في تداخل الحزب والدولة
فالح عبدالجبار
العلاقة بين الاحزاب والدولة في عالمنا العربي غرائبية، متناقضة، واحياناً فاتكة. في دولة الحزب الواحد يذوب الحزب في الدولة، او تبتلع الدولة الحزب، فيصيران مثل توأم سيامي. يعيش الواحد أو يموت بعيش أو موت الآخر.
أما في الدولة التعددية، فالمفترض وجود مسافة معينة، تحتفظ فيها المؤسسة المسماة حزباً بقدر من التميز عن المؤسسة الاخرى المسماة دولة.
لكن نجاح الدولة يجير في حساب الحزب، ونجاح الحزب يصب في الدولة. هذا الاحتكار المزدوج ولّد في تاريخنا المعاصر دولة صوانية، جلمودا سياسيا، لا مجال فيه للتعدد. الخلاف محرم. والاعتراض مدجن. ثمة مركز واحد للدولة، ورأس ايديولوجي واحد موحد، يخضع الكل لنواظم صارمة. فالاخلاص للجماعة، والولاء للفكرة، وخضوع الاقليات للاكثريات، والتنفيذ غير المشروط، تحيل الفرد في هذه ال آلة إلى لا شيء، لكن الجماعة، والفكرة، والاقليات، والطاعة، والتضحية، هذه الاقانيم المجردة، تصبح، بتحويل بسيط، غير مرئي أحياناً، اخلاصا لفرد، وولاء لديكتاتور، يشطر الجماعة الى قائد وقطيع.
هذه النواظم، والرتب والمراتب تكاد تميز كل تنظيـــم اجتماعي: نحن نولد مع هذه النواظم في الجماعة القرابية، ونتقبلها طوعاً فــــي جمعيــة او حزب، لكننا نخضع لها خضوعاً في مؤسسات الدولة الحديثة، لا لسحر فيهـــا، بل لأنها مؤسسة على مبادلة ضرورية هـــي مبادلة الخدمات مقابل وسيلة العيش الكونية: المال، وحين يندمج الاثنان، الحزب والدولة، يفقد الاول عذريته الطوعية، وتغتذي مركزيتـــه الارادية بمركزية الدولة القسرية، ينمو الغول الجديد، غول حزب الدولة ودولة الحزب. الرفيق، الزميل، المناضل، الرسالي، المجاهد، يتحول الى بيروقراطي. لم يعد في شرنقته الجديدة يواجه التضحية بحريته الشخصية (خطر الاعتقال)، او أخطاراً اعتى (الموت تحت التعذيب)، او لربما يقدم تنازلات اصغر (تكريس اوقات فراغه للعمل الجمعي). والمكافأة من كل هذا او ذاك سلع معنوية، كالتقدير والثقة، وبالطبع يتبوأ مراكز عليا، اعترافاً بالجدارة. وترافق هذه السلع مراتبية رمزية، هي مجرد القاب، لها مفعول المراتب المادية (النجوم على اكتاف الفكر، والنياشين على صدورهم).
ما أن يدلف الحزب دارة الدولة ويغرق فيها، حتى تنقلب المخاطر، والمكافآت بما يشبه السحر. فالمكافآت تكتسب صلابة مادية، رواتب وامتيازات الدولة. والمخاطر تتجرد عن شخوصها السابقين (البوليس السري )، لتتجسد في خطر فقدان الحظوة عند «الفوق»، وتصبح التضحية بكرامة الرأي مثلاً اعلى.
فهذه الكيانات (حزباً أو دولة)تعيش في سديم من السرية، والتكتم ن حيث تتخذ القرارات في غرف مغلقة، وأحياناً تدور في جمجمة فرد اوحد، هناك حيث لا مصالحات ولا تسويات، ولا مرافعات، ولا استئنافات. وتسري في عروق كائن الحزب – الدولة كل ضروب الازدراء، ازدراء المراتب العليا للدنيا، وازدراء هذه الاخيرة لمجتمعها، في تفريغ مستمر لشحنات الاحتقار الذي يعمم مهانة جمعية لا مثيل لها تسبغ على المؤسسات العلنية كل ضروب الاجماع الزائف. اجماع انتخابي على الرئيس، واجماع برلماني على البرامج والدساتير، واجماع على الاجماع البارد.
