خبرة الماضي لفهم الحاضر
أمبيرتو إيكو
في بداية شهر مارس المنصرم، قرأت مقالاً قصيراً حول استطلاع أجري في المملكة المتحدة. ويقول المقال إن ربع الشعب الإنجليزي يظن أن “وينستون تشرشل” هو شخص من نسج الخيال، وكذلك “المهاتما غاندي” و”تشارلز ديكنز”. من جهة أخرى، يقول العديد من الذين أجريت المقابلة معهم، والذين لم يحصَ عددهم بشكل دقيق، إن كلاً من “شيرلوك هولمز” و”روبن هود” و”إليانور ريغبي” (التي تُذكر في أغنية البيتلز) شخصيات وُجدت فعلاً.
كان ردّ فعلي الأول على ما قرأت ألا أتفاجأ. ففي النهاية، لقد تطورت الأمور. ولو قابل المستفتون سكان لندن في أيام ديكنز، أقله أولئك الذين صوّرهم “غوستاف دور” في لوحاته التي تعكس الحياة البائسة في لندن آنذاك، لما كان ثلاثة أرباعهم على الأقل، وهم قذرون وجياع ويعاملون بوحشية، ليعرفوا من هو شكسبير.
ولا يفاجئني أن يظن الكثيرون أن “هولمز” و”روبن هود” هما شخصيتان واقعيتان. ففي النهاية، ثمة “صناعة” هولمز، ويقوم الناس بزيارة الشقة في شارع بايكر، حيث من المفترض أن يكون المحقق الخيالي قد عاش فيها. وبعد، فإن الشخص الذي أوحى بأسطورة “روبن هود” موجود في الواقع، رغم أنه يبدو من نسج الخيال في أيامنا هذه. ففي الحقبة الإقطاعيّة، كانوا يسرقون من الأغنياء ليعطوا الفقراء، أما في اقتصاد السوق الحديث، فهم يسرقون من الفقراء ليعطوا الأغنياء. من جهة أخرى، كنت أظن عندما كنت طفلاً أن “بافالو بيل” هو شخصية وهميّة، حتى قال لي أبي إن راعي البقر العظيم لم يكن موجوداً فحسب، بل إنه شخصياً رأى “بيل” بأم عينه على المسرح، عندما مرّ السيرك في بلدتنا، قادماً من الغرب الأميركي الضاري والأسطوري، وصولا إلى مقاطعات بييمونتي الإيطالية.
صحيح أنه حتى الأفكار عن الماضي القريب مشوشة. ويمكن ملاحظة ذلك عند طرح أسئلة معينة على الشباب. هنا في إيطاليا، قرأت عن امتحانات أظهرت أن بعض التلامذة يظنون أن رئيس الوزراء السابق “ألدو مورو” (الذي اغتيل عام 1978)، كان عضواً في “الألوية الحمراء” (وهي المجموعة الإرهابية التي اغتالته)، وأن “ألسيدي دي غاسبيري”، وهو سياسي وأحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، كان قائداً فاشياً! ويمكن القول إنها أمور مرّ عليها الزمن، فلمَ يتوجب على من يبلغ من العمر 18 سنة، أن يعرف من كان يتبوأ السلطة 50 سنة قبل ولادته.
كانت المدارس الفاشيّة في تلك الحقبة تطبع معلومات مماثلة في ذهننا، لذا، في عمر العاشرة، كنت أعرف أن رئيس الوزراء الذي أوصل “بينيتو موسولوني” إلى الحكم قبل 20 سنة خلال الزحف العسكري إلى روما، كان “لويدجي فاكتا”. وعندما بلغت الثامنة عشرة من العمر، كنت مطلعاً على السياسيين الإيطاليين أمثال “أوربانو راتازي” و”فرانشيسكو كريسبي”. وكانت هذه الشخصيات تعود إلى القرن السابق.
الحقيقة هي أن علاقتنا مع الماضي قد تغيرت. مرّ وقت شعرنا فيه بانجذاب كبير إلى الماضي لأن المعلومات عن الحاضر كانت شحيحة، فالصحف القديمة كانت تقول كل ما لديها في 8 صفحات. وبفضل ظاهرة وسائل الإعلام الواسعة الانتشار في مرحلتنا الحالية، يمكن الولوج إلى كمية هائلة من المعلومات عن الحاضر. وإذا تصفحت الإنترنت، يمكنني أن أعثر على ملايين من الأخبار حول أحداث تحصل في هذه اللحظة (حتى أكثر الأحداث تفاهةً). وتأتينا وسائل الإعلام بالمعلومات حول الماضي من خلال هوليوود والصناعات ذات الصلة، على غرار الروايات عن أعمال أباطرة الرومان والملك الإنكليزي “ريتشارد قلب الأسد” من القرون الوسطى والمعارك خلال الحرب العالميّة الأولى، وهي تترافق مع دفق من المعلومات عن الحاضر. وبالتالي، يصعب على الناس أن يستوعبوا الفارق الزمني بين “سبارتاكوس” و”ريتشارد الأول”. لم يعد الفرق بين الوهم والواقع ملموساً، بل ربما فقد تجانسه. لمَ يصدق طفل يشاهد فيلماً على التلفاز أن “سبارتاكوس” كان موجوداً حقا، في حين أن “فينيسيوس” من “كو فاديس” لم يكن؟ أو أن “إيفان” المرعب كان حقيقياً، لكن الإمبراطور الطاغية “مينغ” من كوكب “مونغو” هو من نسج الخيال، مع العلم أنهما متشابهان جداً؟
في الثقافة الأميركيّة، يُقابل سحق الماضي على حساب الحاضر بعدم مبالاة ملحوظة. حتى إنه من الممكن مقابلة أساتذة فلسفة يقولون لك إنه من غير المجدي معرفة ما قاله ديكارت عن طريقة تفكيرنا، مع العلم أن ما يثير الاهتمام اليوم هو الاكتشافات التي تسجلها علوم المعرفة في هذا الصدد. ينسى هؤلاء الناس أن علوم المعرفة وصلت إلى حيث هي الآن، بفضل نقاش أطلقه فلاسفة القرن السابع عشر. لقد تخلينا عن استخدام خبرة الماضي لنفهم الحاضر بشكل أفضل.
يظن الكثيرون أن المثل القديم القائل بأن “التاريخ معلّم الحياة” هو مجرّد تفاهة تليق بأستاذ قديم الطراز. لكن ما لا شك فيه أن “أودلف هيتلر” كان ليتجنب الوقوع في الفخ لو قام بدراسة متمعنة في حملة نابليون الروسيّة. ولو درس الرئيس بوش الحروب البريطانيّة في أفغانستان في القرن التاسع عشر، أو حتى حرب ثمانينيات القرن الماضي بين الاتحاد السوفييتي والمجاهدين هناك، لكان نظّم حملته العسكرية على أفغانستان بشكل مختلف.
قد يبدو أن ثمة هوة بين الإنجليز الأغبياء الذين يظنون أن تشرشل كان شخصيّة خياليّة، وكذلك بوش الذي خاض حرب العراق وهو مقتنع أن قواته ستحسم الأمر في ظرف أسبوعين. لكن الأمر ليس كذلك. نحن نتعامل مع نفس الفكرة المبهمة حول الأبعاد التاريخيّة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز“
جريدة الاتحاد