أدب السجون… النزوع للحرية
د. عمار علي حسن
فرضت تجربة السجن نفسها على الكُتاب والمبدعين العرب منذ قديم الزمان، فقد جسد شعراء الجاهلية والإسلام أشكال التعذيب في السجون ومراحله وأساليبه في قصائدهم، ورسموا صوراً واضحة المعالم لشخصيات السجانين ومعاناة السجناء وعذابهم، ولحظات ضعفهم وصمودهم، وهواجسهم وأحلامهم وأفكارهم، وقد تصدى لتناول هذه التجربة الإنسانية القاسية عدد وافر من الشعراء ونظموا فيها قصائد تقطر ألماً، لكن أغلبها فُقد، لأسباب عديدة، أهمها الخوف من السلطة. وكان لتجربة السجن، على مساوئها، أثر بعيد متأصل في لغة وصور شعراء العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام.
ويرصد الباحث عبدالعزيز الحلفي في كتابه “أدباء السجون” تجربة عدد من شعراء العرب الذين ألقت بهم السلطة في غياهب السجن، لأسباب متعددة، وأبدعوا في محابسهم قصائد تتسم بالقوة، وتموج بتفاصيل حياة قاسية مفعمة بالتوق إلى الحرية. لكن موسوعة “العذاب” التي وضعها الباحث العراقي عبود الشالجي، ركزت على زاوية مهمة في هذا المضمار حين أسهبت في شرح كافة أشكال التعذيب الجسدي التي مورست في تاريخ العرب، والتي تعبر عن بشاعة ما كان يحدث للسجناء، منطلقاً من تحديد أنواع السجون لينتقل إلى شرح العديد من أساليب التعذيب في موسوعته. ومن بين هذه الأساليب، الركل واللطم واللكم واللكز والرجم والوطء بالأقدام والنطح والتعليق من اليدين أو من يد واحدة أو من الساق أو الإبط، والتعليق بالكلاليب، ونتف اللحى وشعر الرأس والبدن، وقطع الأطراف وجدع الأنف وسل اللسان وقلع الأسنان وقرض لحم الجسد بالمقاريض، وقصف الظهر ودق المسامير في اليدين والأذنين، والتعذيب بالنار والماء المغلي أو البارد، والتجويع والتعطيش أو إطعام ما لا يؤكل أو الإجبار على شرب سائل غير مستساغ… إلخ.
ومع تواصل القمع صار السجن السياسي أحد الموضوعات الرئيسية للأدب العربي المعاصر، خاصة الرواية السياسية. ونجد أنه لا تكاد تخلو رواية من التطرق، بدرجات متفاوتة، لموضوع السجن السياسي، بدءاً من الأسباب التي تلقي بصاحبها إلى هذا المصير المرير، وانتهاء بما يحدث داخل الأقبية والزنزانات المعدة لتعذيب السجناء، مروراً بالمراحل المرتبطة بدخول السجن، ومنها الترويع والملاحقة والاعتقال والحجز.
ويعود اهتمام الرواية العربية بقضية السجن السياسي إلى عدة عوامل، أولها: أن الأدب ينزع بطبيعته إلى الحرية، ولذا فإن السجن السياسي يمثل تحدياً للمبدع لابد له من أن يجابهه، مسلحاً بالكلمة. وإذا كانت هناك دلالة بدهية للروايات التي جسدت السجن، سواء حين كانت البلدان العربية ترزح تحت نير الاستعمار أم بعد نيلها الاستقلال، فهي بقاء الإنسان العربي دائم الشوق إلى الشعور بالحرية في وطنه، باعتبارها ضرورة لابد من وجـودها.
ويرتبط العامل الثاني بطبيعة الحياة السياسية في العالم العربي، الذي يعد من أكثر مناطق العالم خرقاً لحقوق الإنسان، وصارت بعض أنظمته أشد استبداداً وتعسفاً في معاملة المواطن العربي، وتجلت مظاهره في جميع مناحي الحياة، كما أن أساليبه تطرأ عليها تطورات مستمرة، تسعى في اتجاه إغلاق الطريق أمام أي محاولة لإحداث ثغرة في جدار الاستبداد، الذي جعل السجون هي المكان الأول الذي يلتقي فيه بعض من بيدهم السلطة بمن يعارضونهم.
أما العامل الثالث فيتعلق بخلفية العديد من الأدباء الذين أنتجوا الروايات التي اتخذت من السجن مكاناً وعالماً وموضوعاً حيث نجد أن “السياسة” موجودة في صميم حياتهم بأشكال ودرجات متفاوتة، ولذا فإنهم مروا بتجربة السجن أو كانوا قريبي الصلة بمن مر بها، أو مورست ضدهم أشكال مختلفة من القمع والقهر.
وبصفة عامة فإن الأدب والحرية صنوان يقاومان السجن والسجان، فالحرية هي القيمة السياسية الأكثر ارتباطاً بالأدب، إلى درجة أن بعض النقاد يعتبرون الأدب والحرية مترادفين، من منطلق أن رسالة أي كاتب يجب أن تكون توطيد أركان الحرية، من ناحية، كما أن العمل الإبداعي فعل حر، وممارسة الحرية تقودنا، شئنا أم أبينا، إلى سلوك إبداعي، من ناحية أخرى.
