.
وقاعدة المساواة في الحقوق بين الأفراد، بصرف النظر عن جنسهم ودينهم ومذهبهم، هي اليوم القاعدة الوحيدة التي تشكل أساس مفهوم الحق ومصدر شرعيته.
ولا يستطيع أي نظام اجتماعي أن يحظى بالحد الأدنى من الانسجام والتفاعل والتعايش والاستقرار والوحدة، مما لا غنى عنه لقيام أي حياة اقتصادية واجتماعية وثقافية طبيعية، وإحلال منطق السلام والتعاون والاستثمار والإنتاج والإبداع محل منطق التنازع والاقتتال والإقصاء المتبادل، وربما التطهير العرقي.
وبالمثل، ليس لأي دولة أن تحظى بالاعتراف والتقدير، وهو شرط تأهيلها وتحويلها إلى طرف مسموع ومشارك في منظومة الدول العالمية، ما لم يكن الحق عندهما وفيهما مقدم على القوة.
والخلاصة، بعكس ما يؤكده الكثير من الباحثين وأنصار النظريات الوضعية التي تربط بين الطائفية والخصائص الاجتماعية الموروثة، ليست التعددية الدينية او الإثنية هي المسؤولة عما يحصل من نزاعات داخلية، لا في البلاد العربية ولا في غيرها من البلدان التي عاشت ولا تزال الظاهرة نفسها، وإنما تناقضات الحركة الوطنية والقومية نفسها، وافتقار الدولة أو الدول التي استندت إليهما لمبدأ الحق، أو اقتصارها على مفاهيم للحق بدائية، تمييزية أو استعبادية.
ولا مخرج من الطائفية والنزاعات التي تولدها بصورة متكررة إلا بتصحيح مفهوم الوطنية والقومية، والتمييز بين الرابطة السياسية الجامعة والمستندة إلى المساواة في الحقوق والواجبات، والروابط المدنية الدينية أو الإثنية، وإعادة تأهيل الدولة لتصبح دولة مواطنيها بصرف النظر عن انتماءاتهم وأصولهم، أي دولة الحق والقانون.
وهو ما يعني تقديم منطق السياسة فيها على منطق المجتمع المدني بتلويناته وانتماءاته المختلفة والمتعددة، وتحرير هذا المجتمع المدني أيضا من سرطان تدخل الدولة.
باختصار، إن محاربة الطائفية لا تتحقق من دون إعادة بناء الوطنية داخل الأقطار العربية، وربما، من ورائها، إعاد بناء مفهوم الوطنية العربية نفسها، أي بناء الدولة القانونية.
أما المحاصصة السياسية والاقتصادية والاقتسام العادل للثروة والسلطة، كما يطرحها أنصار الفدراليات الطائفية أو الديمقراطيات التوافقية، فلن تكون نتيجتها سوى مزيد من الشروخ الطائفية وتسعير أكثر للنزاعات الداخلية وتأبيدها.
____________
كاتب سوري