الصراعات الضارية عنوان المستقبل
سمير الزبن
في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، بشرنا فرنسيس فاكوياما الاميركي من أصل ياباني، بأن نهاية الحرب الباردة، هي نهاية التاريخ. واليوم بات من الواضح أن البشارة من بين بشارات كثيرة كانت كاذبة، حتى أن صاحبها تراجع عنها في ما بعد. فالصراعات الشديدة لم تنته، ولم يدخل العالم في مرحلة طويلة من حل خلافاته بالطرق السلمية، فانفجرت حروب الهوية في أفريقيا وآسيا وحتى في البلقان وسط أوروبا. وفي بداية الألفية الجديدة على أثر أحداث 11 أيلول 2001 أعلنت الولايات المتحدة، القطب الوحيد في العالم والمنتصر في الحرب الباردة عبر إدارة جورج بوش الابن، الحرب على العالم أجمع تحت عنوان «الحرب على الإرهاب»، ما خلق توترات لا سابق لها. رغم ذهاب إدارة جورج بوش وقدوم إدارة بارك أوباما، من الصعب اليوم تصور أن العالم قريب من الدخول في علاقات دولية يكون أساسها السلام، ومن الواضح أن الصراعات التي يمكن أن تأخذ طابعاً دموياً ما زالت هي الأساس الذي يحكم العالم، اليوم، وفي المستقبل. والسنوات المقبلة سوف تكون مرحلة تحولات عميقة في المنظومة ـ العالم الذي نعيش فيه، ولا يشك بأن العالم سيشهد في أرجائه صراعاً متواصلاً وضارياً ومجهول النهاية، وتبشرنا الأزمة العالمية التي تجتاح العالم بأن عشرات الدول التي تُفقر سريعاً هي عرضة للاضطرابات الاجتماعية خلال الفترة القريبة المقبلة، وليس من المستبعد لهذه الدول أن تتحايل على صداماتها الداخلية بتصدير هذا العنف الداخلي إلى الخارج من خلال حروب مع دول مجاورة لوقف التداعي الداخلي والسيطرة عليه.
في القرون الأربعة المنصرمة بذل مفكرو أوروبا الكثير من الجهد في البحث عن أفضل السبل لزيادة ثروات ممالكهم ودولهم، وتمحورت جميع النقاشات حول إيجاد أفضل الطرق لإدخال الثروات إلى خزينة الدولة. ومنذ ذلك العهد كان بديهياً أن أحد أكثر المسائل الأيديولوجية أهمية، التي لا يمكن تجاوزها في الاقتصاد الرأسمالي بأنه على كل دولة الوصول إلى مستوى دخل وطني مرتفع. وكان يُعتقد أن هذه النتيجة ثمرة عمل واع وعقلاني وهي حقيقة التقدم الإنساني والنظرة الغائية للتاريخ الذي كانت تجسده.
وفي مطلع القرن العشرين، وتحديداً العام 1917 الذي كان انعطافاً أيديولوجياً في تاريخ العالم الحديث. ففي هذا العام ألقى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون خطابه الشهير الذي أعلن فيه الحرب على ألمانيا، وقال فيه «يلزم العالم أن يكون مكاناً آمنا للديموقراطية» وفي العام ذاته اقتحم البلاشفة قصر الشتاء باسم الثورة العمالية، ما ولد ثنائية أيديولوجية، وضعت الويلسونية في مواجهة اللينينية. ولكن المسألة الأساسية التي سعت كلتا الأيديولوجيتين إلى حلها هي إدماج أطراف المنظومة التي تسيطر عليها في مصالحها، ومن أجل إنجاز هذا الإدماج اعتمدت الأيديولوجيتان طريق «التنمية الوطنية»، وأن خلافهما كان بخصوص الطريق السليم لبلوغ الهدف. وعلى هذا الأساس نمت الويلسونية واللينينية في مذهبين متنافسين من أجل كسب وفاء شعوب مناطق الأطراف، ولكن كانتا تشددان في دعايتهما على ما يفرق بينهما لأنهما كانتا في حالة تنافس. وينبغي عدم المبالغة في الاختلاف، فهو كان يُخفي من الذي سوف يأخذ عملياً زمام قيادة النضال من أجل تقرير المصير؟ لأن هذه النقطة كانت تؤثر على تحديد سياسات هذه البلدان ما بعد الاستقلال. ولكن الحقائق الداخلية تبين أنه سواء في ميدان السياسة أو في ميدان الاقتصاد كان الاختلاف أقل بكثير مما تقول به النظرية أو الدعاية لدى الطرفين. وكان الإيمان المشترك في أن «التنمية الوطنية» ليست ممكنة فحسب، بل ذات أهمية ملحة أيضاً، حيث عرفت في كل مكان كما لو أنها العملية التي سوف تسمح أخيراً «باللحاق وتدارك التأخر» الذي تعانيه دول الأطراف، ويكفي البدء بتنفيذ التدابير السياسية السليمة من قبل الذين يمسكون بزمام أمور الدولة حتى تتحقق المهمة. وغدت التنمية بعد عام 1945 الشعار الفكري الجديد في جامعات العالم، وكان أن أعد في سنوات الخمسينيات نموذج ليبرالي «نظرية الحداثة»، كي يلاقي ويقف في وجه نموذج ماركسي معارض وواعظ بمعارضة التبعية، أعد في الستينيات، وباتت «النزعة التنموية» شعار اللحظة، وحظيت بإجماع عالمي على شرعيتها وضرورتها التي لا مفر منها.
