صفحات مختارة

القبيلة… وعَلَمُها في نيويورك

null


رياض نجيب الريّس

في أي عالم سنعيش إذا كانت حتمية غياب الفكر القومي ستؤدي بنا إلى مصير عربي مشرذم معروف الأبعاد سلفاً؟ وبعيداً عن أي تضليل ليس هناك من بديل للأمة سوى القبيلة.

إذا ابتعدنا قليلاً عن حروب قبائل اليمن أو قبائل العراق مع قبائل ملوك الجزيرة العربية وسلاطينها وأمرائها وشيوخها تحت رايات الوحدة أو الانفصال، وإذا تلفتنا حولنا، من دول البلقان إلى كندا وتركيا وسري لانكا وكينيا، لوجدنا أن القبائل قد عادت لتؤكد وجودها، بدعم وتأييد من أصحاب الدعوة إلى قيم الإخاء والمساواة العالمية. صحيح أن الديموقراطيات الغربية مُحرجة بسبب التطهير العرقي الذي وقع خلال السنوات العشرين الأخيرة في أنحاء متعددة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، إلاّ أنها رضخت لما حدث ويحدث يومياً من تقسيم قبلي وإثني.

في أمكنة أخرى، قد يكون من المحرج أن تقول لمواطن من مقاطعة كيبيك مثلاً إنه كندي، أو لمواطن آخر من التاميل إنه سري لانكي، أو لكردي من تركيا إنه تركي. لقد أصبح من المحرج أن نقول للبناني أو عراقي اليوم إنه عربي. والسبب في الدرجة الأولى أن حقوق الأقليات قد انتشرت في العالم وخدعت في انتشارها القبائل “الرعاة”، فظنت نفسها أنها أصبحت أمماً.

لم تعد هناك اليوم أرض صغيرة إلى درجة أنه لا يمكن أن تكون دولة. وبالطبع، فهي دول مستقلة بمعنى من معاني الكلمة. فسياسياً وعسكرياً هي دول عاجزة في أي ظرف من الظروف، من غير حماية خارجية. وهذه الدول تقايض عادة الاعتماد على مصدر اقتصادي واحد (كالنفط أو الغاز) بالاعتماد على حماية دولة أو مجموعة دول أكبر من طريق رهن سيادتها الاقتصادية الحقيقية بسيادة سياسية وهمية تمنحها عادة الدول الحامية.

لذا، إذا أرادت أي قبيلة اليوم، أن ترفع علَمها على سارية مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وأن تنال كل المنافع الجانبية لعمل كهذا (نشيد وطني، علم بألوان متعددة، شركة طيران تحمل اسمها، سفارات في الخارج) فلا شيء يمنعها من ذلك. بل إن حظها في أن تنال اعترافاً من الدول الأعضاء الاخرى في الأمم المتحدة قد أصبح أوفر بكثير اليوم مما كان قبل انهيار النظام العالمي القديم.

قبائل الجزيرة العربية، وقبائل الهلال الخصيب، وقبائل المغرب العربي من عرب وبربر، لا تحتاج إلى عون في هذا الموضوع. فقد كانت سباقة، منذ نشوء الأمم المتحدة، إلى رفع أعلامها. ومن بين هذه القبائل – الدول في الجزيرة العربية ما هي أقرب بعدد سكانها إلى جزر صغيرة، منها إلى الدول الحقيقية في العالم المعاصر. ثمة اعذار يعطيها عادة رواد هذه الدول الصغيرة، أن سكان تلك الأراضي المعنية، يشكلون أمة منذ بدء الزمن، كقبيلة لها تشكيلها الإثني الخاص ولغتها الخاصة، وربما دينها ومذهبها، لا تستطيع أن تعيش تحت حكم الغرباء. لذلك، فحق تقرير المصير لهذه القبائل، يعني حقها في قيام دولة يتطابق وجودها ويلتقي مع مفهوم الأمة. وإذا نجحت القبائل العربية، في أن تنشئ إحدى وعشرين دولة، وهي ذات عِرْق واحد (وإن تعددت ألوانها) ولغة واحدة (وإن تعددت لهجاتها)، ودين واحد (وإن تعددت مذاهبه) وحضارة واحدة (وإن تعدد انتماؤها)، وتاريخ واحد (وإن اختُلف على تفاصيله) فكم بالحري قبائل شتى في أراضٍ شتى وألسن شتى!