تتكرر هذه الصورة في تجارب تاريخية سحيقة، مثلما تطل علينا في تجارب معاصرة من المانيا النازية، الى روسيا الستالينية، ومن العراق البعثي، الى كوريا الكيم إيل سونغية، الى الصين الماوية.
وحين تسنح فرصة لكسر صوان الحزب الواحد، والدولة الواحدية، يحتفظ الكثير من الاحزاب بتقاليد الماضي، ويتكرر النموذج بصيغ جديدة تحوي الكثير من مخلفات الماضي، خصوصاً في حالة بناء اجهزة دولة جديدة من فراغ، او احلال اجهزة جديدة محل القديمة. اول ما يطالعنا هو النموذج المتكرر (في الجزائر وفلسطين): تحويل الحزب (او الاحزاب)برمته الى جهاز مدني، عسكري، على قاعدة مكافأة « المناضل» والاعتماد على ولائه المجرّب.
وفي ظروف المباراة (في حال وجود اكثر من حزب )تصاب الاحزاب بحمى مزدوجة: توسيع الصفوف وتوسيع المنافع. في العراق وصل تعداد بعض الاحزاب اليوم حداً مميتا: نحو ربع مليون او اكثر. ويتحول الكم الى عبء. فلا بد لهذا الجيش من الاعضاء الجدد من منافع للاغتذاء، رواتب حزب، او، وهذا هو الاسهل، وظائف حكومية فيتحول الجهاز من اداة سياسية للافكار والتعبئة وجمع الخبرة، الى وكالة لصيد المنافع. ويغدو التضخم المفرط في الاعداد، مثل الشحوم عبئاً على الحركة. فلا احد يستطيع، في ظروف الورم المتنامي، ان ينظم جمع ومعالجة المعلومات والمطالب، وتنقلب الضخامة الى كابح يبطىء سير الآلة كلها.
هناك انقلاب آخر مجتمعي. فشرعية احزاب العمل السري، او احزاب ما قبل الدولة، تعتمد على الأمساك بالرموز الكبرى (دينية، او قومية او طبقية)، على سجل التضحيات الطوعية، على القدوة في احتمال الاخطار واجتراح المآثر، ومواجهة الاهوال. فالجماعة تعلي شأن الغيرية، والشجاعة، مثلما تحترم التضحيات: بسالة البيشمركه، او كبرياء السجين السياسي امام سياط جلاديه، او جرأة الداعية في المجاهرة بالرأي في جمهوريات الصمت.
لكن هذه الخصال التي يوقرها الجمهور ويتمسك بها كمنظومة قيم للمفاضلة، تفقد كل بريقها لحظة صعود الحزب الى الدولة، واندماجه بها. فالمناضل الرسالي، المضحي صدقاً او زوراً، يتخذ اهاب بيروقراطي. ولم يعد لتاريخه القديم من معنى. فهو الآن امام وضع جديد يستدعي شرعية جديدة تقوم على بناء وتوليد الرضا. واذا كان التعبير مفتوحاً، فان الجماعة تصدر حكماً عبر صناديق الاقتراع. وهذا الحكم ليس نهائياً، ولا قاطعاً. وانفتاحه يعني تكراره، وتحوله، نحو الاحسن او الاسوأ.
لا تعود الشرعية الجديدة قيماً مجردة، بل حقائق صلدة: بطالة، تضخم، فساد اداري، تدهور اقتصادي، خروقات للقانون، نهب وفساد اداري، احتكار المنافع، تقييد الحريات، باختصار يرى المجتمع الى الاداء ويعاقب او يكافيء.
وقد شهدنا مكافآت وعقوبات في الانتخابات الفلسطينية التي ارسلت رسالة قوية الى قادة الآمال التحررية. كما رأينا مؤخراً (في العراق) رسالة عقاب شديدة لعدد من الاحزاب والزعامات.
ليس من المبالغة القول ان هناك رسائل عقاب أشد في رحم المستقبل.
ولعل افضل الطرق لتجنب هذا المثال تخفيف شحوم الاحزاب الحاكمة، فالضخامة ليست نجاحاً، وافضل الطرق بناء معمار الاجهزة بالتكنوقراط لا بالمناضل، بفتح طرق الصعود الاجتماعي امام المعرفة الاكيدة لا الولاء المريب.
الحياة