وحتى لو كان الأديب ملتزماً بقضية أو أيديولوجية ما، فإن هذا لا ينبغي، بأي حال من الأحوال، أن ينتقص من حريته، بل إن عليه أن يكتب بحرية، في ضوء تعدد مفهوم الحرية من بيئة اجتماعية لأخرى، حسب ما تفرضه الأديان والعادات والتقاليد والقوانين، وفي إطار القيود الطبيعية المفروضة على العمل الأدبي، مثل الأشكال الثابتة (رواية ـ شعر ـ مسرحية.. الخ) والإيقاع والعروض بالنسبة للشعر، وقوانين ملاءمة الذوق، والموضوعات التي تتضمنها النصوص. ومن هنا نجد أن سارتر، وعلى رغم مناداته بالالتزام، لم يتجاهل الطبيعة الخاصة للأدب، لذا لم يفصل الالتزام عن الحرية، معتبراً أن الكتابة طريقة من طرق التعبير عن الحرية، أو على حد قوله: “إن حرية الاختيار قسمة مشتركة بين الكتاب جميعاً، ملتزمين وغير ملتزمين، وهي أساس المطالبة بالالتزام”.
ولا تقتصر ممارسة الحرية على مرحلة الكتابة الأدبية فقط، بل تمتد إلى تلقي العمل الأدبي أيضاً، بدءاً من حرية اختيار الكتاب عبر الشراء أو الاستعارة، إلى حرية تفسير النص، مروراً بحرية اختيار الجزء الذي تتم قراءته، وحرية إدخال النص في نسق إبداعي آخر، قد يكون فيلماً سينمائياً أو عملا أوبرالياً، أو صوراً متحركة. لكن تعدد المتلقين قد يمثل قيداً على حرية المبدع، حيث قد يضع الأخير القراء، نصب عينيه، حين يشرع في الكتابة، خاصة إذا كان المتلقي هو الرقيب السياسي، أو الرقيب الداخلي، أو حتى المتلقي الضمني، الذي يتخيله، أو يستحضره المؤلف.
كما أن طبيعة النص تحدد مقدار الحرية التي يحصل عليها المتلقي. وتنقسم آراء النقاد في هذا الشأن إلى اتجاهين، فبعضهم يرى أن النص المركب، متعدد الأبعاد، متشابك الدلالات، يثير روح التفاعل في نفس المتلقي، ويجعله كائناً حراً في التعامل معه، بينما يبدو النص ذو البعد الواحد عملا مستبداً لأنه يقضي على إمكانية المساءلة والاعتراض لدى القارئ، ولذا فإن النص الملتبس الملغوم هو أكثر احتراماً للقارئ لأنه يمنحه حريته ويدعوه للخروج من سلبيته وقصوره، ومن ثم القراءة بعقل منفتح.
وفي المقابل هناك من يرى أن المسافة التي يضعها الكاتب بينه وبين القارئ تفترض جهل الأخير، ولا تعدو كونها نوعاً من التعالي يمارسه الكاتب ليحصل على شرعية مزعومة لدى القارئ، الذي يشعر إزاء النصوص الغامضة، سواء في شكلها أم في مضمونها، بالضآلة. وبالإضافة إلى هذا فإن الأدب، باعتباره فناً لغوياً، قد يصبح سلطة لامرئية، وأداة للهيمنة، من قبل شخص أو فئة أو طبقة فيما يعرف بالعنف الرمزي، وقد يجد الأديب نفسه مضطراً، أو يتطوع هو، بتسخير نصوصه لخدمة سلطة معينة، ومن ثم تصبح حريته منقوصة.
ومع الأخذ في الاعتبار كافة هذه القيود التي تحاصر الأدب، فإن الفن الروائي يبدو في شكله الحالي هو أكثر الأنواع الأدبية نزوعاً للحرية، فبعد أن كان القص التقليدي يعطي أبطاله فرصة محدودة للتعبير عن أنفسهم، حيث كان صوت المؤلف يعلو على كافة الأصوات، وتقبض يده “الأبوية” على مختلف المواقف داخل النص، أصبحت الشخصيات الروائية أكثر قدرة على التعبير عن أنفسها، بعد أن تسربت النغمة الاحتمالية إلى التناول الروائي، وتعددت الأصوات داخله، من خلال تشييد اللغة، عبر الحوار الخالص الصريح، والمزج بين لغتين لفئتين اجتماعيتين مختلفتين. ودخلت إلى النص الروائي جميع اللهجات الخاصة بفئات اجتماعية تنتمي إلى مختلف المهن وكافة الأوساط والطبقات، وكل المنظورات الأدبية والأيديولوجية، لتصير مرونة الرواية هي المنبع الذي يؤمِّن للأديب تلك الحرية الضرورية له إذا أراد أن يصور حياة البشر تصويراً كاملا.
جريدة الاتحاد