لذلك فنسيان التاريخ عامل أساسي في بناء الأمم، على حد قول المفكر الفرنسي أرنست رينان قبل أكثر من مئة سنة. فالإيمان القومي الذي عبّر عنه جيوسيبي مازيني، أحد بناة الوحدة الإيطالية في القرن التاسع عشر، وتلخص في أن كل أمة يجب أن تكوّن دولة، وأنه يجب أن تكون هناك دولة واحدة فقط لكل أمة، لا يزال أمراً غير عملي في المنظورين الإثني واللغوي. فنجحت القبيلة، حين سقطت الأمة.

ليس في العالم اليوم أكثر من مجموعة صغيرة من الدول يمكن أن تشكل تجانساً إثنياً أو لغوياً، ليس في وسع أي منها أن تشكل “أمة” على رغم ادعائها ذلك. إن التوزيع الجغرافي للجنس البشري، أقدم بكثير من فكرة الأمة ذات المواصفات الإثنية ـ اللغوية. والتطورات الاقتصادية في العالم المعاصر اليوم، وما تسببه من تحريك للمجموعات البشرية، تنسف باستمرار التجانس اللغوي والتناسق العِرقي. وتالياً لا يمكن تفادي التعددية العِرقية واللغوية في الكثير من البلدان. اللهم، إلاّ إذا جرى اللجوء إلى العنف وإلى التطهير العِرقي وإلى التهجير القسري. أي بكلام آخر إلى الإكراه.

إن إضافة مجموعة أخرى من الدول القبلية الصغيرة إلى هيئة الأمم المتحدة، لن تعطي هذه الدول أي مقاليد للسيطرة على أقدارها أكثر مما كان لها في الماضي، ومن قبل أن تصبح دولاً مستقلة. ولن تحل أو تلغى مشاكلها الثقافية أو اللغوية، فضلاً عن مشاكلها السياسية أو الاقتصادية. فإذا كانت الدولة – القبيلة هي دولة المستقبل في النظام العالمي الجديد، فإن الريادة ستبقى لقبائل العالم العربي.

•••

نحن الآن في بداية قرن جديد، وسط أزمة فكر حقيقية في العالم العربي، إذ تحاصره الردة الأصولية الدينية، والنزعات العشائرية والشعور بالإحباط واليأس لدى الجماهير، فكيف يمكن تجديد فكرنا القومي وتحديثه لمواكبة المرحلة المقبلة الآتية إلينا بهجمة كبيرة، والتي تهدد مصيرنا العربي لزمن طويل.

ولم يعد للفكر القومي من رواسب تحمل اليوم أشياء من نكهة الماضي. أعتقد أن الزمن تجاوز النقاش في أصل لبنان مثلاً، أهو عربي أم فينيقي؟ وفي أصل سوريا أهي كنعانية أم آرامية؟ هذا زمن ولًَّى. والفكر العربي القومي لا يقرّ غزو الدول بعضها بعضاً لإعلان الوحدة العربية. إن ما نسعى إليه هو أن يكون فكراً جامعاً في القرن الحادي والعشرين، وخصوصاً بعدما انهارت الإيديولوجية، بدءاً بسقوط الاتحاد السوفياتي بشكل مدوٍّ بعد سبعين سنة من التجربة. مما يذكرنا بالآلهة في الجاهلية التي كانت تصنع من التمر، فإذا أمطرت أو جاع الناس، لم يبقَ منها شيء. لذلك لم يعد في الإمكان أن تكون دوغمائياً، أي أن تنتمي إلى عقيدة تفترض أنها تجيبك عن كل الأسئلة المطروحة.

في الحقيقة لم يعد هناك فكر قومي، بالمعنى التقليدي، مؤهل لمنع سقوط الأمة العربية مجدداً. هناك مصلحة في أن يلتقي العرب وأن يجدوا أرضية مشتركة لمنطق واحد في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية حيث الحدود والمصالح واللغة والتاريخ والحضارة، كلها مشتركة. ولا علاقة لذلك بالوحدات السياسية، بل بالمنطق الفكري الذي تتعامل به. إن أي موقف في أي مكان عربي يؤثر على الآخر.