صدمتان كانت بانتظار هذا الإجماع، الأولى ثورة العام 1968، والثانية كانت الركود الاقتصادي العالمي لسنوات السبعينيات وصولاً إلى التسعينيات. فثورة 1968 خرقت الغشاء الأيديولوجي، وظهر الجرح المفتوح في الاستقطاب شمال ـ جنوب فاغراً فمه بكل اتساعه. ولم تستطع مقولات «السوق» التي اعتبرت الوصفة المثالية للخروج من التردي الاقتصادي لبلدان الأطراف أن يُخرج البلدان التي اتبعته من مأزقها. وبعد كل حساب إن الغالبية العظمى من بلدان الأطراف التي التزمت السوق لم تخرج من أزمتها إلى أوضاع أفضل.
خلال صراع الثنائية الويلسونية ـ اللينينية انتصر حق الأمم في تقرير مصيرها، فخلال هذه الفترة نُزع الاستعمار عن جزء كبير من العالم. ولكن الإشكالية الراهنة الأكثر إلحاحاً التي ولّدها ذلك الانتصار، وهي كيف يمكن إغلاق صندوق (صندوق باندورا) القوميات المتناهية في الصغر، حيث كيانات أصغر تطالب بحقها بالوجود بوصفها شعوباً تستفيد بالمحصلة من حق تقرير المصير. كما أن ورقة التوت قد سقطت عن إمكانية «التنمية الوطنية» التي اعتمدت على مدى عقود سابقة، ولم تستطع تهاليل وهتافات انتصار الديموقراطية عام 1989 أن تغطي لزمن طويل غياب أية آفاق جادة لتحول اقتصادي للأطراف داخل إطار اقتصاد العالم الرأسمالي.
إذا كان عصر الهيمنة الأميركية على المنظومة الدولية، وضع العالم الثالث في أوضاع صعبة، فإن الفترة المقبلة ستكون أكثر صعوبة وأشد على دوله، خاصة أن الصراعات والاضطرابات المقبلة ستكون متولدة من اليأس أكثر من كونها متولدة من الأمل بالمستقبل. وإذا كان من الصحيح أن العالم الثالث قد كسب المعركة السياسية الرئيسة، ووصلت عملية نزع الاستعمار كل مكان في الستينيات إلى ذروتها، ولكن أتى توقيت المرحلة الثانية «التنمية الوطنية»، التي فشلت فشلاً ذريعاً.
تقود المتغيرات التي يشهدها العالم اليوم إلى الدخول في طور ثنائية قطبية أكثر راديكالية مما ظهر في السابق، يمر كما هو واضح بإعادة هيكلة الشمال، مما يولد تداعيات تصيب الجنوب. فالقسمة الثنائية للسوق العالمية، تعطي للشمال القدرة على تصدير أزمته إلى الجنوب، فهو في العقود الأخيرة أعاد هيكلة اقتصادات الجنوب لتكون في خدمة اقتصادياته، ولأن الفقاعة التي انفجرت في الشمال ستجد طريقها إلى الجنوب عبر الأواني المستطرقة الاقتصادية، فإن الجنوب سيدفع الثمن أضعاف ما دفعه الشمال، والمسألة مسألة أشهر لا سنوات. لذلك سيشهد الجنوب منحى هابطاً من المؤشرات الاجتماعية بعد المكاسب التي تحققت في العقود الماضية، تجعل أوضاع هذه البلدان أكثر صعوبة. ففي الوقت الذي نجحت فيه هذه الدول في الحصول على تقرير المصير، فشلت في بلوغ الهدف الآخر وهو التنمية الوطنية. وأمام هذه الظروف يجد الجنوب نفسه أمام انهيار اقتصادي، ويجعل السنوات المقبلة أكثر ظلمة، يقوده هذا الانهيار إلى أوضاع أسوأ. وفي ظل منظومة تفضي إلى عدم التكافؤ بالمعنى الاقتصادي وتعاني أوضاعا خانقة. وفي ظل صراع متوقع لبداية منافسة جديدة من أجل الهيمنة على العالم بين المراكز المتقدمة. ويترافق هذا في ظل اختفاء الأيديولوجيا بوصفها المبرر الأخير لنزاعات الدول، ما يفتح الباب أمام تدخل الدول القوية تحت عنوان التدخل الإنساني الذي يبدو أنه سيكون صيغة القرن الواحد والعشرين. كما أن آليات الصراع على الهيمنة ستعمل على نشر حروب جنوب ـ جنوب، ولكن هذه النزاعات لن تشهد حلاً جدياً، والتدخل الإنساني لن يتجاوز إرسال وحدات عسكرية هنا وهناك، ولكن في أغلب الأحيان سيكتفي العالم بدور المتفرج السلبي على صراعات الجنوب التي يبشرنا كل شيء بأنها ستكون مرعبة.
([) كاتب فلسطيني
السفير