سبيل الخروج من مربع الأزمة
أحمد شهاب
من المؤكد أننا نعاني الآن خللا عميقا على مستوى بناء المفهوم الوطني، وهو العلة الحقيقية التي تقف خلف توالد الأزمات السياسية في مدد قصيرة نسبيا من عمر تجربة سياسية، كان من المتوقع والمأمول لها أن تتقدم بخطى أسرع نحو التشكل، ومن ثم الاستقرار الديمقراطي، لولا تحويل البعض النتوءات الصغيرة إلى أورام خبيثة سريعة التكاثر والانتشار.
فبينما يميل بعض التيارات إلى اعتبار الوطن من حقوقه الخاصة فقط، ولا يحق لأحد سواه العمل على تحقيق طموحات عالية الشأن أو بعيدة المدى، يعمد البعض الآخر إلى تقييد حق الذين ينتمون إلى الأقليات الدينية أو القبلية من بسط أيديهم على صلاحيات رسمية، أو شبه رسمية داخل مؤسسة الدولة، وقد تعمقت صور التفكير الفئوي في الوطن بعد نجاح المساعي التي بذلتها، ولاتزال، بعض الأطراف على مدى عقود طويلة لحرمان فئات وطنية عريضة من التمتع بمميزات الهوية الوطنية، وتقسيم البلد إلى درجات في مستوى الانتماء.
الخلل في المفهوم الوطني أعقد مما نتصور بكثير، إذ يميل عدد غير قليل من المواطنين إلى الاستنجاد بالقبيلة، أو المذهب لتحصيل أكبر قدر ممكن من الحقوق والمكاسب الخاصة، بما يشير إلى تضعضع مفهوم الدولة في خارطتهم الذهنية، إن القبيلة أو المذهب في عرفهم هما الجهة الوحيدة القادرة على إنصافهم وتمكينهم من حقوقهم كاملة، بينما تعد الدولة في نظرهم جبهة مقابلة تقف ضد احتياجات الناس ورغباتهم.
ويؤكد ذلك لجوء واحتماء عدد كبير من المواطنين بقانون آخر غير قانون الدولة، بل والاستعداد للوقوف قبالة القانون إذا تعارض مع مصالحهم الخاصة، وما الأحداث الأخيرة التي جرت على خلفية تصريحات انتخابية عالية النبرة تستهدف أمن المجتمع وتهدد استقراره إلا إشارة بالغة على ذلك. وأظن أن فكرة الانتخابات الفرعية القبلية أو الطائفية في الأساس تعكس حالة الاستعداد النفساني لكسر القانون العام لمصلحة القانون الخاص بالقبيلة أو الطائفة، وهو مؤشر صارخ على تزعزع مكانة الدولة في نفوس المواطنين.
من غير المعقول بطبيعة الحال أن نصرّ على استخدام الحلول الأمنية للحد من التجاوزات وإعادة هيبة الدولة، فالعنف لا يولد إلا المزيد من العنف، والإجراءات الأمنية تواجه تلقائيا بترتيبات سرية وتكتيكات مضادة، بما تمثله السرية من خطر صارخ على النظام العام في الدولة، لكن ينبغي أن يواجه التجاوز الوطني، بثقافة العدالة الوطنية وفق قاعدة تكافؤ الحقوق والواجبات، بحيث تندرج مختلف الشرائح بتنوعاتها وتعدد انتماءاتها في النسيج الوطني كجزء من الحل وليس كجزء
من المشكلة.
إن شيوع الاستقرار، وفك الحياة السياسية من توالي الأزمات، رهن بتوافر هوية وطنية جامعة تنظر إلى الفرد بصفته الوطنية، وليس بصفته المذهبية أو القبلية، ويأخذ مكانته، باعتباره ينتمي لهذا الوطن وأنه عضو أساس فيه، لا بصفته عضوا في قبيلة واسعة، أو طائفة متنفذة، هوية تكفل لكل عضو فيها تكافؤ الحقوق والواجبات مع غيره من المواطنين، ولا تعطي الحق لأي عضو بإلغاء عضوية الآخرين، أو التعدي عليها.
ولا مفر للخروج من الأزمة
إلا الوطن كهوية وإطار جامع لحقوق الكل راهناً ومستقبلاً وانطلاقاً من دستورية الدولة وتطوير العملية الديمقراطية وتحديثها كلما دعت الحاجة.
كاتب من الكويت