إن البحث عن فكر قومي يشكل أرضاً مشتركة بين كل أجزاء العالم العربي. وأهم مكونات هذا الفكر القومي أن يصرّ على أمرين: المضمون الديموقراطي، والتعددية الثقافية. ومن طريق هذين المضمونين نتخلص من اتهام الفكر القومي بالديكتاتورية، ولا نعود في حاجة إلى فكرة البطل سواء أكان صلاح الدين الأيوبي أم جمال عبد الناصر. كذلك سيفشل الفكر القومي إن لم يقم على ثلاثة أقانيم هي: الإيمان المطلق بالديموقراطية – والسعي إليها بالثقافة – والدعوة إلى التعددية، بما يعني حق الاختلاف مع الاقتناع بقبول الواحد بالآخر كما هو.

لقد قمعت الأنظمة السياسية في العالم العربي كل حركة ديموقراطية علمانية أو سياسية وكل رأي يخالف رأيها. وشجعت الفكر الديني على الوقوف في وجه الفكر الديموقراطي. وسعت وراء فكرة المستبدّ العادل. كيف يمكن أن يكون المرء عادلاً ومستبداً في آن واحد؟ لنضع الجميع ضمن إطار ديموقراطي واحد لا يُسمح لأحد بالخروج عنه. يجب أن ندرب الناس على أن يختلفوا في الفكر والرأي وأن يتعايشوا ضمن الاختلاف، وأن يتوصلوا إلى حلّ خلافاتهم الفكرية عبر الاقتراع لا بالسلاح. إن الديموقراطية هي من الأقانيم المقدسة في أي فكر قومي. وهي علم ومران نكتسبه اكتساباً، ولا تقوم مصالحنا إلاّ به.

•••

وسط أجواء ديموقراطية يمكن طرح مفاهيم اقتصادية. فلو دعونا الآن إلى وحدة اقتصادية أو سوق مشتركة، فلن يستجيب أحد دون وجود أرضية سياسية مشتركة أو نظام سياسي مشابه. في أوروبا تحققت السوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي اليوم) لوجود أنظمة سياسية برلمانية – ديموقراطية متشابهة بين الدول الأوروبية. على المفهوم الديموقراطي أن يكون واحدا.

وما لم نتفق على الأرضية السياسية، فأي طرح اقتصادي سيتحول عملية بلع من الأكبر والأقوى للأصغر والأضعف. بينما لو طبّق أي مشروع اقتصادي منذ عشرين سنة لاختلف الوضع حالياً. إن دول الخليج ذات الأنظمة المتشابهة، لم تستطع حتى الآن توحيد عملاتها أو التعرفة الجمركية مثلاً، وهي الدول المتشابهة جداً في الأنظمة العشائرية الملكية والتاريخ والجغرافيا. لكنها متخلفة في الفهم السياسي ولا تعرف الممارسة الديموقراطية.

لقد أصيب الجميع بما يسمى “تعب المعادن” وخصوصاً في الجيل الذي تربى في وهج الحركات القومية والانطلاقات الحزبية. لقد عاد الاستعمار إلى الوطن العربي بجهاته الأربع وبأبشع صوره، وعدنا إلى نقطة البداية في مطلع القرن العشرين، ملغين مئة سنة من النضال في سبيل الاستقلال والتحرر والوحدة والتنمية. المواطن العربي قابل للاشتعال والانفجار في أية لحظة، لكن المشكلة في عدم وجود بدائل للارتداد. البحر أمامك والعدو وراءك، وهو مجهول، غير محدد. من هو عدوك؟ إسرائيل أم تركيا أم إيران؟ من هو العدو في مصر والجزائر مثلاً؟ من هو عدو السعودية الآن؟ إن المؤسسة الوهابية التي أعطت النظام السعودي الشرعية، هي الآن عدو له، لأنها ترى أن النظام ليس إسلامياً كفاية. أين العدو بالمعنى الوطني التوجيهي؟ إن أفدح ما أصابنا من خلل كان تهميش دور النخب الديموقراطية والعلمانية في العالم العربي، وتدجينها لمصلحة الأنظمة القمعية والعشائرية العربية.

•••

إن العنف القبلي ليس بالأمر الجديد. وقد مارسه العرب منذ الجاهلية حتى الحرب اللبنانية. والعنف الذي يمارسه الصرب اليوم ضد المسلمين في البوسنة (والكروات ضد الصرب، والمسلمون ضد هؤلاء واولئك معاً) ما هو إلاّ مظهر من مظاهر الانهيار الاجتماعي في السلوك البشري. فعندما تنهار أنظمة الحكم المدنية، تعود القبلية بوجهها القاسي، لتملأ الفراغ بجثث آلاف الضحايا في مذابح تشكل انحداراً في الدورة الحضارية للتاريخ.

