المستحيل الرابع
صبحي حديدي
أين حامل جائرة نوبل للآداب، للعام 2002، الروائي المجري ـ اليهودي إيمري كيرتش؟ وما خلا رواية يتيمة، بعنوان ‘تصفية’ صدرت سنة 2003، لماذا يبدو مقلاً منزوياً شبه صامت، رغم أنّ جائزة الأدب الأرفع في العالم كانت كفيلة بأن تستحثه على مزيد من العطاء؟ وموضوعات أدبه، التي أطرتها الأكاديمية السويدية لأنها ‘كتابة تُعلي شأن تجربة الفرد الهشة في مواجهة عشوائية التاريخ البربرية’، هل جفّت ينابيعها واستنفدت أغراضها؟ وكيف يحدث هذا وهو أديب ‘يستكشف إمكانية استمرار العيش والتفكير كفرد في حقبة يزداد فيها اكتمال إخضاع البشر لقوى اجتماعية’؟ أليست خصوصية أعماله في أنها ‘تعود بشكل مطّرد إلى الحدث الحاسم في حياته: الفترة التي قضاها في أوشفيتز، إلى حيث اقتيد وهو فتى يافع خلال الإضطهاد النازي ليهود هنغاريا. وأوشفيتز بالنسبة إليه ليست واقعة استثنائية توجد، مثل كائن غريب، خارج التاريخ الطبيعي لأوروبا الغربية. إنها الحقيقة القصوى للإنحطاط الإنساني في الوجود الحديث’، كما نصّ بيان الأكاديمية.؟
وإذا كان صامتاً، أو يكاد، في حقل الكتابة الروائية، فهل هذه هي أيضاً حاله في ميادين الكتابة الأخرى؟ ليس تماماً، إذْ أنه ـ في التعليق على الشأن اليهودي الكوني، ما قبل الهولوكوست وما بعده وفي سياقاته، كما في التصدّي للدفاع عن الدولة العبرية بصفة خاصة، بصدد سياساتها اليومية قبل وجودها كأرض وُعدت لليهود وحدهم ـ لا يُعدّ في صفّ الصامتين البتة، بل العكس هو الصحيح.
قبل أشهر، وفي إطار ندوة دعت إليها أكاديمية الفنون في برلين، وضمّت عدداً من الكتّاب والمفكّرين كان بينهم الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس والروائي والمسرحي النيجيري وولي سوينكا، كانت سيول كيرتش اللفظية قد بلغت الزبى: في التباكي على أوروبا لا تبرأ أبداً من نزوعات العداء للسامية، ولكنها أيضاً لا تقتدي بأفضل برهة في تاريخها، حين شنّت أثينا الحرب على… بلاد فارس!
بعد مجازر غزّة، أو بالأحرى بعد كلّ ما ارتكبت إسرائيل من فظائع لا تقلّ عن تلك التي تُسند إلى النازية في أوشفيتز وسواها، يظلّ كيرتش مرابطاً عند موقفه القديم الراسخ، الذي عبّرت عنه مقالته الشهيرة ‘القدس، القدس’، والتي كتبها في ربيع 2002 أثناء وجوده في فلسطين المحتلة بدعوة من مؤسسة ‘ياد فاشيم’. بعض أفكار تلك المقالة أعلنت أنّ كلّ مبادرة ضدّ إسرائيل هي عداء للسامية، بالضرورة؛ وأنّ التمييز بين العداء لإسرائيل والعداء للسامية غير ممكن، وغير أخلاقي؛ وأنه محظوظ اليوم لأنّ نجمة داود مرسومة على دبابة إسرائيلية، في رام الله، وليست معلّقة على صدره كما كانت سنة 1944!
ولا يأتي كيرتش على ذكر الفلسطيني إلا في هيئة انتحاري يفجّر نفسه مستلذاً، في حين أنّ أهله يقبضون من صدام حسين مبلغ 25000 دولار، ثمن انتحاره. ولهذا فإنّ مقارنة حياة الفلسطيني بما عاناه اليهود على يد النازيين أمر ‘فاضح’، خاصة حين تأتي المقارنة من الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو، زميله في نوبل الآداب: ‘أسوأ من المقارنة كان جهل ساراماغو أنّ المفهوم الذي تمثّله مفردة أوشفيتز اكتسب معنى ثابتاً منذ زمن طويل، في الإجماع الثقافي الأوروبي’، كتب كيرتش. جدير بالذكر، مع هذا كلّه، أنه قضى في المعتقل النازي (أوشفيتز ثم بوخنفالد) سنة واحدة ليس أكثر، 1944 – 1945، حين كانت الفظائع النازية بحقّ اليهود قد أخذت تنحسر عملياً مع دنوّ هزيمة الرايخ الثالث. والأكاديمية السويدية اعتبرت هذه السنة اليتيمة بمثابة تجربة مديدة عميقة وحافلة بالتجارب، خصوصاً في التقاط جوانب الألم الإنساني وتمثيلاته، وذلك رغم أن كيرتش نفسه لا يزعم هذا الشرف، أو لا يحيله إلى الفترة القصيرة التي قضاها في المعتقل.
غير أنّ صمت كيرتش في الرواية، مقابل حميّته في كتابة المقال، يذكّر من جديد بأنه ليس روائياً فقط، بل هو أوّلاً كاتب يهودي ملتزم، إذا جاز القول، لم يتوقف يوماً عن ممارسة واجباته ضمن هذا التعريف لنفسه ولمسؤولياته، ولم يتلكأ في التعبير عن مواقفه حول رفض المقارنة بين عذابات الهولوكوست وأيّ عذاب بشري؛ وفي إعلان ‘الإنتماء’ إلى هوية يهودية – هولوكوستية، ولغة يهودية هولوكوستية، وأدب يهودي هولوكوستي؛ وفي قبول تضييق هذه التحديدات، بحيث لا تقتصر في نهاية الأمر إلا على جماعة (لكي لا نقول ‘فئة’) واحدة من البشر، تحتكر صفة الضحية الكونية. وهو يقول، بوضوح يُشكر عليه في الواقع: ‘من أجل أن أدمج كينونتي كيهودي في كينونتي ككاتب، توجّب عليّ أن افكّر في يهوديتي تماماً كما أفكر في خلق قطعة فنية، والذهاب بها إلى الكمال: أي أن أفكر بيهوديتي كواجب ومهمة، كقرار بين كمال الوجود وإنكار الذات’.
‘ليس للهولوكوست لغة، ولا يمكن أن تكون له لغة’، يقول كيرتش، الذي يكتب باللغة الهنغارية لأنّ ذلك يتيح له أن يدرك ‘استحالة الكتابة’، أو احتباس الرواية مقابل تدفّق حيثيات تأليه إسرائيل. وهو يذهب إلى فرانز كافكا، لكي يعيد اقتباس مستحيلات الأخير الثلاثة (مستحيل التوقف عن الكتابة، ومستحيل الكتابة باللغة الألمانية، ومستحيل الكتابة بغير اللغة الألمانية)، ربما لكي نرجّح نحن أنّ كيرتش رهينة مستحيل رابع: الكفّ عن استنزاف، وإساءة تصنيع، ذاكرة الهولوكوست!
خاص – صفحات سورية –