إن أي متابع لأحداث الحروب القبلية الدائرة في العالم اليوم، يدرك أن هناك مقياساً واحداً لدفع العالم الغربي إلى التدخل فيها. هذا المقياس هو أن أي حرب قبلية، يمكن احتواؤها، ما دامت لا تمس دول الجوار ولا تشكل خطراً عليها. ومهما بلغت بشاعة هذه الحرب القبلية أو شراستها، فإن المجتمع الدولي غير معني بها، ما دامت أيضاً لا تشكل تهديداً لمصالح الغرب. أما إذا كانت دول الجوار هذه، تقع داخل دائرة المصالح الغربية المباشرة التي يمكن بدورها أن تشعل فتيلاً آخر، فإنه يمكن “الدول العظمى” أن ترسل رجال مطافئها إليها منعاً لانتشار النار في هشيم تهمها حمايته.

في هذا العصر القبلي، الذي يتقن العرب تاريخياً اللعب على أوتاره، هناك قول مأثور يردده أهل الجزيرة العربية: “كن أسداً أو ثعلباً مطيعاً”. والعرب في النظام العالمي الجديد، لا يستطيعون أن يكونوا أسوداً، في غابة لا يعرفون معالمها وفي مناخ لم يجربوا العيش فيه من قبل. ولكن هل هم قادرون على أن يكونوا ثعالب مطيعة؟

ذلك يتوقف على مدى إدراك العرب أن دورهم في الصراعات القبلية العالمية، يتوقف في الدرجة الأولى على وقف النزاعات في ما بينهم. فلا يغرّنهم الاتكال على حماية الغرب لهم، وكذلك الاعتقاد أن له مصالح حيوية عندهم، ستدفعه دائماً إلى التدخل لمصلحتهم، في مجال اندلاع أي حرب إقليمية مجاورة إلى داخل حدودهم. فلا أحد غيرهم يملك حلولاً لصراعاتهم. إن العون الخارجي الذي ينتظرونه، وقد أفسدتهم في ذلك تجربة “عاصفة الصحراء”، لن يتكرر، والعالم الخارجي بدوله العظمى الباقية ومصالحه المتشعبة، لن يتحمل وحده كلفة إحلال السلام في الربوع العربية، الخليجية منها والمشرقية والمغربية كذلك.

ولأن العرب لا يملكون حتى الآن، آلية لمنع الصراعات وإدارتها وحلّها، خارج عجز جامعة الدول العربية القديم والمتأصل، فإن نصيبهم من الحروب القبلية الوافدة لن يكون قليلاً. فمن صراع “حماس” مع “فتح” وأول صدام قبلي في الداخل الفلسطيني، إلى صراع العشائر العراقية بأطيافها المتعددة مع الحكومة المركزية والقوات الأميركية في العراق، إلى صراع “الحوثيين” مع الحكومة اليمنية في الشمال والانفصاليين في الجنوب، إلى حرب قبائل الصومال عبر القرن الإفريقي حتى أول حرب عربية – عربية ممكنة بعد غزو العراق للكويت، سيبقى العرب في تيه سياسي ما داموا لا يملكون نظاماً عربياً جديداً، بديلاً من النظام العربي القديم الذي نُحر في حرب الخليج وبعدها في غزو أميركا للعراق.

فمن غير نظام عربي جديد، يأخذ في الحسبان كل المستجدات في داخل الترتيبات العربية، وكل المتغيرات في الساحة الدولية، وبجرأة تواجه الواقع المر الذي يعيشه كل بلد عربي، فيسمي الأمور بأسمائها، لن تكون هناك رؤية حقيقية لأي عالم عربي يواجه إطلالة القرن الحادي والعشرين. فإمكانات قيام حروب متواصلة ومدمـــــرة، أكانت حروباً عربية – عربية، أم عربية – فارسية، أم عربية – كردية، أم عربية – تركية، أم حتى عربية – إسرائيلية، ليست من قبيل التهويل في المقبل من الأيام.

والأيام الآتية، قد لا تحمل إلاّ سؤالاً واحداً: قل لي من أي قبيلة أنت، أقل لك مَنْ ستحارب.

(•) نص قدم في دمشق خلال “مؤتمر تجديد الفكر القومي والمصير العربي” (15 – 20 نيسان 2008)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى